لم نتحدث كثيرا في ساعة الإفطار. وقد كانت هيلدا في ذلك المزاج «لا أعلم ماذا سنفعل!» من ناحية بسبب سعر الزبد، ومن ناحية أخرى بسبب قرب انتهاء إجازات الكريسماس وكان لا يزال علينا دفع خمسة جنيهات مصاريف للمدرسة عن الفصل الدراسي الأخير. أكلت بيضتي المسلوقة وفردت بعضا من مربى جولدن كراون على قطعة من الخبز. تصر هيلدا على شراء هذا الشيء. إن سعره خمسة بنسات ونصف البنس، ومكتوب على الملصق خاصته بأصغر خط يسمح به القانون: إنه يحتوي على «نسبة معينة من عصير الفاكهة متعادل الحموضة». استفزني ذلك فتحدثت، بالطريقة الغاضبة التي أتحدث بها في بعض الأحيان، عن أشجار الفاكهة متعادلة الحموضة متسائلا عن شكلها والبلدان التي تنمو فيها حتى أثرت في النهاية غضب هيلدا. لم يكن ذلك لأنها تمانع من سخريتي منها، ولكن لأنها على نحو غامض تظن أنه من الكريه أن نسخر من أي شيء نوفر فيه بعض المال.
ألقيت نظرة على الصحيفة، ولكن لم تكن ثمة أخبار تذكر. في الجنوب في إسبانيا وفي الجانب الآخر في الصين كان الناس يتقاتلون كعادتهم؛ وعثر على ساقي امرأة في غرفة انتظار بمحطة للسكك الحديدية؛ وكان زفاف الملك زوجو على كف عفريت. وفي النهاية، في حوالي الساعة العاشرة، وقبل ما كنت أتوقع، خرجت إلى البلدة. ذهب الطفلان للعب في الحدائق العامة. كان صباحا باردا برودة موحشة. وبمجرد أن تخطيت عتبة الباب، هبت ريح كريهة التصقت بالصابون المتبقي على عنقي، وجعلتني أشعر فجأة بأن ملابسي لم تعد صالحة للخروج وأن كل ما في لزج.
2
هل تعرف الشارع الذي أسكن فيه، شارع إلزمير بمنطقة غرب بلتشلي؟ حتى إذا لم تكن تعرفه، فبالتأكيد تعرف خمسين شارعا آخر يشبهه تماما.
تعرف كيف تنتشر هذه الشوارع في جميع الضواحي الداخلية والخارجية. وهي تتشابه دائما. إنها طويلة، بصفوف طويلة من منازل صغيرة نصف مستقلة - إن أرقامها في شارع إلزمير تصل إلى 212، ومنزلنا هو المنزل رقم 191 - تشبه منازل الإيجار المملوكة للبلدية، بل هي أكثر قبحا عادة؛ حيث الواجهات المكسوة بالجص، والبوابات المطلية بزيت القطران، وسياج الشجيرات، والأبواب الأمامية الخضراء. ومن سكانها آل لوريل وميرتل وهوثورن ومون إبري ومون ريبوس، وبيل فيو. ربما في منزل واحد من كل خمسين منزلا يوجد شخص غير اجتماعي ممن قد ينتهي بهم الحال في ملجأ للفقراء، والذي قد طلي بابه الأمامي باللون الأزرق وليس الأخضر.
هذا الإحساس اللزج حول عنقي قد أكسبني مزاجا أشعر فيه بالإحباط. من الغريب أن تشعر بالكآبة بسبب عنق زلق؛ إذ يبدو أنه يسلبك كل نشاطك، مثلما تكتشف فجأة في مكان عام أن نعل أحد زوجي حذائك قد انخلع. لم تكن لدي أي أوهام عن نفسي في ذلك الصباح، ولكن الأمر كان كما لو كنت أقف على مسافة وأشاهد نفسي أنزل إلى الشارع بوجهي الأحمر البدين وطقم أسناني وملابسي القديمة. إن رجلا مثلي لا يقدر على أن يبدو كالوجهاء. وحتى إذا رأيتني على مسافة مائتي ياردة، فستعلم على الفور أنه ليس بالضرورة أنني أعمل في مجال التأمين، بل بائع متجول أو مندوب مبيعات؛ فالملابس التي كنت أرتديها كانت في الواقع الزي الرسمي لمن يعملون في مثل مهنتي. لقد كنت أرتدي بدلة رمادية بخطوط متعرجة كانت في حالة سيئة بعض الشيء، ومعطفا أزرق قيمته خمسون شلنا، وقبعة مستديرة، ولا أرتدي قفازا. ويبدو علي ذلك المظهر المميز لهؤلاء الذين يبيعون أشياء بعمولة، وقد كان مظهرا غليظا وفظا. في أفضل أوقاتي، عندما أشتري بدلة جديدة أو عندما أدخن السيجار، قد أبدو مثل وكيل مراهنات بسباقات الخيل أو صاحب حانة، وعندما أكون في أسوأ حالاتي، قد أبدو مثل بائعي المكانس الكهربائية؛ أما في الأوقات العادية، فقد يمكنك جيدا معرفة أي نوع من الرجال أنا. «لا بد أنه يتقاضى من خمسة إلى عشرة جنيهات في الأسبوع.» هكذا ستقول لنفسك بمجرد أن تراني. من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، أعد في المستوى المتوسط لسكان شارع إلزمير.
أصبح الشارع لي وحدي تقريبا؛ فقد هرع الرجال للحاق بقطار الثامنة وإحدى وعشرين دقيقة، وكان النساء يجلسن أمام مواقد الغاز. عندما يكون لديك الوقت للنظر حولك، وعندما يتصادف أن تكون في مزاج جيد، فثمة شيء يجعلك تضحك بينك وبين نفسك عند السير في هذه الشوارع في الضواحي الداخلية والخارجية، والتفكير في هؤلاء الذين يعيشون فيها؛ لأنه، في نهاية المطاف ، ما ظنك بهذا الشارع الذي يسمى شارع إلزمير؟! إنه مجرد سجن بزنزانات مصطفة؛ صف من غرف التعذيب شبه المنفصلة، حيث يرتجف ويرتعش هؤلاء الفقراء المصابون بالهزال الذي يحصلون في الأسبوع على خمسة جنيهات إلى عشرة جنيهات، وكل واحد منهم لديه مدير في عمله ينغص عليه حياته، وزوجة تستبد به كالكابوس، وأطفال يمتصون دمه كالعلقات. ثمة الكثير من الهراء مما يقال عن معاناة الطبقة العاملة، ولكنني لست شديد الأسف على هؤلاء الكادحين. هل عرفت يوما عامل حفر يظل مستيقظا بالليل يفكر في طرده من العمل؟ يعاني أبناء الطبقة العاملة بدنيا، ولكنهم يضحون رجالا أحرارا عندما لا يعملون. ولكن في كل صندوق من تلك الصناديق الصغيرة المكسوة بالجص يسكن وغد مسكين لا يتحرر قط إلا عندما ينام بعمق ويحلم بأنه يلقي بمديره في قعر بئر ثم يلقي عليه قطعا من الفحم المتقد.
في واقع الأمر، إن المشكلة الأساسية لدى أشخاص مثلنا، بحسب تصوري، هي أننا جميعا نتخيل أن لدينا شيئا قد نخسره. بادئ ذي بدء، فإن تسعة أعشار سكان شارع إلزمير يتصورون أنهم يملكون منازلهم، ولكن شارع إلزمير والحي بأكمله الذي يحيط به حتى تصل إلى هاي إستريت هو جزء من مشروع احتيالي ضخم باسم عقارات هيسبيريدز، وهو ملك لجمعية البناء تشيرفول كريديت. تكاد تكون جمعيات البناء النصاب الأذكى في العصر الحديث. إن مجال التأمين الذي أعمل فيه يمارس خداعا أيضا، أشهد على ذلك، ولكنه خداع صريح مكشوفة أوراقه، بينما ما يميز خداع جمعيات البناء هو أن ضحاياها يعتقدون أنها تعمل لمنفعتهم؛ إنها تضربهم بعنف ويقبلون هم يدها. إنني أعتقد في بعض الأحيان أن عقارات هيسبيريدز يجب أن تكرم بتمثال ضخم يمثل إله جمعيات البناء، الذي سيكون تمثالا غريب الأطوار، ومن بين أمور أخرى، سيكون ثنائي الجنس. سيمثل الجزء الأعلى من التمثال مديرا عاما، بينما يمثل الجزء الأسفل زوجة بشكلها العائلي. وفي إحدى يديه سيحمل مفتاحا ضخما - مفتاح ملجأ الفقراء بالطبع - وفي اليد الأخرى سيحمل ذلك الشيء الأشبه بالبوق الفرنسي الذي تخرج منه الهدايا، الذي يطلقون عليه قرن الوفرة، والذي ستخرج منه أجهزة راديو محمولة ووثائق تأمين على الحياة وأطقم أسنان وأقراص أسبرين وواقيات ذكرية ومداحل حدائق إسمنتية.
في حقيقة الأمر إننا في شارع إلزمير لا نملك منازلنا، حتى عندما ننتهي من دفع أقساطها؛ فهي ليست حيازة عقارية خالصة، بل هي فقط حيازة على سبيل الإيجار. وهي قيمتها خمسمائة وخمسون جنيها تدفع على مدة ستين عاما؛ وهي من ذلك النوع من المنازل التي إذا دفعت سعرها نقدا دفعة واحدة، فسيكون سعرها ثلاثمائة وثمانين تقريبا. ذلك يمثل فائدة قدرها مائة وسبعون لصالح شركة تشيرفول كريديت، ومن نافلة القول أن تشيرفول كريديت تتحصل على أكثر من ذلك من هذه العملية؛ حيث تشمل الجنيهات الثلاثمائة والثمانين ربح المقاول، ولكن تشيرفول كريديت، تحت اسم ويلسون آند بلوم، تبني المنازل بنفسها وتستولي على ربح المقاول، وكل ما تضطر إلى دفعه هو تكلفة مواد البناء، ولكنها تتحصل كذلك على مكسب من مواد البناء؛ إذ تبيع لنفسها تحت اسم بروكس آند سكاتربي الطوب والبلاط والأبواب وإطارات النوافذ والرمل والإسمنت، والزجاج على ما أظن. ولم أستغرب على الإطلاق عندما علمت أنهم تحت اسم مستعار آخر يبيعون لأنفسهم الأخشاب لصناعة الأبواب وإطارات النوافذ. وكذلك - وهو شيء متوقع جدا - فعلى الرغم من أننا قد صدمنا جميعا عندما اكتشفنا الأمر، فإن تشيرفول كريديت لا تلتزم دائما بتعهداتها. عندما بنيت المنازل في شارع إلزمير كان من المفترض أن تكون محاطة ببعض المساحات المفتوحة، التي لم تكن لتكون مذهلة للغاية، ولكن جيدة كي يلعب فيها الأطفال، وقد أطلقوا عليها اسم مروج بلات. لم يكن أي من ذلك موثقا بالمستندات، ولكنه كان دائما معروفا لدينا أن مروج بلات لن تقام أبدا. ولكن غرب بلتشلي كانت ضاحية متنامية، وافتتح مصنع مربى روثويل في عام 1928 ومصنع أنجلو أمريكي للدراجات المصنوعة من الصلب في عام 1933، وكان عدد السكان في تزايد وارتفعت قيمة الإيجارات. لم أر قط السير هربرت كروم أو أيا من أصحاب الصيت في شركة تشيرفول كريديت وجها لوجه، ولكن يمكنني تخيلهم ولعابهم يسيل جشعا؛ لذا، وصل عمال البناء فجأة وبدأ إنشاء المنازل على أرض مروج بلات. وبدأت صيحات الغضب تتصاعد من سكان هيسبيريدز، وأسسوا جمعية للدفاع عن حقوقهم، لكن بلا فائدة. لقد قضى علينا محامي كروم في خمس دقائق، وتم البناء على أرض مروج بلات. ولكن الخدعة الأكثر مكرا حقا، تلك التي جعلتني أشعر أن العجوز كروم يستحق لقب البارون الذي كان يملكه، هي الخدعة الذهنية؛ فبفضل الوهم وحده الذي لدينا بأننا نملك منازلنا، وأن لنا ما يسمى «قدما في المكان»، تحولنا نحن الساذجين المساكين من سكان هيسبيريدز وغيرها من الأماكن المماثلة إلى عبيد كروم مخلصين للأبد. نحن جميعا أصحاب المنازل المحترمين، أو بالتحديد المحافظين (المؤيدين والمتملقين)، لم نجرؤ على أن نقتل الإوزة التي تبيض البيض الذهبي! وحقيقة أننا لم نكن بالفعل أصحاب منازل؛ لأننا ما زلنا نسدد أثمانها والرعب المميت من أن شيئا قد يحدث قبل أن نتمكن من سداد آخر قسط ينخر في عظامنا، زادت ببساطة من تأثير الأمر علينا. جميعا اشترينا، والأدهى من ذلك أننا اشترينا بمالنا الخاص. كل فرد من هؤلاء الأوغاد المدوسين بالأقدام المساكين يعمل ويعرق كي يدفع ضعف السعر الحقيقي لمنزل من الطوب يدعى على نحو زائف «بيل فيو»، الذي يعني المنظر الجميل، ولكنه عكس ذلك تماما. وكل شخص من هؤلاء الضائعين المساكين على استعداد للموت في ميدان الحرب دفاعا عن بلده ضد البلشفية.
انعطفت إلى شارع وولبول ثم إلى هاي إستريت، حيث القطار الذاهب إلى لندن في العاشرة وأربع عشرة دقيقة. كنت أمر للتو على متجر لبيع الأشياء الرخيصة وتذكرت حينها الملاحظة التي وضعتها في ذهني هذا الصباح لأشتري مجموعة من شفرات الحلاقة. وعندما وصلت إلى مكان بيع الصابون، كان مدير الفرع - أو أيا كان مسماه الوظيفي - يسب الفتاة المسئولة هناك. بوجه عام، لم يكن ثمة العديد من الناس في المكان في تلك الساعة من الصباح. في بعض الأحيان إذا ذهبت إلى هناك بعد وقت الفتح مباشرة، فسترى جميع البائعات مصطفات لسماع سبابهن الصباحي؛ لا لشيء إلا كي يستقمن في العمل خلال اليوم. يقال إن سلاسل المتاجر الكبيرة هذه بها رجال لديهم قدرة خاصة على السخرية اللاذعة والإيذاء، الذين يرسلون من فرع إلى آخر ليوبخوا الفتيات كي يعملن جيدا. كان مدير الطابق شيطانا قبيحا ضئيل الحجم، أصغر من الحجم العادي، بكتفين مربعتين تماما وشارب رمادي شائك. وقد عنف لتوه الفتاة بشأن شيء ما، من الواضح أنه خطأ ما ارتكبته يتعلق بحساب الباقي من إحدى عمليات الشراء، وكان يلومها بصوت يشبه صوت المنشار الدائري، قائلا: «أيتها الغبية! بالطبع لم تحسبيها جيدا! بالطبع لم تفعلي. ستنالين عقابا شديدا، سترين. أيتها الغبية!»
صفحة غير معروفة