ـ[الحجة للقراء السبعة]ـ
المؤلف: الحسن بن أحمد بن عبد الغفار الفارسيّ الأصل، أبو علي (المتوفى: ٣٧٧هـ)
المحقق: بدر الدين قهوجي - بشير جويجابي
راجعه ودققه: عبد العزيز رباح - أحمد يوسف الدقاق
الناشر: دار المأمون للتراث - دمشق / بيروت
الطبعة: الثانية، ١٤١٣ هـ - ١٩٩٣م
عدد الأجزاء: ٧
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع وهو مذيل بالحواشي]
صفحة غير معروفة
[مقدمة التحقيق]
المقدّمة
بسم الله الرّحمن الرّحيم الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا قيّما.
كتابا ختم به الكتب، وأنزله على نبيّ ختم به الأنبياء، بدين شامل ختم به الأديان، صلى الله وسلّم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه الطيبين الواعين الذين حفظت صدورهم وسطّرت أقلامهم ما تنزل على نبيّهم من ربّه، ونقلوه لمن بعدهم كما حفظوه وسطروه، ونفوا عنه تحريف الغالين، وتأويل المبطلين.
وبعد، هذا كتاب الحجّة للقرّاء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم ابن مجاهد في كتابه، نقدّمه للقرّاء في ثوب جديد وإخراج مشرق، وقد يئس المتلهفون إلى رؤيته من استكماله وذلك بعد مرور ثمانية عشر عاما على صدور جزئه الأول عن دار الكتاب العربي في القاهرة.
نقدم على طبعه ونشره مستعينين بالله على إتمامه، سائلين إياه أن يلقى القبول لدى المهتمين بكتاب الله ﷿ ولغته، راجين أن يجنّبنا الزلل، ويلهمنا الصواب في القول والعمل.
وقد جرت العادة في التحقيق والتأليف أن يقدم المحقق أو المؤلّف بين يدي كتابه مقدمة تكون بمثابة نافذة على الكتاب ومفتاح له، تمهّد لفهمه وتعطي القارئ نظرة شاملة وإلمامة سريعة عجلى، فيترجم للمؤلف، ويكشف النهج الذي سلكه، وخاصة إن كانت مقدمة الكتاب على النحو المقتضب الذي قدّمه الفارسي لكتابه هذا، كما توقف القارئ على الخطة التي التزمها المحقق في إبراز هذا المؤلّف والطريقة التي سلكها في إخراجه ونشره.
المقدمة / 3
وقد رأيت قبل الحديث عن المؤلّف والكتاب أن أمهّد له بما يتصل بالموضوع ويحسن بالقارئ الاطّلاع عليه والإفادة منه، فأسوق جوابا لأسئلة تتعلق بقوله ﷺ في الحديث المتفق عليه: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف فاقرءوا ما تيسر منه» «١» ثم أذكر شروط القراءة الصحيحة.
١ - ما سبب ورود القرآن على سبعة أحرف؟
سبب وروده على سبعة أحرف هو التخفيف على هذه الأمة، وإرادة اليسر بها، والتهوين عليها شرفا لها وتوسعة ورحمة، وإجابة لقصد نبيّها أفضل الخلق حيث أتاه جبريل فقال له: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال ﷺ: أسأل الله معافاته ومعونته، إن أمتي لا تطيق ذلك» ولم يزل يردّد المسألة حتى بلغ سبعة أحرف.
وذلك أن الأنبياء ﵈ كانوا يبعثون إلى قومهم الخاصين بهم، والنبي ﷺ بعث إلى جميع الخلق أحمرها وأسودها، عربيّها وعجميّها، وكانت العرب الذين نزل القرآن بلغتهم لغاتهم مختلفة، وألسنتهم شتّى، ويعسر على أحدهم الانتقال من لغته إلى غيرها، أو من حرف إلى آخر، بل قد يكون بعضهم لا يقدر على ذلك ولو بالتعليم والعلاج، لا سيما الشيخ والمرأة، ومن لم يقرأ كتابا، فلو كلفوا العدول عن لغتهم والانتقال عن ألسنتهم لكان من التكليف بما لا يستطاع. قال ابن قتيبة في كتاب المشكل: فكان من تيسير الله تعالى أن أمر نبيّه ﷺ بأن يقرئ كل قوم بلغتهم وما جرت عليه عادتهم:
فالهذلي يقرأ (عتّى حين) يريد: (حتى حين) لأنه هكذا يلفظ بها ويستعملها، والأسدي يقرأ: تعلمون، وتعلم. وتَسْوَدُّ وُجُوهٌ [آل عمران/ ١٠٦] وإِذا قِيلَ لَهُمْ [البقرة/ ١١] وَغِيضَ الْماءُ [هود/ ٤٤] بإشمام الضم مع الكسر وهذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا [يوسف/ ٦٥] بإشمام الكسر مع الضم، وما لَكَ لا تَأْمَنَّا بإشمام الضم مع الإدغام، وهذا ما لا يطوع به كل لسان. ولو أن كل فريق أمر أن يزول عن لغته وما جرى عليه اعتياده طفلا وناشئا وكهلا لاشتد ذلك عليه، وعظمت المحنة فيه، ولم يمكنه إلا بعد رياضة للنفس طويلة، وتذليل للسان، وقطع للعادة، فأراد الله برحمته ولطفه، أن يجعل لهم متسعا في اللغات، ومتصرفا في الحركات كتيسيره عليهم في الدين «٢»».
_________
(١) ملخصة من كتاب النشر للجزري.
(٢) تأويل مشكل القرآن ٣٩ - ٤٠.
المقدمة / 4
٢ - معنى الأحرف:
قال أهل اللغة: حرف كل شيء، طرفه ووجهه، وحافته وحده وناحيته والقطعة منه. والحرف أيضا: واحد حروف التهجّي، كأنه قطعة من الكلمة.
قال الحافظ أبو عمرو الداني: معنى الأحرف التي أشار إليها النبي ﷺ هاهنا يتوجه إلى وجهين:
أحدهما: أن يعني أن القرآن أنزل على سبعة أوجه من اللغات، لأن الأحرف جمع حرف في القليل، كفلس وأفلس. والحرف قد يراد به الوجه، بدليل قوله تعالى: يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ [الحج/ ١١] فالمراد بالحرف هنا الوجه، أي على النعمة والخير وإجابة السؤال والعافية، فإذا استقامت له هذه الأحوال اطمأن وعبد الله، وإذا تغيرت عليه، وامتحنه بالشدّة والضر ترك العبادة وكفر، فهذا عبد الله على وجه واحد، فلهذا سمّى النبي ﷺ هذه الأوجه المختلفة من القراءات، والمتغاير من اللغات أحرفا، على معنى أن كل شيء منها وجه.
والوجه الثاني من معناها: أن يكون سمى القراءات أحرفا، على طريق السعة، كعادة العرب في تسميتهم الشيء باسم ما هو منه، وما قاربه وجاوره، وكان كسبب منه، وتعلق به ضربا من التعلّق، كتسميتهم الجملة باسم البعض منها، فلذلك سمى ﷺ القراءة حرفا، وإن كان كلاما كثيرا من أجل أن منها حرفا من غير نظمه، أو
كسر، أو قلب إلى غيره، أو أميل، أو زيد أو نقص منه، على ما جاء في المختلف فيه من القراءة. فسمى القراءة إذا كان ذلك الحرف فيها حرفا، على عادة العرب في ذلك واعتمادا على استعمالها.
قلت: وكلا الوجهين محتمل، إلا أن الأول محتمل احتمالا قويا في قوله ﷺ: «سبعة أحرف» أي: سبعة أوجه وأنحاء. والثاني محتمل احتمالا قويا في قول عمر ﵁ في الحديث: سمعت هشاما يقرأ سورة الفرقان على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله ﷺ. أي: على قراءات كثيرة. وكذا قوله في الرواية الأخرى: سمعته يقرأ فيها أحرفا لم يكن نبي الله ﷺ أقرأنيها.
فالأول غير الثاني، كما يأتي بيانه.
المقدمة / 5
٣ - ما المقصود بهذه السبعة؟
اختلف العلماء في المقصود بهذه السبعة مع إجماعهم على أنه ليس المقصود أن يكون الحرف يقرأ على سبعة أوجه «١»، نحو: «أف، وجبريل، وأرجه، وهيهات، وهيت» وعلى أنه لا يجوز أن يكون المراد هؤلاء السبعة القرّاء المشهورين، وإن كان يظنه بعض العوّام، لأن هؤلاء السبعة لم يكونوا خلقوا ولا وجدوا. وأول من جمع قراءاتهم أبو بكر بن مجاهد في أثناء المائة الرابعة. وأكثر العلماء على أنها لغات، ثم اختلفوا في تعيينها. ثم يناقش ابن الجزري هذا القول ويعرض غيره من الآراء ثم يردّها.
٤ - ما وجه كونها سبعة دون أن تكون أقل أو أكثر؟
قال الأكثرون: إن أصول قبائل العرب تنتهي إلى سبعة، أو أن اللغات الفصحى سبع، وكلاهما دعوى.
وقيل: ليس المراد بالسبعة حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل المراد السعة والتيسير، وأنه لا حرج عليهم في قراءته بما هو من لغات العرب من حيث إن الله تعالى أذن لهم في ذلك، والعرب يطلقون لفظ السبع والسبعين والسبعمائة ولا يريدون حقيقة العدد بحيث لا يزيد ولا ينقص، بل يريدون الكثرة والمبالغة، من غير حصر، قال تعالى: (كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ) و(إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً) وقال ﷺ: في الحسنة: «إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة». وهذا جيد لولا أن الحديث يأباه، فإنه ثبت في الحديث من غير وجه أنه لمّا أتاه جبريل بحرف واحد قال له ميكائيل:
استزده، وأنه سأل الله تعالى التهوين على أمته، فأتاه على حرفين، فأمره ميكائيل بالاستزادة، وسأل الله التخفيف، فأتاه بثلاثة. ولم يزل كذلك حتى بلغ سبعة أحرف.
وفي حديث أبي بكرة: «فنظرت إلى ميكائيل فسكت، فعلمت أنه قد انتهت العدّة» فدلّ على إرادة حقيقة العدد، وانحصاره.
_________
(١) انظر غريب الحديث لأبي عبيد ٣/ ١٥٩.
المقدمة / 6
ولا زلت أستشكل هذا الحديث وأفكر فيه، وأمعن النظر من نيف وثلاثين سنة حتى فتح الله عليّ بما يمكن أن يكون صوابا إن شاء الله، وذلك أني تتبّعت القراءات صحيحها وشاذّها، وضعيفها ومنكرها، فإذا هو يرجع اختلافها إلى سبعة أوجه من الاختلاف لا يخرج عنها. وذلك إما:
" ١ - في الحركات بلا تغيّر في المعنى والصورة، نحو: (البخل) بأربعة و(يحب) بوجهين.
" ٢ - بتغيّر في المعنى فقط نحو: (فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ) (وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ) وإمة.
" ٣ - في الحروف بتغيّر المعنى لا الصورة نحو: (تبلوا، وتتلوا. وننحّيك ببدنك لتكون لمن خلفك- وننجّيك ببدنك).
" ٤ - عكس ذلك نحو: (بصطة وبسطة، والصراط والسراط).
" ٥ - بتغيرهما- أي: المعنى والصورة- نحو: (أشدّ منكم ومنهم. ويأتل ويتأل. و: فامضوا إلى ذكر الله).
" ٦ - في التقديم والتأخير نحو: (فيقتلون ويقتلون) (وجاءت سكرة الحق بالموت).
" ٧ - في الزيادة والنقصان نحو: (وأوصى- ووصى. والذكر والأنثى).
فهذه سبعة أوجه لا يخرج الاختلاف عنها، وأما نحو اختلاف الإظهار والإدغام، والروم والإشمام، والتفخيم والترقيق، والمد والقصر، والإمالة والفتح، والتحقيق والتسهيل، والإبدال والنقل مما يعبّر عنه بالأصول فهذا ليس من الاختلاف الذي يتنوع فيه اللفظ والمعنى، لأن هذه الصفات المتنوعة في أدائه لا تخرجه عن أن يكون لفظا واحدا، ولئن فرض فيكون من الأول. ثم رأيت الإمام الرازي حاول ما ذكرته ... ثم وقفت على كلام ابن قتيبة «١» وقد حاول ما حاولنا بنحو آخر. ثم لخّص كلامهما واستدرك على ابن قتيبة.
٥ - هل هذه السبعة الأحرف متفرقة في القرآن؟
لا شك عندنا في أنها متفرقة فيه، وفي كل رواية وقراءة باعتبار ما قررناه
_________
(١) انظر تأويل مشكل القرآن ص ٣٦ - ٣٨.
المقدمة / 7
في وجه كونها سبعة أحرف، لا أنها منحصرة في قراءة ختمة وتلاوة رواية، فمن قرأ ولو بعض القرآن بقراءة معينة، اشتملت على الأوجه المذكورة فإنه يكون قد قرأ
بالأوجه السبعة التي ذكرناها، دون أن يكون قرأ بكل الأحرف السبعة.
٦ - هل المصاحف العثمانية مشتملة عليها؟
أما كون المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة، فإن هذه مسألة كبيرة اختلف العلماء فيها:
فذهب جماعات من الفقهاء والقرّاء والمتكلمين إلى أن المصاحف العثمانية مشتملة على جميع الأحرف السبعة. وبنوا ذلك على أنه لا يجوز على الأمة أن تهمل نقل شيء من الحروف السبعة التي نزل القرآن بها، وقد أجمع الصحابة على نقل المصاحف العثمانية من الصحف التي كتبها أبو بكر وعمر، وإرسال كل مصحف منها إلى مصر من أمصار المسلمين، وأجمعوا على ترك ما سوى ذلك.
قال هؤلاء: ولا يجوز أن ينهى عن القراءة ببعض الأحرف السبعة، ولا أن يجمعوا على ترك شيء من القرآن.
وذهب جماهير العلماء من السلف والخلف وأئمة المسلمين إلى أن هذه المصاحف العثمانية مشتملة على ما يحتمله رسمها من الأحرف السبعة فقط، جامعة للعرضة الأخيرة التي عرضها النبي ﷺ على جبرائيل ﵇، متضمنة لها، لم تترك حرفا منها.
قلت- أي: ابن الجزري-: وهذا القول هو الذي يظهر صوابه لأن الأحاديث الصحيحة والآثار المشهورة المستفيضة تدل عليه وتشهد له.
٧ - هل القراءات التي يقرأ بها اليوم في الأمصار جميع الأحرف السبعة أم بعضها؟
إن هذه المسألة تبتنى على الفصل المتقدم، فإن من عنده لا يجوز للأمة ترك شيء من الأحرف السبعة يدّعي أنها مستمرة النقل بالتواتر إلى اليوم، وإلّا
المقدمة / 8
تكون الأمة جميعها عصاة مخطئين في ترك ما تركوا منه، كيف وهم معصومون من ذلك؟ وأنت ترى ما في هذا القول، فإن القراءات المشهورة اليوم عن السبعة والعشرة، والثلاثة عشر بالنسبة إلى ما كان مشهورا في الأعصار الأول قلّ من كثر، ونزر من بحر، فإن من له اطّلاع على ذلك يعرف علمه العلم اليقين وذلك أن القرّاء الذين أخذوا عن أولئك الأئمة المتقدمين من السبعة وغيرهم، كانوا أمما لا تحصى، وطوائف لا تستقصى، والذين أخذوا عنهم أيضا أكثر وهلمّ جرّا. فلما كانت المائة الثالثة واتسع الخرق وقل الضبط، وكان علم الكتاب والسنّة أوفر ما كان في ذلك العصر، تصدى بعض الأئمة لضبط ما رواه من القراءات، فكان أول إمام معتبر جمع القراءات في كتاب:
أبو عبيد القاسم بن سلّام، وجعلهم فيما أحسب خمسة وعشرين قارئا مع هؤلاء السبعة، وتوفي سنة أربع وعشرين ومائتين. وكان بعده أحمد بن جبير بن محمد الكوفي نزيل أنطاكية جمع كتابا في قراءات الخمسة من كل مصر واحد وتوفي سنة ثمان وخمسين ومائتين. وكان بعده القاضي إسماعيل بن إسحاق المالكي صاحب قالون ألّف كتابا في القراءات جمع فيه قراءة عشرين إماما منهم هؤلاء السبعة توفي سنة اثنتين وثمانين ومائتين، وكان بعده الإمام أبو جعفر محمد بن جرير الطبري جمع كتابا حافلا سمّاه «الجامع» فيه نيّف وعشرون قراءة توفي سنة عشر وثلاثمائة، وكان بعيده أبو بكر محمد بن أحمد بن عمر الداجوني، جمع كتابا في القراءات وأدخل معهم أبا جعفر أحد العشرة، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، وكان في أثره أبو بكر أحمد بن موسى بن العباس بن مجاهد، أول من اقتصر على قراءات هؤلاء السبعة فقط، وروى فيه عن هذا الداجوني وعن ابن جرير أيضا، وتوفي سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
وقام الناس في زمانه وبعده فألفوا في القراءات أنواع التواليف. ثم عدّد ابن الجزري طائفة منهم مع ذكر مؤلفاتهم وسنة وفاتهم ثم قال: ولا زال الناس يؤلفون في كثير القراءات وقليلها، ويروون شاذّها وصحيحها بحسب ما وصل إليهم أو صحّ لديهم، ولا ينكر أحد عليهم، بل هم في ذلك متبعون سبيل السلف حيث قالوا: القراءة سنّة متّبعة يأخذها الآخر عن الأول، وما علمنا أحدا أنكر شيئا قرأ به الآخر، إلا ما قدّمنا عن ابن شنّبوذ، لكنه خرج عن المصحف العثماني.
المقدمة / 9
ثم يقول: وإنما أطلنا هذا الفصل لما بلغنا عن بعض من لا علم له أن القراءات الصحيحة هي التي عن هؤلاء السبعة، أو أن الأحرف السبعة التي أشار إليها النبي ﷺ هي قراءة هؤلاء السبعة، بل غلب على كثير من الجهال أن القراءات الصحيحة هي التي في الشاطبية والتيسير، وأنها هي المشار إليها بقوله ﷺ: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» حتى أن بعضهم يطلق على ما لم يكن في هذين الكتابين أنه شاذ. وكثير منهم يطلق على ما لم يكن عن هؤلاء السبعة شاذا، وربما كان كثير مما لم يكن في الشاطبية والتيسير، وعن غير هؤلاء السبعة، أصحّ من كثير مما فيهما، وإنما أوقع هؤلاء في الشبهة كونهم سمعوا: «أنزل القرآن على سبعة أحرف» وسمعوا قراءات السبعة، فظنوا أن هذه السبعة هي تلك المشار إليها، ولذلك كره كثير من الأئمة المتقدمين اقتصار ابن مجاهد على سبعة من القرّاء وخطئوه في ذلك وقالوا: ألا اقتصر على دون هذا العدد، أو زاده، أو بين مراده ليخلص من لا يعلم من هذه الشبهة، ثم احتجّ بأقوال بعض العلماء ومنهم شيخ الإسلام ابن تيمية في قوله: لا نزاع بين العلماء المعتبرين أن الأحرف السبعة التي ذكر النبي ﷺ أن القرآن أنزل عليها ليست قراءات القرّاء السبعة المشهورة، بل أوّل من جمع ذلك ابن مجاهد ليكون ذلك موافقا لعدد الحروف التي أنزل عليها القرآن، لا لاعتقاده واعتقاد غيره من العلماء أن القراءات السبع هي الحروف السبعة، أو أن هؤلاء السبعة المعينين هم الذين لا يجوز أن يقرأ بغير قراءتهم. ولهذا قال بعض من قال من أئمة القرّاء: لولا أن ابن مجاهد سبقني إلى حمزة لجعلت مكانه يعقوب الحضرمي إمام جامع البصرة، وإمام قرّاء البصرة في زمانه في رأس المائتين ... ولذلك لم يتنازع علماء الإسلام المتّبعون من السلف والائمة في أنه لا يتعين أن يقرأ بهذه القراءات المعنية في جميع أمصار المسلمين، بل من ثبتت عنده قراءة الأعمش شيخ حمزة، أو قراءة يعقوب الحضرمي ونحوهما، كما ثبتت عنده قراءة حمزة والكسائي، فله أن يقرأ بها بلا نزاع بين العلماء المعتبرين المعدودين من أهل الإجماع والخلاف، بل أكثر العلماء الأئمة الذين أدركوا قراءة حمزة كسفيان بن عيينة وأحمد بن حنبل وبشر بن الحارث وغيرهم يختارون قراءة أبي جعفر بن القعقاع، وشيبة بن نصاح المدنيين، وقراءة البصريين كشيوخ يعقوب بن إسحاق وغيرهم على قراءة حمزة والكسائي.
المقدمة / 10
وللعلماء الأئمة في ذلك من الكلام ما هو معروف عند العلماء، ولهذا كان أئمة أهل القرن الذي ثبتت عندهم قراءات العشرة أو الأحد عشر كثبوت هذه السبعة يجمعون ذلك في الكتب ويقرءونه في الصلاة وخارج الصلاة، وذلك متفق عليه بين العلماء لم ينكره أحد منهم.
وأما الذي ذكره القاضي عياض، ومن نقل كلامه من الإنكار على ابن شنبوذ الذي كان يقرأ بالشواذ في الصلاة في أثناء المائة الرابعة، وجرت له قصة مشهورة، فإنما كان ذلك في القراءات الشاذّة الخارجة عن المصحف.
ولم ينكر أحد من العلماء قراءة العشرة، ولكن من لم يكن عالما بها، أو لم تثبت عنده، كمن يكون في بلد من بلاد الإسلام بالمغرب أو غيره، ولم يتصل به بعض هذه القراءات، فليس له أن يقرأ بما لا يعلمه، فإن القراءة كما قال زيد بن ثابت سنة، يأخذها الآخر عن الأول، كما أن ما ثبت عن النبي ﷺ من أنواع الاستفتاحات في الصلاة، ومن أنواع صفة الأذان والإقامة، وصفة صلاة الخوف وغير ذلك، كله حسن يشرع العمل به لمن علمه، وأما من علم نوعا ولم يعلم بغيره، فليس له أن يعدل عمّا علمه إلى ما لم يعلم، وليس له أن ينكر على من علم ما لم يعلمه من ذلك، ولا أن يخالفه.
ثم بسط القول في ذلك، ثم قال: فتبين بما ذكرناه أن القراءات المنسوبة إلى نافع وعاصم ليست هي الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها، وذلك باتفاق علماء السلف والخلف، وكذلك ليست هذه القراءات السبع هي مجموع حرف واحد من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها باتفاق العلماء المعتبرين، بل القراءات الثابتة عن الأئمة القرّاء كالأعمش ويعقوب وخلف وأبي جعفر وشيبة ونحوهم، هي بمنزلة القراءات الثابتة عن هؤلاء السبعة عند من يثبت ذلك عنده. وهذا أيضا مما لم يتنازع فيه الأئمة المتبوعون من أئمة الفقهاء والقرّاء وغيرهم، وإنما تنازع الناس من الخلف في المصحف العثماني الإمام الذي أجمع عليه أصحاب رسول الله ﷺ والتابعون لهم بإحسان، والأمة بعدهم، هل هو بما فيه من قراءة السبعة، وتمام العشرة، وغير ذلك، هل هو حرف من الأحرف السبعة التي أنزل القرآن عليها؟ أو هو مجموع الأحرف السبعة؟ على قولين مشهورين. والأول قول أئمة السلف والعلماء والثاني قول طوائف من أهل الكلام والقرّاء وغيرهم ...
المقدمة / 11
ثم قال في آخر جوابه: وتجوز القراءة في الصلاة وخارجها بالقراءات الثابتة الموافقة لرسم المصحف كما ثبتت هذه القراءات وليست شاذّة حينئذ والله أعلم «١».
شروط القراءة الصحيحة:
قال ابن الجزري بعد أن ذكر أسماء من اشتهر بالقراءة في المدينة ومكة والكوفة والبصرة والشام: ثم إن القرّاء بعد هؤلاء المذكورين كثروا وتفرقوا في البلاد وانتشروا، وخلفهم أمم بعد أمم، عرفت طبقاتهم، واختلفت صنعاتهم، فكان منهم المتقن للتلاوة المشهور بالرواية والدراسة، ومنهم المقتصر على وصف من هذه الأوصاف، وكثر بينهم لذلك الاختلاف، وقلّ الضبط، واتسع الخرق، وكاد الباطل يلتبس بالحق، فقام جهابذة علماء الأمة، وصناديد الأئمة، فبالغوا في الاجتهاد، وبيّنوا الحق المراد، وجمعوا الحروف والقراءات، وعزوا الوجوه والروايات، وميّزوا بين المشهور والشاذ، والصحيح والفاذ، بأصول أصلوها، وأركان فصلوها، وها نحن نشير إليها ونعوّل كما عوّلوا عليها فنقول:
كلّ قراءة وافقت العربية، ولو بوجه، ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالا، وصحّ سندها، فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردّها ولا يحلّ إنكارها، بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن، ووجب على الناس قبولها، سواء أكانت عن الأئمة السبعة أم عن العشرة أم عن غيرهم من الأئمة المقبولين، ومتى اختلّ ركن من هذه الأركان الثلاثة، أطلق عليها ضعيفة أو شاذّة أو باطلة، سواء كانت عن السبعة، أم عمن هو أكبر منهم.
هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف «٢».
_________
(١) انتهى نقل ابن الجزري في النشر ١/ ٣٩ عن ابن تيمية ﵀ ملخصا. وانظر فتاويه ١٣/ ٣٩٠ - ٤٠٣.
(٢) النشر ١/ ٩.
المقدمة / 12
كتاب الحجة
الذين ترجموا للفارسي ذكروا في ثبت مؤلفاته كتاب الحجة هذا بعبارات ليست متساوية، وإن كانت تشترك جميعها في كلمة (الحجة) محور التسمية، وكل ذلك بداعية الاختصار والاجتزاء بالبعض المفهم عن الكل.
فالخطيب البغدادي في تاريخه ٧/ ٢٧٦ سمّاه: الحجة في علل القراءات، وابن خلكان في الوفيات (٢/ ٨١) وابن الأثير في الكامل (٩/ ٢١) وابن تغري بردي في النجوم الزاهرة (٦/ ٢٦٧) أطلقوا عليه الحجة في القراءات، وزاد ابن الأنباري في نزهة الألبّاء (ص ٣١٦) كلمة «السبع» على القراءات. في حين اكتفى ابن النديم في الفهرست (ص ٩٥) وياقوت في معجم الأدباء (٧/ ٢١٠) وابن عطية في فهرسه (ص ٨٦) والسيوطي في البغية (١/ ٤٩٦) وابن الجزري في طبقاته (١/ ٢٠٧) باللفظة المشتركة بين الجميع فأسموه (الحجة) فقط.
وقد آثرنا أن نعتمد على ما أثبت على غلاف الأجزاء الثلاثة الأخيرة من نسخة مراد ملا المنسوخة بخط طاهر بن غلبون ونصه: الحجة للقرّاء السبعة أئمة الأمصار بالحجاز والعراق والشام الذين ذكرهم أبو بكر بن مجاهد. وهو عنوان مناسب للكتاب، ولا مبرر للعدول عنه إلى غيره من الأسماء التي آثر أصحابها الاختصار فيها.
وهذا الكتاب واحد من عدة كتب صنّفها الفارسي وقدّمها لعضد الدولة الذي كان يعدّ نفسه غلاما في النحو لأبي علي، نستدلّ على ذلك من مقدمة كتابه التي صدّرها بالدعاء له، كما هو ثابت في نسختنا هذه حيث يقول:
المقدمة / 13
أطال الله بقاء مولانا الملك السيد الأجل المنصور وليّ النعم عضد الدولة وتاج الملّة ... فإن هذا كتاب نذكر فيه ... وواضح أنه بالإضافة لما ذكرناه من تقديم هذه النسخة لعضد الدولة فإن في هذه المقدمة ما يدلّ على أن كتاب الحجة قد ألّفه أبو علي قبل سنة ٣٧٢ هـ وهي السنة التي توفي فيها عضد الدولة، وبتحديد أكثر فإنه ألّفه ما بين سنتي ٣٦٧ هـ، وهي السنة التي لقّب فيها عضد الدولة بتاج الملّة، وبين سنة وفاته وهي سنة ٣٧٢ هـ.
كما أن في مقدمته ما يدلّ على منهج أبي علي في كتابه بشكل موجز، وهو أن يذكر ما ثبت عن ابن مجاهد من وجوه قراءات القرّاء في كتابه السبعة، وهم الذين ذكرنا ترجمتهم في أول فاتحة الكتاب.
وقد كان شائعا في عصر أبي علي تأليف العلماء مؤلفاتهم للملوك والرؤساء وذلك لأنه كان لهؤلاء مشاركة في العلوم، ويضربون بسهم وافر فيها، وكانت بلاطاتهم موئلا للعلماء، وكانت أكرم هدية يقدمها هؤلاء العلماء لأولئك الرؤساء ما ينتجونه من عصارة عقولهم، وثمرة قرائحهم، وكان كتاب الحجة أيضا مما أهداه أبو علي للصاحب ابن عباد وأجاز له أن يرويه عنه.
قال ياقوت في معجم الأدباء (٧/ ٢٣٩، ٢٤٠): قرأت بخط سلامة بن عياض النحوي ما صورته: وقفت على نسخة من كتاب الحجة لأبي علي في صفر سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة بالريّ في دار كتبها التي وقفها الصاحب بن عباد ﵀، وعلى ظهرها بخط أبي علي ما حكايته هذه: أطال الله بقاء سيدنا الصاحب الجليل، أدام الله عزّه ونصره وتأييده وتمكينه. كتابي في قرّاء الأمصار الذين بيّنت قراءتهم في كتاب أبي بكر أحمد بن موسى المعروف بكتاب السبعة، فما تضمن من أثر وقراءة ولغة، فهو عن المشايخ الذين أخذت ذلك عنهم، وأسندته إليهم، فمتى أثر سيدنا الصاحب الجليل- أدام الله عزّه ونصره وتأييده وتمكينه- حكاية شيء منه عنهم أو عني لهذه المكاتبة فعل. وكتب الحسن بن أحمد الفارسي بخطه.
موضوعه وطريقته:
أما موضوع الكتاب فهو الاحتجاج للقراءات وتوثيقها وتوجيهها والتماس الدليل لقراءة كل قارئ من القرّاء السبعة الذين اختارهم ابن مجاهد، وذلك
المقدمة / 14
إما بالاستناد إلى قاعدة مشهورة في العربية، أو بالتماس علّة خفية بعيدة الإدراك يحاول اقتناصها، أو توليدها أو بالاعتماد على القياس وحشد النظائر ومقارنة المثيل بالمثيل وهو مما برع فيه أبو علي. وكان يسوق لكل أسلوب من أساليب احتجاجه الآيات القرآنية والشعر الصالح للاحتجاج والحديث النبوي والأمثال العربية، ولغات العرب ولهجاتها وأقوال أئمة العربية وعلى رأسهم سيبويه الذي انتثرت عبارات كتابه في حجته «١».
وطريقته في ذلك طريقة المتن «٢» والشرح فهو يعرض أولا نص ابن مجاهد في عرضه لاختلاف القرّاء في كل حرف من الحروف، مصرّحا باسمه أو مغفلا له مكتفيا بقوله: اختلفوا ... ثم يعقبه بقول شيخه ابن السراج وذلك في القسم الذي شرع في تفسيره من الفاتحة وسورة البقرة. أو بكلامه هو بقوله: قال أبو علي.
ولعلّ أبرز ما يتميز به أسلوب أبي علي هو ظاهرة الاستطراد والانطلاق بعيدا عن أصل الموضوع المطروق حتى يكاد ينسي آخره أوله، فهو ينتقل بالقارئ من الكلام على الحرف والخلاف فيه والاحتجاج له إلى تفسير الآية، فيغوص في الأعماق فيستخرج من كنوز المعاني ودرر الحقائق ما ينتزع إعجابنا بسعة عقله ونفاذ فكره، أو يتناول الكلمة وما يتفرع عنها من معان وما تدلّ عليه من دلالات فيتناولها معنى معنى مبيّنا له مع شواهده، ثم يتجاوزه إلى الحديث عن الوجوه الإعرابية أو العلل الصرفية، ويناقش جميع ذلك ويحشد له الشواهد والأدلة، فيشبعه ولا يترك بعده زيادة لمستزيد، وهو أشبه
_________
(١) لأستاذنا سعيد الأفغاني رأي سديد في موضوع الاحتجاج للقراءات أورده في مقدمته لكتاب حجة القراءات لابن زنجلة ص ١٨ بعد أن قدم عرضا تاريخيا موجزا للقراءات والمقرئين فقال: قدّمت كل هذا من تاريخ القراءة والمقرئين لأؤيّد ما كنت ذهبت إليه منذ أكثر من عشرين سنة من أن تأليف المؤلفين القدامى يحتجّون للقراءات المتواترة بالنحو وشواهده عكس للوضع الصحيح، وأن السلامة في المنهج، والسداد في المنطق العلمي التاريخي يقضيان بأن يحتجّ للنحو ومذاهبه وقواعده وشواهده بهذه القراءات المتواترة، لما توافر لها من الضبط والوثوق والدقة والتحرّي ... شيء لم يتوافر لأوثق شواهد النحو ... وأي كان فهذا ما وقع.
(٢) وقد ميّزنا المتن الذي هو نص ابن مجاهد بالحرف الأسود تسهيلا لفصله عن الشرح.
المقدمة / 15
ما يكون بالنبع الغزير المتدفق في الأرض المستوية، ينبثق فيشق دروبا لنفسه في كل مكان قبل أن يأخذ مجراه.
وهذا الاستطراد كان مدعاة للإطالة، وقد رافقه بعض الغموض في العبارة أحيانا وعلى الأخص في الجزء الأول من الكتاب الذي استغرق فيه سورة فاتحة الكتاب وثلاثين آية من سورة البقرة فقط، ولعلّ ذلك دعا تلميذه ابن جنّي لأن يقول عنه: «وقد كان شيخنا أبو علي عمل كتاب الحجة في قراءة السبعة، فأغمضه وأطاله حتى منع كثيرا ممّن يدّعي العربية فضلا على القراء منه وأجفاهم عنه» «١».
ولا تدل هذه العبارة على طعن ابن جني في ما صنع أستاذه كما فهمها بعض الباحثين المحدثين، وإنما تعني أن من لم يكن من أهل العربية متمرسا بها يصعب أن يفهم كتابه، وهذا حق، فقد أثنى القدماء من مؤرخين ونحويين ولغويين وقرّاء ومفسرين على الحجة وأعجبوا به، وراحوا يتدارسونه ويختصرونه، وينقلون منه في مؤلفاتهم، وأخصّ بالذكر عبد القادر البغدادي فقد نقل عنه في الخزانة في سبعة مواضع، وفي شرح أبيات المغني الذي امتنّ الله علينا بتحقيقه ونشره في ثمانية وعشرين موضعا. وممّن نقل عنه وأثنى عليه الطبرسي المفسّر قال في مجمع البيان (٣/ ٢٥٦) بعد أن نقل كلاما حسنا للفارسي في توجيه إعراب الآية الكريمة يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا
شَهادَةُ بَيْنِكُمْ ...
من سورة المائدة/ ١٠٦: هذا كله مأخوذ من كلام أبي علي الفارسي، وناهيك به فارسا في هذا الميدان نقابا، يخبر عن مكنون هذا العلم بواضح البيان. وكذلك الزركشي نقل عنه في كثير من أبحاث كتابه البرهان.
وأيضا فإن قيام الأستاذ العارف والثقة الضابط مؤلّف التذكرة في القراءات الثمان طاهر بن غلبون شيخ الداني نفسه بنسخ الحجة، وإلقاء نظرة متأملة في نص السماع المثبت في آخر أجزاء نسخته والذي أثبتناه عند وصفنا للمخطوطات، كل ذلك يدلنا على مدى اهتمام العلماء بالكتاب والحرص على سماعه وقراءته.
ومن أقوال العلماء التي تحمل الثناء عليه هذه الأمثلة:
_________
(١) المحتسب ١/ ٢٣٦.
المقدمة / 16
- قال في ذيل تجارب الأمم: «صنّف في أيام عضد الدولة المصنفات الرائعة في أجناس العلوم المتفرقة، فمنها كتاب الحجة في القراءات السبع، وهو كتاب ليس له نظير في جلالة قدر، واشتهار ذكر» «١».
- وجاء في طبقات النحاة واللغويين لابن قاضي شهبة: «كتاب الحجة في تخريج القراءات السبعة من أحسن الكتب وأعظمها» «٢».
وقال ابن الجزري في طبقات القرّاء: «وألّف كتاب التذكرة وكتاب الحجة شرح سبعة ابن مجاهد فأجاد وأفاد» «٣».
ومهما يكن من أمر فإن أفضل ما يشهد على الإنسان عمله الذي قدّمه وأثره الذي تركه، وها هو ذا الكتاب نقدمه بين أيدي العلماء وطلاب العلم للحكم عليه.
وقد اختصره جماعة من الأندلسيين منهم فيما ذكره ياقوت مكي بن أبي طالب المتوفى سنة ٤٣٧ هـ في كتاب سمّاه «منتخب الحجة في القراءات، وجعله في ثلاثين جزءا» «٤» واختصره كذلك أبو طاهر إسماعيل بن خلف الأندلسي المتوفى سنة ٤٥٥ هـ وانتفع به الناس، كما ذكر السيوطي «٥» واختصره محمد بن شريح الرعيني المتوفى سنة ٤٧٦ «٦».
_________
(١) ذيل تجارب الأمم ١٨٣.
(٢) طبقات النحاة ٢٩٥.
(٣) طبقات القرّاء ١/ ٢٠٧.
(٤) معجم الأدباء ١٩/ ١٦٩.
(٥) انظر بغية الوعاة ١/ ٤٤٨.
(٦) الصلة لابن بشكوال ٢/ ٥٥٣.
المقدمة / 17
النسختان المعتمدتان في النشر:
اعتمدنا في نشر هذا الكتاب على نسختين خطيتين:
الأولى: وهي نسخة محفوظة في مكتبة بلدية الإسكندرية برقم ٣٥٧٠ ولها مصوّرة في دار الكتب المصرية برقم ٤٦٢ قراءات، وهي التي رمزنا لها ب (م). وتقع هذه النسخة في سبعة أجزاء ينقصها الخامس. وقد نسخت بخط النسخ الجميل الواضح وضبطت كلماتها ضبطا كاملا. مسطرتها ١٧ × ٥.٢١ وعدد سطور صفحتها ١٥ سطرا. ومجموع صفحاتها ٢٢٢٣ صفحة كتب في آخر أجزائها: نجز كتاب الحجة للقرّاء، وبلغ الفراغ منه في يوم الخميس لسبع بقين من ذي القعدة سنة تسعين وثلاثمائة.
اسم الناسخ غير مذكور، وهو واحد في الأجزاء جميعها، إلا أنه فيما يترجح قد ذهبت الورقة الأولى التي عليها العنوان والصفحة الأولى من الكتاب من أجزاء الكتاب جميعها، فاستدركت بخط متأخر مغاير للأصل، وكذلك حدث في الورقة الأخيرة لبعض الأجزاء. وفي طرة بعض صفحاتها عبارة بلغ دلالة على قراءتها.
النسخة الثانية: نسخة محفوظة في مكتبة مراد ملّا بإستانبول، رقمها ٦ - ٩ ومنها مصوّرة في معهد إحياء المخطوطات، وهي التي رمزنا لها ب (ط) وتقع في أربعة أجزاء تامة كتبت بخط نسخ قديم وضبطت بالشكل الكامل.
نسخها طاهر بن غلبون النحوي. قال عنه ابن الجزري. في طبقاته ١/ ٣٣٩:
أستاذ عارف وثقة ضابط، وحجة محرّر، شيخ الداني ومؤلّف التذكرة في القراءات الثمان، أخذ القراءات عرضا عن أبيه وعبد العزيز بن علي، ثم رحل
المقدمة / 18
إلى العراق فقرأ بالبصرة على محمد بن يوسف بن نهار وغيره، وسمع سبعة ابن مجاهد من أبي الحسن علي بن محمد بن إسحاق المعدل عنه، قال الداني: لم ير في وقته مثله في فهمه وعلمه، مع فضله وصدق لهجته، كتبنا عنه كثيرا، وتوفي بمصر لعشر مضين من شوال سنة تسع وتسعين وثلاثمائة.
وعلى يسار ما قبل الصفحة الأخيرة من الجزء الأول كتب بشكل شاقولي بخط أحمد بن مكتوم ما نصه: ذكر المختار عز الملك محمد بن عبيد الله بن أحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز المسبّحي المؤرخ في تاريخ (.؟.) «١» أن أبا الحسن طاهر بن عبد المنعم بن غلبون المصري توفي يوم الأحد من ذي القعدة سنة تسع وتسعين وثلاثمائة. وقال:
كان مقدما بعد أبيه عالما بعلل النحو ومعانيه. انتهى كلامه ونقله كما وجده أحمد بن مكتوم.
ونلاحظ أن تحديد سنة وفاته ب ٣٩٩ عند المسبّحي وابن الجزري، تختلف عمّا ورد في تاريخ نسخ كتاب الحجة، المدوّن في آخر الأجزاء الثلاثة بخط الناسخ نفسه وهو سنة ٤٢٧ هـ وسنة ٤٢٨ هـ في نهاية الجزء الرابع.
ولم نقف على ترجمة لابن غلبون في غير ما ذكرناه، واضطراب المترجمين وتعدّد الأقوال في سنيّ وفاة من يترجمون لهم أمر واقع عندهم. وما يمكننا القطع به هو أن وفاته كانت بعد تاريخ نسخة للكتاب، ولا نمتلك تحديدا لها.
والذي يبدو لي أن الأمر قد اضطرب على من ترجم لابن غلبون ولوالده. الذي كانت وفاته كما ذكر ابن الجزري سنة ٣٨٩ هـ «٢».
وعلى غلاف النسخة وفي آخرها سماعات وإجازة بقراءتها. وفي داخلها تعليقات وتهميشات على كلام المؤلّف، وعبارة بلغ في عدة مواطن من حواشيها مما يدل على قراءتها والعناية بها من العلماء وطلاب العلم. ومما
_________
(١) الكلمة غير واضحة في الأصل، وذكر ابن خلكان ٤/ ٣٧٧: أنه صاحب التاريخ المشهور وغيره من المصنفات مولده سنة (٣٦٦) ووفاته سنة (٤٢٠). قال في الأنساب للسمعاني: المسبحي صاحب تاريخ المغاربة ومصر.
(٢) انظر ترجمته في طبقاته ١/ ٤٧٠.
المقدمة / 19
كتب على الصفحة الأولى- صفحة الغلاف- من السماعات على جميع أجزاء الكتاب ما يلي:
على الجزء الأول: الحمد لله سمع هذا الجزء في جمع بقراءة غيره علي الشيخ الجليل الفاضل منتجب الدين منتجب بن أبي العز الرشيد الهمذاني «١»، نفعه الله في مجالس، وهو أحد مقروءاتي على شيخي الإمام أبي محمد المعرّي النحوي عن أبي طاهر بن سولة المعري النحوي، عن أبي عبد الله الآمدي عن الربعي النحوي عن أبي علي الفارسي. وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن «٢» في ذي الحجة من سنة ست وست مائة.
وهذا الجزء أحد أربعة، وحسبنا الله ونعم الوكيل.
وعلى الجزء الثاني: سمع جميع هذا الجزء الثاني وما قبله يقرأ على الشيخ الجليل منتجب الدين بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني بالإسناد المذكور في الأصل. وكتب زيد بن الحسن الكندي أبو اليمن في أواخر ذي الحجة من سنة ست وست مائة.
_________
(١) كان رأسا في القراءات والعربية صالحا متواضعا، قرأ القراءات على أبي الجود غياث بن فارس وسمع من ابن طبرزد والكندي، وقرأ عليه بالروايات الصائن الضرير نزيل قونية والنظام محمد بن عبد الكريم. توفي سنة ٦٤٣ هـ. (معرفة القرّاء للذهبي ٢/ ٥٠٨).
(٢) زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن زيد بن الحسن بن سعيد بن عصمة بن حمير بن الحارث ذي رعين الأصغر، الإمام تاج الدين أبو اليمن الكندي النحوي اللغوي المقرئ المحدّث الحافظ. ولد ببغداد سنة ٥٢٠ وحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وأكمل القراءات العشر وهو ابن عشر. وكان أعلى الأرض إسنادا في القراءات. قال الذهبي:
لا أعلم أحدا من الأئمة عاش بعد ما قرأ القرآن ثلاثا وثمانين سنة غيره. وقرأ العربية على أبي محمد سبط أبي منصور الخياط وابن الشجري وابن الخشاب، واللغة على موهوب الجواليقي وسمع الحديث من أبي بكر بن عبد الباقي وخلائق. وخرج له أبو القاسم ابن عساكر مشيخة في أربعة أجزاء.
وقدم دمشق وازدحم عليه الطلبة، وأفتى ودرس وصنّف وأقرأ القراءات والنحو واللغة والشعر كان حنبليا فصار حنفيا وتقدم في مذهب أبي حنيفة. كان صحيح السماع ثقة بالنقل ظريفا في العشرة. واستوزره فروخ شاه ثم اتصل بأخيه تقي الدين صاحب حماة واختصّ به، وله خزانة كتب بالجامع الأموي فيها كل نفيس.
توفي في يوم الاثنين سادس شوال سنة ٦١٣ هـ وانقطع بموته إسناد عظيم. (بغية الوعاة ١/ ٥٧١).
المقدمة / 20
وعلى الجزء الثالث: سمعه وما قبله بقراءة غيره عليّ الشيخ الجليل الفاضل منتجب الدين منتجب بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني المقرئ نفعه الله بالإسناد المذكور في أول الكتاب. وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن في مستهل صفر من سنة سبع وست مائة. وكتبت أيضا إجازة في ذيل الصفحة.
وعلى الجزء الرابع: سمع جميع هذا الجزء وما قبله وهو آخر الكتاب بقراءة غيره علي الشيخ الجليل الفاضل منتجب الدين منتجب بن أبي العز بن الرشيد الهمذاني فتم له سماع جميع الكتاب ورويته له بالإسناد المذكور في الجزء الأول. وكتب زيد بن الحسن بن زيد الكندي أبو اليمن في صفر من سنة سبع وستمائة.
وهذا نص السماع المثبت في آخر الجزء الثالث، وقد ورد قريبا منه في بقية الأجزاء أيضا:
سمع هذا المجلد، وهو الثالث من كتاب الحجة لأبي علي الفارسي، ﵀ على سيدنا الشيخ الإمام الأجل الصدر الكبير العلّامة تاج الدين شيخ الإسلام أوحد العصر حجة العرب رئيس الأصحاب أبي اليمن زيد بن الحسن بن زيد الكندي أيده الله نحو سماعه على الشيخ أبي عبد الله بن علي النحوي عن أبي طاهر بن سوار عن أبي عبد الله الآمدي عن علي الربعي عن الفارسي بقراءة الشيخ الفقيه الإمام شهاب الدين أبي إسحاق إبراهيم بن محمد بن أبي بكر العفصي، المولى القاضي الإمام الأجل الصدر الكبير العالم ركن الدين صدر الإسلام قاضي القضاة أبو العباس الطاهر بن قاضي القضاة الإمام أبي المعالي محمد بن علي بن محمد بن يحيى القرشي أدام الله عمره، وأخوه القاضي المنتجب كمال الدين أبو الفضل يحيى بن محمد بن علي، والأجل أمين الدين أبو العباس أحمد بن أبي محمد عبد الله بن الحسن بن أخي الشيخ المسمع، والأجل عزيز
الدين أبو حامد بن محمد بن محمد القرشي الأصبهاني، والإمام علم الدين أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد السخاوي «١» وابنه محمود، وصاحب الكتاب الأجل العالم الفاضل
_________
(١) صاحب سفر السعادة وسفير الإفادة (ط. مجمع اللغة العربية. وتحقيق محمد أحمد الدالي) وفيه ترجمته ومصادرها. مولده في ٥٥٨ هـ ووفاته سنة ٦٤٣ هـ.
المقدمة / 21