المقدمة
الحمدُ للهِ رب العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيدِ المرسلين، نبينا محمد، وعلى آلهِ وصحبهِ أجمعين، وعلى من اهتدى بهديه إلى يومِ الدين.
أما بعدُ، فقد أثرى علماؤنا الأفذاذُ وأسلافُنا الجهابذةُ المكتبةَ بتراثٍ عظيمٍ يتمثَّلُ في هذا الزخم العاطر والكمِّ الهائلِ من المؤلفات والمصنَّفاتِ في مختلفِ فنونِ المعرفةِ وضروبِ العلمِ، ولكن هذه الأسفارَ العظامَ والكتبَ قابعةٌ في ظلماتِ الخزائنِ تهيلُ عليها السنون مزيدًا من النسيانِ، لذا فإن تحقيقَ المخطوطاتِ، وبعثَها وإخراجَ كنوزِها وفضَّ غبارِ السنين عنها وإتاحةَ الفرصةِ لها لترى النور، من أعظمِ الخدماتِ التي تُقدَّمُ للتراث.
وقد قمتُ بعونِ اللهِ وتوفيقهِ بتحقيقِ كتابِ "الحدود في علمِ النحوِ" للعلاَّمةِ الأُبَّذي المتوفَّى سنة ٨٦٠؟.
والكتابُ على صغرِ حجمه، عظيمُ الفائدةِ، جمُّ المنافعِ، فهو يضمُ عددًا كبيرًا من المصطلحاتِ والتعريفاتِ النحوية وقليلًا جدًا من التعريفات الصرفية، مع شرحِها وتفسيرِها وتوضيحِها، في إيجازٍ غيرِ مقلٍ، وإجمالٍ غيرِ مخلٍّ، مع البعدِ عن الشواهدِ والأمثلةِ والآراءِ والمذاهبِ النحويةِ والخلافاتِ المذهبيةِ.
أما صاحبُ الكتابِ - وهو الأبذي - فقد توقفتْ كتبُ الطبقاتِ والتراجم عن الترجمةِ له إلا النزر اليسير، ولعلَ السببَ في ذلك تأخُره، فلم نجدْ سوى ترجمةٍ يسيرةٍ له ونبذة مختصرة عن حياتهِ. وإنا إذ نلقي الضوءَ على هذا المخطوطِ لنرجو اللهَ أن ينفعَ به، وأنْ يجعلَ في ذلك التوفيقَ والسداد.
1 / 403
ترجمة الأبذي
نسبه:
هو أحمد بن محمد بن محمد بن عبد الرحمن بن علي بن أحمد الشهاب ويُقالُ: شهاب الدين البجائي الأٌبَّذي المغربي المالكي، نزيل الباسطية١. ويُعرفُ بالأٌبَّذيٌ٢.
وهناك خلافٌ في لقبِه:
فقد ذهبَ الحميريُّ٣، والحافظُ ابن حجر، والحافظُ الذهبيُّ، والبدرُ الدمامينيُّ٤ في حواشي المغني والسيوطي٥،وعبد الباقي اليماني٦،
_________
١ الباسطية: مدرسةٌ بديعةٌ بالقاهرةِ أنشأها عبد الباسط بن خليل الزين الدمشقي ثم القاهري المتوفىَّ سنة ٨٥٤هـ، وهو أولُ مَنْ تسمَّى بعبد الباسط، كان ناظر الخزانة والكتابة بمصر للسلطان المؤيد شيخ، وقد جعلها تجاه بيته، وانتهت في أواخر سنة ٨٢٣هـ انظر الضوء اللامع لأهل القرن التاسع للسخاوي ٤: ٢٤ - ٢٥.
٢ انظر: الضوء اللامع ٢: ١٨٠، والأعلام: للزركلي ١: ٢١٨. وهناك نحوي آخر بهذا اللقب وهو علي ابن محمد بن محمد بن عبد الرحمن الخُشني النحوي المعروف بالأبذي. نشأ بأشبيليه ولازم الشلوبيين. وكان إمامًا في النحو واللغة والأشعار، وأملى على كتاب سيبويه تقاييد وعلى الإيضاح والجمل، ومشكل الأشعار الستة والجزولية، وأقرأ بإشبيلية ومالقة وغرناطة، كان مقلًا من الدنيا. توفي سنة ثمانين وست مائة.
انظر: (إشارة التعيين في تراجم النحاة واللغويين: لعبد الباقي اليماني ص ٢٣٣-٢٣٤) .
٣ انظر صفة جزيرة الأندلس: للحميري، ص ١١.
٤ انظر: تاج العروس من جواهر القاموس: للزبيدي ٢: ٢٨٦ (مادة أبد) .
٥ انظر الأشباه والنظائر في النحو: للسيوطي ٣: ٥٧.
٦ انظر إشارة التعيين: لعبد الباقي اليماني، ص ٢٣٣.
1 / 404
والزركلي١، وعمر رضا كحاله٢ إلى أن دالَ مدينة أُبَّذة التي ينتسب إليها المؤلفُ، معجمةٌ، ومن ثَمَّ فإن لقبَه، "الأبذي" بذال معجمة.٣.
وذهبَ صاحبُ لب اللباب والتكملة٤ وياقوت الحموي٥ والفيروزآبادي٦ والسخاويُّ٧ وحاجي خليفة٨ إلى أن دالَ مدينةِ "أُبَّدة" مهملة. وعليه فإن لقَبه الأُبَّدي بدالٍ مهملة.
وأرجحُ أنه الأبذيّ بذالٍ معجمة، لأن اسمَ المدينةِ "أُبَّذة"، ثم لما تناقل الناسُ اسمَها أهملوا الذالَ، فصارتْ "أُبَّدة"، والدليلُ: أنها صارتْ تُعرف بأُبدة العربِ٩، فكلا اللقبين صحيحٌ. خاصة أن ياقوت ذكر الحرفين فيها.
_________
١ انظر: الأعلام: للزركلي ١: ٢١٨.
٢ انظر معجم المؤلفين: عمر رضا كحاله ٢: ١٥٠.
٣ أبذة: مدينةٌ صغيرةٌ بالأندلس من كورة جيّان، على مقربة من النهر الكبير، لها مزارعُ وغلاتٌ كثيرة جدًا، وهي تُعرفُ بأبدة العربِ، اختطها عبد الرحمن بن الحكم بن هشام ابن عبد الرحمن بن معاوية بن هشام بن عبد الملك وتممها ابنه محمد. (انظر: معجم البلدان: ياقوت الحموي ١ / ٦٤، وصفة جزيرة الأندلس: للحميري ص ١١) وفي دائرة معارف البستاني ص ٩٢-٩٣: أبْدة وقد تشدد الباء أُبّدة. ويقال أيضًا: أبْذة وأبّذة مدينة إسلامية تقعُ على نهرِ الوادي الكبير على ٥٦ كيلو من جيان، ويُنسبُ إليها فيُقالُ: الأبّدي والأبذي.
٤ انظر: تاج العروس: للزبيدي ٢: ٢٨٦ (مادة أبد) .
٥ انظر: معجم البلدان: ياقوت الحموي ١: ٦٤.
٦ انظر القاموس المحيط: للفيروز آبادي مادة أبد، حيث قال: (وأُبَّدة كقُبَّرة بالأندلس) .
٧ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠.
٨ انظر كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لحاجي خليفة ١: ٢٠٧.
٩ انظر: هامش (١) .
1 / 405
نشأته:
هو من أهل "أُبَّذة" بقربِ جيان١. نشأ في بلادِ الأندلسِ، وتعلَّمَ في بجاية٢.
ثم انتقل إلى القاهرة، فدرسَ بالأزهرِ، ثم بالباسطية حيث سكنها برغبةِ أحدِ شيوخهِ٣. وحجَّ وارتحل إلى المدينةِ المنورة٤.
شيوخه:
١- البيوسقي البجائي:
هو أبو عبد الله محمد بن يحيى بن عبد الله البيوسقي المغربي البجائي محمد نزيل بجاية.
وقرأ عليه الشيخُ الأبذيُّ الشفا٥ببجاية٦.
٢- ابن القماح:
هو أبو عبد الله محمد بن محمد بن محمد الأنصاريّ الخزرجيّ الأندلسيّ
_________
١ مدينة واسعة بالأندلس، وهي كورةٌ كبيرةٌ تجمعُ قرى كثيرة - انظر: معجم البلدان: ياقوت ٢: ١٩٥.
٢ بجاية: مدينةٌ على ساحلِ البحرِ بين إفريقية والمغرب كان أول من اختطها الناصر بن علناس بن حماد بن بلكين في حدود سنة ٤٥٧؟ كانت قديمًا ميناءً فقط، ثم بُنيت المدينةُ، وهي في لحفِ جبلٍ شاهقٍ، وقبلتها جبال كانت قاعدة ملك بني حماد، وتُسَمَّى الناصرية أيضًا باسم بانيها، وهي مفتقرةٌ إلى جميعِ البلادِ لا يخصها من المنافع شيءٌ، إنما هي دارُ مملكةٍ تركبُ منها السفُن، وتسافر إلى جميعِ الجهات، انظر: معجم البلدان: ياقوت ١: ٣٣٩.
٣ هو العزُّ البغداديُّ، انظر الضوء اللامع للسخاوي ٢: ١٨٠.
٤ انظر الضوء اللامع: للسخاوي ٢: ١٨٠ والأعلام: للزركلي ١: ٢١٨.
٥ انظر كشف الظنون ٢: ١٠٤٩ - ١٠٥٦.
٦ انظر: الضوء اللامع م٥ ج١٠ ص٧٣.
1 / 406
التونسيّ المالكيّ بن القماح. سمعَ بتونس والقاهرة ورجعَ إلى بلادِه الأندلس فعني بالحديثِ واشتهرَ به. وقد ولي قضاءَ بعضِ الجهاتِ بالمغرب. كان حسنَ البشرِ، سمحَ الأخلاقِ، وقرأ عليه بعضَ الشفا الشهابُ الأبذيُّ ببجاية. مات سنةَ سبع وثلاثين وثمانمائة١.
٣- القاياتي:
هو محمد بن علي بن محمد بن يعقوب بن محمد القاياتي القا؟ري الشافعي. وُلِد سنة خمس وثمانين وسبعمائة تقريبًا بالقايات، بلد قرب الفيومِ، وقرأ القرآنَ وحفظ المنهاجَ وألفيةَ النحوِ، والتسهيلَ وغيرها، وعرض على جماعة. كان إمامًا عالمًا علاَّمة، غاية في التحقيقِ وجودةِ الفكرِ والتدقيقِ، واضح العبارة، صائب النظر، صارَ شيخَ الفنونِ بلا مدافعة، وتصدَّى للإقراءِ زمانًا، فانتفعَ به خلقٌ، وتزاحمَ الناسُ عليه من سائرِ أربابِ الفنونِ والمذاهبِ، وانتشرت تلامذتُه، وصاروا رؤساءَ في حياتهِ، كلُّ ذلك مع الدينِ والعقلِ والتواضعِ، والتقشّفِ والحلمِ والاحتمال، توفي سنة ٨٥٠٢. قال السخاوي عن الأبذيّ: "قدمَ القاهرةَ فحضرَ دروسَ القاياتي"٣.
٤- ابن قديد:
؟وعمر بن قديد، الركن، أبو حفص بن الأمير سيف الدين القَلَمْطائي
_________
١ انظر: الضوء اللامع م٥ ج١٠ ص١٦.
٢ انظر: الضوء اللامع ٨: ٢١٢ - ٢١٤ وشذرات الذهب في أخبار من ذهب: لابن العماد الحنبلي ٧: ٢٦٨.
٣ انظر: الضوء اللامع ٢: ١٨٠.
1 / 407
القاهري الحنفيّ، ولد سنةَ خمسٍ وثمانين وسبعمائة بالقاهرةِ، ونشأ بها في غايةِ الرفاهيةِ، وكان من كبارِ الأمراءِ، ولي نيابة الكركِ والإسكندريةِ، وحفظ القرآنَ وبعضَ الكتبِ العلمية، وبحثَ في العرُوضِ وغيرهِ، وحجَّ مرارًا وجاورَ، وزارَ بيتَ المقدسِ والإسكندرية، وتقَّدمَ في الفنونِ. وفاقَ في النحوِ والصرفِ. بحيث قيل إنه كان أنحى علماءِ مصرَ، وكان علاَّمةً خيِّرًا متعبِّدًا منقطعًا عن الناس، مع علو رتبتِه عندهم، متواضعًا مع الفقراء، بشوشًا، عاقلًا، ساكنًا، طارحًا للتكلِّفِ في سائرِ أحوالهِ، على طريقةِ السلفِ، زائد الخفرِ والوقارِ، انتفع به الفضلاءُ، واشتهر اسمُه، مات بمكةَ سنة ٨٥٦؟ في رمضان، وكان من أئمة الحنفيةِ، اجتمعَ فيه العلمُ والزهدُ واتباعُ السلفِ١.
٥- الجمال الكازَرُوني:
هو محمد بن أحمد بن محمد بن محمود بن روزبة الجمال والمحب والشمس أبو عبد الله وأبو البركات بن الصفي أبي العباس الشمس أبي الإيادي بن الجمال أبي الثناء الكازروني الأصل، المدني الشافعي، ولد سنة ٧٥٧؟ بالمدينة النبوية، ارتحلَ إلى مصرَ والشامِ وغيرهما، وسمعَ من كثيرين، وأخذَ الحديثَ والفقهَ والنحْو، وصارَ فقيهَ المدينةِ وعالمهَا وقاضيها، وقد أخذ عنه كثيرون، وممن أخذَ عنه إجازةٍ الأبذيُّ حين ذهبَ إلى الحجِّ، توفى بالمدينةِ في ليلة الاثنين ثاني عشر شوال سنة ٨٤٣؟٢.
_________
١ انظر: الضوء اللامع م٣ ج٦ ص ١٣.
٢ انظر الضوء اللامع ٧: ٩٦-٩٧.
1 / 408
٦- العز عبد السلام البغدادي:
هو عز الدين عبد السلام١ بن أحمد بن عبد المنعم بن أحمد بن محمد الشرف الحسيني القَيْلوي الأصل، نسبة لقريةٍ ببغداد، يُقالُ لها: "قليويه" كنفطويه، البغداديّ القاهريّ الحنبليّ الحنفيّ.
ولد سنة ثمانين وسبعمائة تقريبًا ببغداد، ونشأ بها فقرأَ القرآنَ، وحفظَ كتبًا جمةً في فنونٍ كثيرة، وأكثر من المحفوظات جدًا وبحثَ في غالبِ العلومِ على مشايخِ بغدادَ والعجم والروم، حتى أنه بحثَ في فقه الشافعية والحنابلة وبرع فيهما، وصار يُقرئُ كتبَهما، ولازمَ الرحلةَ في العلمِ، إلى أن صار أحدَ أركانِه، وأدمنَ الاشتغالَ به، بحيث بقي أوحدَ زمانِه، وسمعَ أصولَ الحنفيةِ ودرسَ النحوَ والصرفَ، وأخذَ أصولَ الدينِ وآدابَ البحثِ والفرائض، والطب والمعاني والبيان، والمنطق وعلم الجدل والموسيقى، وارتحلَ إلى تبريز، ثم إلى أرزبخان من بلادِ الرومِ، فأخذ علمَ التصوّفِ، ثم عادَ من بلادِ الرومِ، وناظرَ في الشامِ، واجتمعَ في القدسِ ببعضِ العلماءِ، وقد أشيرَ إليه في الصرف والنحو والمعاني والبيانِ، والمنطق والجدل وآداب البحث، والطب والعروض والفقه والتفسير، والقراءات، والتصوف وغيرها، ونزل بالجمالية، وقُرِّر في صوفيتها، وأقبلَ الناسُ عليه، فأخذوا عنه، وعَظُم في عينِ السلطانِ، ونُعت بالشيخ الإمامِ العالمِ العامل الفاضل المفنن ذي الفوائد والفرائد مفيد الطالبين، وأُذنَ له في
_________
١ وقيل اسمه عز الدين بن عبد السلام وأنه سلطان العلماء. انظر المغني لابن قدامة ١: ١٤.
1 / 409
إقراءِ علومِ الحديثِ وإفادته، وقرَّره الزيني عبد الباسط متصدّرًا بمدرستهِ ووصلَه بعطاء، وسكنها بعد الجمالية وقتًا ثم انتقل منها إلى غيرِها، فولي مشيختَها، وانتفعَ به الناسُ، وممن قرأ عليه الأبذيُّ وغيرهُ مِنَ المالكية، وصار غالبُ فضلاءِ الديارِ المصريةِ من تلامذته، كلّ ذلك مع الخيرِ، والديانةِ والأمانةِ، والزهدِ والعفِة، والتقشّفِ في مسكنِه وملبسِه ومأكلِه، والانعزال عن بني الدنيا، والتواضع مع الفقراء والإطعام وكرم النفس والصبر على الاشتغال، واحتمال جفاءِ الطلبةِ والتصدّي لهم طولَ النهارِ، والتقنّع بزراعاتٍ يزرعُها في الأريافِ، ومقاساة أمرِ المزارعين وإتعابهم، والإكثار من تأمل معاني كتاب الله ﷿ وتدبّره، مع كونِه لم يستظهرْ جميعَه، ويعتذرُ عن ذلك بكونِه لا يحبُّ قراءتَه بدونِ تأملٍ وتدبر وسُمع عن بعضِ علماءِ العصرِ أنه قال: لم نعلم أنه قدمَ مصرَ في هذه الأزمانِ مثلُه، ولقد تجملتْ هي وأهلها به، وكان ربما جاءه الصغير لتصحيح لوحه، ونحوه من الفقراء والمبتدئين لقراءة درسه، وعنده من يقرأ من الرؤساء، فيأمرهم بقطع قراءتهم، حتى ينتهي تصحيح ذاك الصغير، أو قراءة ذلك الفقير، ويقول: أرجو بذلك القربةَ وترغيبهم، وأن اندرج في الربانيين ولا يعكس، ولم يحصل له إنصاف من رؤساءِ الزمان في أمر الدنيا ولا أُعطى وظيفة مناسبة لعليّ مقامه، وكان فصيح اللسان مفوهًا، طلق العبارة، قويّ الحافظة، سريع النظم جدًا، وشرع في جمع شِعره في ديوان على حروف المعجم، وكتب منه قطعة، إلى غير ذلك من التآليف والتعاليق التي كان يميلها على الطلبة، ومن ذلك على إيساغوجي والشمسية والألفية والتوضيح، واعتذر عن عدم الإكثار من التصانيف والتصدّي لها بأنه ليس من عدّة الموت لعدم الإخلاص فيه أو كما قال. وكان يُقصد بالفتاوى في النوازل الكبار
1 / 410
ودونها، ولم يزل على طريقته متصدّيًا لنشر العلم حتى مات في عشري رمضان سنة تسع وخمسين وثمانمائة. ولم يخلف بعدَه في مجموعه مثله١.
٧- العز عبد السلام القدسي:
هو عبد السلام بن داود بن عثمان بن القاضي شهاب الدين عبد السلام بن عباس العز السلطي الأصل، المقدسيّ الشافعيّ، ويعرف بالعز القدسيّ، ولدَ في سنة إحدى أو اثنتين وسبعين وسبعمائة بكفر الماء، وهي قرية بالشام، ونشأ بها فقرأ القرآن، وفهمه عم والده بعض المسائل، ثم انتقل به قريبه البدر محمود العجلوني، أحد شيوخ البرهان الحلبي، في حدود سنة سبع وثمانين إلى القدس، فحفظ به في أسرع وقت عدة كتب في فنون شتى، بحيث كان يقضي العجب من قوة حافظته، وعلو همته ويقظته ونباهته، وبحث على البدر المذكور في الفقه إلى أن أذن له في الإفتاء والتدريس سريعًا، ثم ارتحل به إلى القاهرة في السنة التي تليها، فحضر بها دروس بعض العلماء، وسافر صحبةَ البدر إلى دمياط والاسكندرية وغيرهما من البلاد التي بينهما كسنباط، واجتمعا بقاضيها، ثم رجعا إلى القاهرة، ثم إلى القدس، وسمع بغزة على قاضيها، ثم عادا لبلادهما، ودخل صحبة البدر مدينة السلط والكرك وعجلون وحسبان، وجال في تلك البلاد، فلما مات البدر، ارتحل إلى دمشق، وذلك في حدود سنة سبع وتسعين، وجدَّ في الاشتغال بالحديث والفقه وأصله والعربية، وغيرها من علوم النقل والعقل على مشايخها، وسمع بها الحديث من جماعة كثيرين، وحج
_________
١ انظر الضوء اللامع ٢:١٨٠.وشذرات الذهب: لابن العماد الحنبلي ٧: ٢٩٤- ٢٩٥.
1 / 411
في سنة ثمانمائة، فسمع بالمدينة النبوية على بعض علمائها، وبمكة ثم رجع إلى دمشق، فسمع بها الكثير وأكثر من السماع والشيوخ، ثم انتقل في سنة ثلاث وثمانمائة إلى الديار المصرية، فقطن القاهرة ولازم علماء الفقه والحديث، ناب في القضاء سنة أربع ثم أعرض عن ذلك لكون والده عتبه عليه لتعطّله به عن الاشتغَال، ثم عاد إلى النيابة في سنة تسع، واستمر حتى صار من أجلاَّء النوَّاب، وصحب كاتب السر، وصار يزاحم الأكابر في المحافل، ويناطح الفحول الأماثل، بقوة بحثه وشهامته وغزارة علمه وفصاحتِه، واستمر في تدريس الحديث بالجمالية، وناب في الخطابة بالمؤيدية أول ما فتحت، واستقر به الزين عبد الباسط في مشيخة مدرسته بالقاهرة أول ما فتحت، بل ولي مشيخة الصلاحية ببيت المقدس، ثم رجع العز إلى القاهرة، فأقام بها على نيابة القضاء مع مرتب رتبه له عبد الباسط، إلى أن أعيد إلى الصلاحية، واستمر فيها حتى مات، وقد حدَّث بأشياء بالقاهرة وبيت المقدس وغيرهما، وممن قرأ عليه قاضي المالكية بحماة. ووصفه بشيخنا الإمام العلامة شيخ الإسلام علم المحققين حقًا وحائز فنون العلم صدقًا، وكذا درَّس وأفتى وأفاد، وانتفع به الفضلاء، سيما أهل تلك النواحي، وكان إمامًا علاّمة، داهية، فصيحًا في التدريس والخطابة وغيرهما، حسن القراءة جدًا، مفوهًا، طلق العبارة، قوي الحافظة، حتى في التاريخ وأخبار الملوك، جيّد الذهن، حسن الإقراء، كثير النقل والتنقيح، متين النقد والترجيح، وأقرأ هناك في جامع المختصرات فكان أمرًا عجبًا، صحيح العقيدة، شديد الحط والإنكار على أصحاب العقائد الرديئة، مغرمًا ببيان تزييفها، جوادًا كريمًا إلى الغاية، قل أن ترى العيون في
1 / 412
أبناء جنسه نظيره في الكرم١.
تلاميذه: أخذَ عنه الأعيانُ من كلِّ مذهبِّ فنونًا، كالفقهِ، والعربيةِ والصرفِ والمنطقِ والعروضِ، وتصدَّى لنفعِ الطلبةِ بالأزهرِ ثم بالباسطيةِ، فأخذ عنه السخاويُّ العربيةَ وغيرها، وأخذ عنه أيضًا أخو السخاويِّ٢، والأشمونيُّ٣، والقاضي زكريا الأنصاري وابن الابشيهي، وفيما يلي ترجمة لكل منهم: ١- السخاوي: هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان السخاوي الأصل، القاهري الشافعي، وربما يُقالُ له: "ابن البارد"، شهرةً لجدِّه بينَ أناس مخصوصين، ولم يشتهر بها أبوه، ولا هو، بل كان يكرهُها، ولا يذكرُه بها إلًا من يحتقرُه. ولد سنة ٨٣١؟، ودرس الفقهَ والفرائضَ والأصولَ والمعاني والبيانَ والتفسيرَ، والعربية والصرفَ والمنطق، وحجَّ، وزارَ المدينةَ، وقرأ بها على بعض المشائخِ، ورجعَ للقاهرةِ فأقام بها ملازمًا السماعَ والقراءةَ والتخريجَ والاستفادةَ من الشيوخ والأقران، ثم ارتحل إلى حلب، وسمع بغزةَ والرملِ وبيت المقدس والخليل ونابلس ودمشق، والزبداني وبعلبك وحمص وحماه، _________ ١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١، ولم أقف على ترجمته. ٣ انظر الضوء اللامع ٤: ١٢٢.
تلاميذه: أخذَ عنه الأعيانُ من كلِّ مذهبِّ فنونًا، كالفقهِ، والعربيةِ والصرفِ والمنطقِ والعروضِ، وتصدَّى لنفعِ الطلبةِ بالأزهرِ ثم بالباسطيةِ، فأخذ عنه السخاويُّ العربيةَ وغيرها، وأخذ عنه أيضًا أخو السخاويِّ٢، والأشمونيُّ٣، والقاضي زكريا الأنصاري وابن الابشيهي، وفيما يلي ترجمة لكل منهم: ١- السخاوي: هو محمد بن عبد الرحمن بن محمد بن أبي بكر بن عثمان السخاوي الأصل، القاهري الشافعي، وربما يُقالُ له: "ابن البارد"، شهرةً لجدِّه بينَ أناس مخصوصين، ولم يشتهر بها أبوه، ولا هو، بل كان يكرهُها، ولا يذكرُه بها إلًا من يحتقرُه. ولد سنة ٨٣١؟، ودرس الفقهَ والفرائضَ والأصولَ والمعاني والبيانَ والتفسيرَ، والعربية والصرفَ والمنطق، وحجَّ، وزارَ المدينةَ، وقرأ بها على بعض المشائخِ، ورجعَ للقاهرةِ فأقام بها ملازمًا السماعَ والقراءةَ والتخريجَ والاستفادةَ من الشيوخ والأقران، ثم ارتحل إلى حلب، وسمع بغزةَ والرملِ وبيت المقدس والخليل ونابلس ودمشق، والزبداني وبعلبك وحمص وحماه، _________ ١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١، ولم أقف على ترجمته. ٣ انظر الضوء اللامع ٤: ١٢٢.
1 / 413
والمعرَّة وطرابلس، له عدةُ مؤلفات١.
٢- الأشموني:
هو عبد الرحمن بن محمد بن أحمد الأشمونيّ الأصل القاهريّ الشافعيّ المنهاجي نزيل الباسطية، وقيل له المنهاجي، لأنَّ جدَّه قدم من الأشمونيين قبل بلوغِه فحفظ القرآن والمنهاج في سنة فلُقِّب بذلك. ولد عبد الرحمن في ذي الحجةِ سنة خمس وثلاثين وثمانمائة وأبوه غائبٌ بمكةَ فرأى في غيبتِه قائلًا يقول له: يُولد لك ذكرٌ فسمِّه عبد الرحمن، فلما قَدِم ووجدهم سمّوه بغيره، غيّره، ونشأ فحفظ القرآنَ والمنهاجَ وجمعَ الجوامع وألفيةَ النحو والتلخيصَ والشاطبيتين، ودرس الفقهَ وأخذ النحو عن العز عبد السلام البغدادي والأبذي وقرأ عليهما الألفية. وعلى أولهما الحاجبية مع المعاني والبيان وأصول الفقه، وحج وأقام بمكةَ عشرين سنة، ثم لما قدم تحَوّل إلى الباسطية ولزم الانجماع بها مع مزيد تقنّعه وتقلّله وعدم قبوله إلا نادرًا. والغالبُ عليه سوءُ الطباع، مع فضل وفهم٢.
٣- القاضي زكريا الأنصاري:
هو زكريا بن محمد بن أحمد بن زكريا.. الأنصاري السنبكي القاهري الأزهري الشافعي القاضي، ولد سنة ٨٢٦؟ بسنبكة من الشرقية، ونشأ بها، ثم رحل إلى القاهرة، وأخذ عن كثيرين، ولم ينفك عن الاشتغال على طريقة جميلة من التواضع وحسن العشرة والأدب والعفة والانجماع عن بني الدنيا مع
_________
١ انظر الضوء اللامع م٤ ج٨ ص١-٣٢.
٢ انظر الضوء اللامع ٤: ١٢٢.
1 / 414
التقلل، وشرف النفس، ومزيد العقل، وسعة الباطن، والاحتمال والمداراة، إلى أن أذِن له غيرُ واحدٍ من شيوخه في الإفتاء والإقراء١.
قال عنه السخاويُّ: "وأصول الدين على العز المذكور ... والأبدي، وغيرهم، وعن كل مشايخه في أصل الدين أخذ النحو"٢. وقال أيضًا بعد ذكره أحد شيوخه: "وعن من عداه من شيوخ الصرف أخذ المنطق وكذا عن و... و... والأبدي"٣.
٤- ابن الأبشيهي:
هو محمد بن أحمد بن محمد بن موسى بن الشهاب المغراوي الأبشيهي الأصل القاهري المالكي، ولد سنة ٨٣٤؟ بالقاهرة، ونشأ فحفظ القرآن وغيره، واشتغل في الفقهِ وغيره، وأخذ عن كثيرين منهم الأُبَّذي، وتميَّز، ووُصف بالشيخِ العلامة، النحرير الفهَّامة، المحقِّق الأمجد، مات سنة ٨٩٨هـ ٤.
صفاته: كان الأبذي متواضعًا، بشوشًا، رضيًا، مُجَابَ الدعوة حتى قيل إنه لكثرة ما كان يرى من تهكّم الشباسي٥ بالطلبة، بل وبالشيوخ، دعا عليه، _________ ١ انظر الضوء اللامع ٣: ٢٣٤ - ٢٣٨. ٢ المصدر السابق ٣: ٢٣٤. ٣ انظر الضوء اللامع ٣: ٢٣٥. ٤ انظر الضوء اللامع ٧: ٩٨. ٥ أحمد بن محمد الشباسي القاهري الأزهري الشافعي الأجذم، اشتغل في فنون، وتميَّز، وحضر عند القاياتي وشيخ السخاوي والسفطي وغيرهم وسمع ختم البخاري في الظاهرية. كان مع فضله جريئًا بذيئًا، ابتلي بالجذام زيادة على الحد، ويقال إن الشهاب الأبذي دعا عليه ولم ينفك عن بذائته، وانتمى لعبد الرحيم ابن البارزي. فحج به معه في الرجبية. وكان عند تقبيل الحجر الأسود يتقذر الناس منه، ومات بعد السبعين، وكان أبوه من الخيار. انظر الضوء اللامع ٢: ٢١٩.
صفاته: كان الأبذي متواضعًا، بشوشًا، رضيًا، مُجَابَ الدعوة حتى قيل إنه لكثرة ما كان يرى من تهكّم الشباسي٥ بالطلبة، بل وبالشيوخ، دعا عليه، _________ ١ انظر الضوء اللامع ٣: ٢٣٤ - ٢٣٨. ٢ المصدر السابق ٣: ٢٣٤. ٣ انظر الضوء اللامع ٣: ٢٣٥. ٤ انظر الضوء اللامع ٧: ٩٨. ٥ أحمد بن محمد الشباسي القاهري الأزهري الشافعي الأجذم، اشتغل في فنون، وتميَّز، وحضر عند القاياتي وشيخ السخاوي والسفطي وغيرهم وسمع ختم البخاري في الظاهرية. كان مع فضله جريئًا بذيئًا، ابتلي بالجذام زيادة على الحد، ويقال إن الشهاب الأبذي دعا عليه ولم ينفك عن بذائته، وانتمى لعبد الرحيم ابن البارزي. فحج به معه في الرجبية. وكان عند تقبيل الحجر الأسود يتقذر الناس منه، ومات بعد السبعين، وكان أبوه من الخيار. انظر الضوء اللامع ٢: ٢١٩.
1 / 415
فابتُلي بالجذام، كما كان عديم التردد لبني الدنيا، بعيدًا عن الشر١.
مؤلفاته: قال السخاوي عن الأبذي: "كتب بخطِّه أشياءَ، بل درَّب زوجته نفيسه، وكانت تكتُب له أيضًا":٢. ولكن لم تورد كتبُ الطبقاتِ القليلةُ التي ترجمت له إلا نزرًا يسيرًا عن مؤلفاته. ومن تلك المؤلفات: ١- كتاب الحدود في علم النحو الذي نحن بصدد تحقيقه. وذكر السخاوي أنه في إرشاد المبتدئين، وأثنى عليه بأنه نافع٣. ٢- شرح على كتاب إيساغوجي٤ في علم المنطق،٥ وقد قرَّظه السخاويُّ بأنه مفيد٦. _________ ١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١. ٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٣ المصدر السابق ٢: ١٨٠. ٤ إيسا غوجي: معناه المدخل. وهو اسم لكتاب وضعه فرفوريوس الصوري أحد فلاسفة الأفلاطونية الجديدة على مقولات أرسطو، وقام فيه بشرح فلسفة أفلاطون، وتناول فيه كليات أرسطو وكانت عنده أربعًا فزاد عليها فرفوريوس كليا خامسًا هو النوع الذي لم يكن أرسطو يعده من الكليات، بل كان يعده الموضوع نفسه إذ الأحكام العلمية تصدر على الأنواع لا على الأفراد. والنوع إنما يضاف إلى الفرد. مثل قولنا: "سقراط إنسان". ترجم كتاب إيساغوجي إلى العربية فقرأه الحكيم ابن سينا، واشتهر عند المسلمين في صورة اقتباسات وملخصات وشروح، منها كتاب لأبي الحسن بن ابراهيم بن عمر البقاعي الشافعي مع شرح للسنونسي. وكتاب للأبهري وله شروح كثيرة ونظمه الأخضري رجزًا. انظر: (مفتاح السعاة ومصباح السيادة لطاش كبري زادة ص ٢٩٤، والموسوعة الثقافية ١: ٧٣٣، والموسوعة العربية الميسرة ج١ ص٢٨٥) . ٥ انظر: الضوء اللامع ٢: ١٨٠، وكشف الظنون١:٢٠٧والأعلام١: ٢١٨،ومعجم المؤلفين ٢:١٥٠. ٦ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠.
مؤلفاته: قال السخاوي عن الأبذي: "كتب بخطِّه أشياءَ، بل درَّب زوجته نفيسه، وكانت تكتُب له أيضًا":٢. ولكن لم تورد كتبُ الطبقاتِ القليلةُ التي ترجمت له إلا نزرًا يسيرًا عن مؤلفاته. ومن تلك المؤلفات: ١- كتاب الحدود في علم النحو الذي نحن بصدد تحقيقه. وذكر السخاوي أنه في إرشاد المبتدئين، وأثنى عليه بأنه نافع٣. ٢- شرح على كتاب إيساغوجي٤ في علم المنطق،٥ وقد قرَّظه السخاويُّ بأنه مفيد٦. _________ ١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١. ٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٣ المصدر السابق ٢: ١٨٠. ٤ إيسا غوجي: معناه المدخل. وهو اسم لكتاب وضعه فرفوريوس الصوري أحد فلاسفة الأفلاطونية الجديدة على مقولات أرسطو، وقام فيه بشرح فلسفة أفلاطون، وتناول فيه كليات أرسطو وكانت عنده أربعًا فزاد عليها فرفوريوس كليا خامسًا هو النوع الذي لم يكن أرسطو يعده من الكليات، بل كان يعده الموضوع نفسه إذ الأحكام العلمية تصدر على الأنواع لا على الأفراد. والنوع إنما يضاف إلى الفرد. مثل قولنا: "سقراط إنسان". ترجم كتاب إيساغوجي إلى العربية فقرأه الحكيم ابن سينا، واشتهر عند المسلمين في صورة اقتباسات وملخصات وشروح، منها كتاب لأبي الحسن بن ابراهيم بن عمر البقاعي الشافعي مع شرح للسنونسي. وكتاب للأبهري وله شروح كثيرة ونظمه الأخضري رجزًا. انظر: (مفتاح السعاة ومصباح السيادة لطاش كبري زادة ص ٢٩٤، والموسوعة الثقافية ١: ٧٣٣، والموسوعة العربية الميسرة ج١ ص٢٨٥) . ٥ انظر: الضوء اللامع ٢: ١٨٠، وكشف الظنون١:٢٠٧والأعلام١: ٢١٨،ومعجم المؤلفين ٢:١٥٠. ٦ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠.
1 / 416
مكانته العلمية:
تبوأ الأُبذَّي مكانةً رفيعةً ومنزلةً عاليةً بين علماءِ عصرهِ، لأنه حصَّلَ معظمَ العلومِ وتقدَّم فيها.
قال عنه السخاويُّ: "تقدَّم في العلوم سيما العربية"١.
وقد عدَّد السخاويُّ تلك العلوم، فذكر العربيَّةَ، والصرفَ والعروضَ والمنطقَ والفقه٢.
فكان شيخًا من شيوخ العربية والصرف، يُؤخذ عنه هذا العلم. قال السخاويُّ: "وكنتُ ممن أخذ عنه العربية وغيرها"٣.
وجاء في ترجمة تلميذيه القاضي زكريا الأنصاري والأشموني أن ممن أخذا عنه النحو الأبذي وقد قرأ عليه الثاني الألفية٤.
ولا أدلَّ على معرفته بالعربيةِ والصرفِ من وضعه كتاب الحدود، وقد وصفه السخاوي بأنه نافعٌ كما مَرّ بنا.
وكان إمامًا في علم المنطق، ويشيرُ إلى إحاطته بهذا العلم وضعُه شرحًا على أحد كتبِ المناطقةِ، فوضع شرحًا على إيساغوجي، وتصدَّى لتدريسِ
علمِ المنطق كما تقدَّم٥، وقال عنه عمر رضا كحاله: "عالمٌ بالمنطق"٦.
_________
١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠.
٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١.
٣ المصدر السابق ٢: ١٨٠.
٤ المصدر السابق ٣: ٢٣٤، ٤: ١٢٢.
٥ انظر الضوء اللامع ٣: ٢٣٥.
٦ معجم المؤلفين: عمر رضا كحاله ٢: ١٥٠.
1 / 417
ويوميء إلى تبحره في الفقه أنه طلب منه القضاء فاعتذر عنه١.
ويكفي للإشارة إلى علمه بأصول الدين أن القاضي زكريا الأنصاري درس على يديه هذا العلم كما تقدّم.
ولا شك أن رحلاتهِ في سبيل طلب العلم وتطوافه وتجواله بين حواضر العلم، ومنابره في ذلك الوقت، وانتقاله من بلدٍ لآخر، صقل شخصيّته العلميّة وجعله من متنوّعي الثقافة ومتعدّدي التخصّصات، فقد انتقل كما هي عادة علماء الأندلس إلى بلاد المشرق لينهل من مواردِ العلم.
فانتقلَ من الأندلس إلى المغربِ، وزار مصر والحجازَ٢، وأخذ عن العلماء والتقى بهم واستفادَ من علومِهم المختلفة ومعارفِهم المتنوعة.
كلُّ ذلك خوَّله ليكون من العلماءِ الذين يأخذُ عنهم الأعيانُ من كلِّ مذهبٍ فنونًا مختلفة.
قال السخاويُّ: "أخذ عنه الأعيان من كلِّ مذهبٍ فنونًا، كالفقهِ والعربيةِ والصرفِ والمنطقِ والعروضِ، وكنتُ ممن أخذَ عنه العربيةَ وغيرَها، بل أخذَ عنه أخي أيضًا"٣.
وقد قضى الأبذي حياته عالمًا ومتعلمًا في البيتِ وخارج البيت، فجنَّد نفسه لخدمةِ العلمِ، حتى لقد درَّب زوجه على كتابةِ أشياء له٤، وهذا يدلُّ على شدةِ حبِّه للعلمِ واهتمامِه به، وولعِه بالمعارف، وأن يكون بيتُه بيتَ علم.
_________
١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١.
٢ المصدر السابق ٢: ١٨٠.
٣ المصدر السابق ٢: ١٨٠.
٤ المصدر السابق ٢: ١٨٠.
1 / 418
وقد انتفع طلابُ العلمِ بالأُبذي، قال عنه السخاويُّ: "وتصدَّى لنفعِ الطلبة بالأزهرِ أولًا، ثم بالباسطية، حين سكنها برغبةِ أحدِ شيوخِه العزّ البغداديّ له، إلى أن مات"١.
وقد أُوتي الأبذي موهبةً عظيمة ومقدرةً كبيرة على إرشادِ المبتدئين وإعطائِهم أصولَ الصناعةِ وحدودَها بشكل عام ومبسّط ينتظمُ معظمَها ويشملُ غالبَ أبوابِها.
قال عنه السخاويُّ: "لم يكنْ بعدَ الشيخِ ابنِ خضرٍ٢ من يدانيه في إرشادِ المبتدئين"٣.
وفاته: تُوفِّى في عشري رمضان سنة ستين وثمانمائة بالقاهرة، ودفن بتربة الصلاحية٤، وقد جاوز الستين. وهناك من يقول: إن وفاته سنة إحدى وستين، وإن الجمالي٥ ناظر الخاص أرسل يلتمس منه قضاء المالكية٦ بعد وفاة السنباطي فاعتذر بضعفه، ولم _________ ١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٢ هو محمد بن أحمد بن جمعه بن مسلم عزيز الدين الدمشقي الصالحي الحنفي ويعرف بابن خضر، ولد سنة ٧٧٢؟ واشتغل ومهر وأذن له في الإفتاء وناب في الحكم وصار المنظور إليه من الحنفية بالشام، مات سنة ٨١٨؟. انظر الضوء اللامع م٤ ج٧ ص ٦٠ - ٦١. ٣ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٤ اسم مقبرة ويوجد بدمشق أيضا مكان بهذا الاسم. انظر غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري١: ٥٦٩ ٥ يشبك الجمالي ناظر الخاص الجاركسي. ممن حج غير مرة على إمرة الحاج. ولي الحسبة مدة. فشكرت سيرته في ذلك كله، لعقله وتؤدته عنده. والتفات الملك إليه. بحيث عاده في مرضه، ومكث عنده طويلًا. انظر الضوء اللامع م٥ ج١٠ ص٢٧٦. ٦ نسبة إلى المذهب المالكي. وقد جاء في الضوء اللامع م٤ ج٨ ص١١٩ في ترجمة محمد بن عبد الله ولي الدين السنباطي القاهري المالكي أنه كان ينوب عن قضاة مذهبه. وجاء في الأعلام ٩: ٣٢٩ في ترجمة يوسف ابن يحيى بن عبد الرحمن التادلي أبو الحجاج المعروف بابن الزيات أنه (لغوي أدبي من قضاة المالكية) .
وفاته: تُوفِّى في عشري رمضان سنة ستين وثمانمائة بالقاهرة، ودفن بتربة الصلاحية٤، وقد جاوز الستين. وهناك من يقول: إن وفاته سنة إحدى وستين، وإن الجمالي٥ ناظر الخاص أرسل يلتمس منه قضاء المالكية٦ بعد وفاة السنباطي فاعتذر بضعفه، ولم _________ ١ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٢ هو محمد بن أحمد بن جمعه بن مسلم عزيز الدين الدمشقي الصالحي الحنفي ويعرف بابن خضر، ولد سنة ٧٧٢؟ واشتغل ومهر وأذن له في الإفتاء وناب في الحكم وصار المنظور إليه من الحنفية بالشام، مات سنة ٨١٨؟. انظر الضوء اللامع م٤ ج٧ ص ٦٠ - ٦١. ٣ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨٠. ٤ اسم مقبرة ويوجد بدمشق أيضا مكان بهذا الاسم. انظر غاية النهاية في طبقات القراء لابن الجزري١: ٥٦٩ ٥ يشبك الجمالي ناظر الخاص الجاركسي. ممن حج غير مرة على إمرة الحاج. ولي الحسبة مدة. فشكرت سيرته في ذلك كله، لعقله وتؤدته عنده. والتفات الملك إليه. بحيث عاده في مرضه، ومكث عنده طويلًا. انظر الضوء اللامع م٥ ج١٠ ص٢٧٦. ٦ نسبة إلى المذهب المالكي. وقد جاء في الضوء اللامع م٤ ج٨ ص١١٩ في ترجمة محمد بن عبد الله ولي الدين السنباطي القاهري المالكي أنه كان ينوب عن قضاة مذهبه. وجاء في الأعلام ٩: ٣٢٩ في ترجمة يوسف ابن يحيى بن عبد الرحمن التادلي أبو الحجاج المعروف بابن الزيات أنه (لغوي أدبي من قضاة المالكية) .
1 / 419
يلبث أن مات، وهو ملتئم مع كونها في سنة إحدى، فإن السنباطي١مات في رجب منها ٢.
نسخ التحقيق: عثرتُ بفضلِ اللهِ على ثلاثِ نسخٍ لهذا المخطوط: النسخة الأولى: حصلتُ عليها من جامعةِ الملكِ سعود بالرياض، واعتمدتُها أصلًا لتحقيقِ الكتابِ، ورمزتُ لها بالرمز (أ)، وهي واضحةٌ وخطُّها جيِّدٌ ووقعتْ في أربعةِ ألواحٍ، في كل لوحٍ صفحتان، وفي كلِّ صفحةٍ واحدٌ وعشرون سطرًا. النسخة الثانية: وهي من جامعةِ الإمامِ محمد بن سعود الإسلاميةِ بالرياض، مصوَّرة عن الظاهريةِ ١٨٤٥- الفهرس ٢٠١ بخطٍّ معتادٍ، ضمن مجموع ١٩-٢٤، ووقعتْ في عشرِ صفحات، وتراوحت السطورُ بينَ اثني عشر سطرًا وثلاثة عشر سطرًا، وخمسة عشر وسبعة عشر. ورمزتُ لها بالرمز (ب) . وهي واضحةٌ، ولكن بها رطوبة. _________ ١ هو محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن إسحاق...... الأموي المحلي المولد ثم السنباطي ثم القاهري المالكي ويعرف بقاضي سنباط ولد سنة ٧٨٧؟ في المحلة الكبرى ونشأ بها وتولي قضاء الإسكندرية ثم القاهرة غير مرة، واستمر فيها، حتى توفي بها يوم الخميس، تاسع رجب سنة ٨٦١؟، انظر: الضوء اللامع ٩: ١١٣ - ١١٤. ٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١.
نسخ التحقيق: عثرتُ بفضلِ اللهِ على ثلاثِ نسخٍ لهذا المخطوط: النسخة الأولى: حصلتُ عليها من جامعةِ الملكِ سعود بالرياض، واعتمدتُها أصلًا لتحقيقِ الكتابِ، ورمزتُ لها بالرمز (أ)، وهي واضحةٌ وخطُّها جيِّدٌ ووقعتْ في أربعةِ ألواحٍ، في كل لوحٍ صفحتان، وفي كلِّ صفحةٍ واحدٌ وعشرون سطرًا. النسخة الثانية: وهي من جامعةِ الإمامِ محمد بن سعود الإسلاميةِ بالرياض، مصوَّرة عن الظاهريةِ ١٨٤٥- الفهرس ٢٠١ بخطٍّ معتادٍ، ضمن مجموع ١٩-٢٤، ووقعتْ في عشرِ صفحات، وتراوحت السطورُ بينَ اثني عشر سطرًا وثلاثة عشر سطرًا، وخمسة عشر وسبعة عشر. ورمزتُ لها بالرمز (ب) . وهي واضحةٌ، ولكن بها رطوبة. _________ ١ هو محمد بن محمد بن عبد اللطيف بن إسحاق...... الأموي المحلي المولد ثم السنباطي ثم القاهري المالكي ويعرف بقاضي سنباط ولد سنة ٧٨٧؟ في المحلة الكبرى ونشأ بها وتولي قضاء الإسكندرية ثم القاهرة غير مرة، واستمر فيها، حتى توفي بها يوم الخميس، تاسع رجب سنة ٨٦١؟، انظر: الضوء اللامع ٩: ١١٣ - ١١٤. ٢ انظر الضوء اللامع ٢: ١٨١.
1 / 420
النسخة الثالثة:
وهي من جامعةِ الإمامِ محمد بن سعود الإسلاميةِ بالرياضِ أيضًا. ومصوَّرة عن دارِ الكتبِ المصريةِ، وكتبها عبد العال بن منصور البحيريّ الأزهريّ سنة ١٠٩٤؟، بخطٍ نسخيٍّ، ووقعتْ في ثلاثةِ ألواحٍ، وفي كل صفحةٍ خمسةٌ وعشرونَ سطرًا، وتصويُرها رديء، فصَعُبَ قراءةُ بعضِها، ورمزتُ لها بالرمز (ج) .
توثيق نسبة الكتاب إلى الأبذي:
جاءَ في نسخةِ (أ): "كتاب الحدود في علمِ النحوِ: تأليف الشيخ الإمام أبي العباس أحمد الأبذي ﵀ ونفع به".
وجاءَ في نسخة (ج): "هذه حدود النحو: للعلامة الأبذي".
وجاء في الضوءِ اللامعِ في أخبار القرن التاسع للسخاوي في ترجمة أحمد الأبذي: "له فيها" يعني في العربية " حدود نافعة"١.
وجاء في إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون: "حدود النحو: لشهاب الدين الأبدي، مختصر، أوله: حد النحو في اللغة: القصد"٢.
جهدي في التحقيق:
- قابلتُ بينَ نسخِ الكتابِ الثلاثِ، وقارنتُها ببعضٍ، ونبَّهتُ على ما بينها من أوجهِ الاتفاقِ والاختلاف.
_________
١ الضوء اللامع في أخبار القرن التاسع: للسخاوي ٢: ١٨٠.
٢ إيضاح المكنون في الذيل على كشف الظنون عن أسامي الكتب والفنون: لإسماعيل باشا ٣: ٣٩٦ وانظر أيضًا ص ٣٩١.
1 / 421
- تناولتُ ماندَّ عنِ الأفهامِ، وآستعصى على الإدراكِ من العباراتِ والأساليبِ والمصطلحاتِ بالشرحِ والتبيان، فوضحتُ ما غمضَ من عبارةِ الكتابِ وما اقتضب من جملتهِ.
- قمتُ بالتعقيبِ والتعليقِ على ما وجدتهُ مثارَ جدلٍ، وموضعَ خلافٍ بينَ النحاةِ، من المدارسِ المختلفةِ.
- عزوتُ النصوصَ إلى قائليها، وأرجعتُها إلى مصادرِها الأصلية.
- عرَّفتُ الأعلامَ الواردةَ في الكتابِ، وهي قليلة.
- عملتُ فهرسًا للمراجعِ والمصادر وآخر لموضوعات ومحتويات الكتاب.
وهذا جهدُ المقلِّ، فما كان فيه من صوابٍ فمن الله، وما كان من خلافه فنسألُ اللهَ التجاوزَ عن الزللِ والتقصيرِ.. إنه نِعمَ المولى ونِعم النصير.
1 / 422