وبينما يرسل زيوس هيرميس لتحرير أوديسيوس، نجد أثينا تنطلق بسرعة إلى إيثاكا متخفية. (2) «استضافة مينتيس/أثينا» (1، 96-444)
بعد استهلاله ذي الطابع الأخلاقي، يستهل هوميروس قصته في قاعات الطعام المظلمة لقصر أوديسيوس على جزيرة إيثاكا، حيث الشبان الأجلاف يحتسون الخمر، ويزنون، ويستمعون إلى الشعر. وفي خضم «الفضيحة الكبرى» يظهر غريب غامض. إن القصة على وشك أن تبدأ.
إن مينتيس، ذلك الغريب الذي على الأبواب، هو في الحقيقة أثينا متخفية. في «الإلياذة» نجد آلهة كثيرين لهم أدوار بارزة، ولكن في «الأوديسة» يلعب ثلاثة فقط أدوارا مهمة؛ أثينا حامية البطل، وزيوس حامي القانون الأخلاقي، وبوسيدون مضطهد البطل، الذي يمثل البحر وكل أخطاره الحقيقية والرمزية. يمارس مينتيس/أثينا تجارة المعادن الدولية «أبحر عبر البحر المظلم مثل لون الخمر إلى أقوام كلامهم غريب، في طريقي إلى مدينة تيميسي من أجل النحاس، وأحمل معي الحديد اللامع.» (الأوديسة، 1، 183-184). إن موقع مدينة تيميسي غير مؤكد، ولكن لعلها كانت في جنوب إيطاليا، حيث كان العوبيون يبحرون في أوائل القرن الثامن قبل الميلاد للحصول على المعادن الخام. عرف مينتيس أوديسيوس في الأيام الخوالي قبل حرب طروادة. ويتساءل عما إن كان من الممكن أن يكون تليماك هو ابن السيد، ويجيبه تليماك قائلا:
أمي تقول إنني من صلبه، ولكني لا أعرف؛ إذ لم يعرف أي رجل قط من تلقاء نفسه نسبه. إنني أتمنى لو كنت ابن رجل سعيد الحظ، تبلغ منه الشيخوخة مبلغا وهو بين ممتلكاته. ولكن، نعم، يقولون إنني من نسل ذلك الرجل الذي كان أتعس الرجال الفانين حظا. ما دمت قد سألت. (الأوديسة، 1، 215-220)
تقوم الشخصية الأدبية على الحاجة الدرامية؛ أي ما تبتغيه الشخصية، وعلى المنظور، أي كيفية رؤية الشخصية للعالم. يؤسس هوميروس، دفعة واحدة وفجأة، حاجة تليماك الدرامية؛ وهي العثور على أبيه، ومنظوره الذي يتمثل في كونه مراهقا كئيبا يشك حتى في نسبه إلى أبيه.
يهول مينتيس/أثينا ما يجري في البيت، ويسدي لتليماك نصيحة قوية بشأن ما يجب عليه فعله لاستعادة النظام. يجب أن يطرد الخطاب الطامعين، ثم يبحر إلى مدينة بيلوس على البر الرئيسي، ثم يمضي إلى إسبرطة التماسا لأي أخبار عن مكان وجود أبيه. بالطبع يعرف مينتيس/أثينا تمام المعرفة مكان أوديسيوس، وفي الواقع لن يعرف تليماك شيئا، ولكن الغرض من الرحلة هو إخراج تليماك من عالم الصبية إلى عالم الرجال. تمثل قصة تليماك أول مثال في العالم الأدبي على ما يدعوه الألمان
Bildungsroman ، أي «رواية التنشئة»، أو قصة البلوغ، وهي القصة التي تتناول كيف بلغ صبي أشده وصار رجلا. ومنذ «الأوديسة»، و«رواية التشكيل» تعد نوعا قصصيا رئيسيا في الأدب الغربي.
يترك مينتيس/أثينا المنشد الملحمي فيميوس تيربياديس (والذي لاسمه مدلول على نحو «التراث السردي الذي يقصد به التسلية») ينشد عن عودة الآخيين بعد حرب طروادة؛ و«الأوديسة» هي أنشودة من هذا القبيل، وهو نوع الموسيقى الذي لا يعجب بينيلوبي! عندما تدخل بجرأة عرين الخطاب الشهوانيين لتعترض، يوبخها تليماك، الذي يسعى إلى النضج، على ذوقها في الموسيقى. ويقول إنه عندما يتعلق الأمر بالإنشاد الملحمي، يتعين عليك أن تساير العصر، وهذه الأغنيات التي تدور حول العودة للوطن رائجة جدا. قد يكون تليماك مراهقا ليس له سلطة في بيته، ولكن حديثه مع مينتيس/أثينا جعل منه بالفعل آمرا على أمه. وهو بالتأكيد يعرف أكثر منها ولو قليلا فيما يتعلق بما يجري في مجال الترفيه. (3) «اجتماع الإيثاكيين» و«رحيل تليماك» (الكتاب 2)
ينشئ هوميروس بسرعة مذهلة حبكة قصته. فيدعو تليماك لاجتماع يضم كل الإيثاكيين ويجاهر بأنه قد ضاق ذرعا بتعديات الخطاب وأنه ينبغي لأحد ما أن يفعل شيئا حيال الأمر. ظاهر الأمر أن لأي أحد الحق في الدعوة إلى عقد اجتماع، مثلما يستطيع أي زعيم في «الإلياذة»، ولكن هذا هو أول اجتماع منذ ذهب أوديسيوس إلى طروادة من عشرين سنة، حسبما يقول هوميروس، وممتلكات أوديسيوس غير المصانة ظلت لوقت طويل عرضة للجشع والغصب.
يرسم هوميروس ببراعة شخصية أنتنيوس (أنطونيوس)، وهو زعيم للخطاب، الذي يسلم بغطرسة باتهام تليماك حيال سلوكهم السيئ، ثم يقول إن الخطأ ليس خطأهم لأن بينيلوبي، البارعة في الخداع (كزوجها)، قالت إنها ستتزوج واحدا منهم فور أن تنتهي من نسج كفن جنائزي لليرتيس الشيخ الهرم والد أوديسيوس. ولكنها في الليل كانت تنقض نسجها، وهو قالب (موتيفة) من قوالب الحكايات الشعبية وقصة يرويها هوميروس ثلاث مرات في «الأوديسة». نجحت الخدعة لثلاث سنوات، مع أن هوميروس لا يخبرنا متى كشفت؛ من المحتمل أن ذلك قد حدث مؤخرا؛ لأن الخطاب ظلوا يضايقون بينيلوبي لثلاث أو أربع سنوات.
صفحة غير معروفة