أنا لست متأكدا من معنى كلمة «عابر»، ولكني تمسكت بوجهة نظري، وقلت له: «أعتقد أنك أسأت الفهم؛ فالعجوز هتلر أمر مختلف، وكذلك جو ستالين؛ فهما ليسا مثل هؤلاء الرجال في العصور القديمة الذين كانوا يصلبون الناس ويقطعون رءوسهم وما إلى ذلك من الأمور لمجرد المرح ، بل إنهما يسعيان إلى شيء جديد تماما، شيء لم نسمع عنه من قبل.» «يا صديقي العزيز، لا جديد تحت الشمس.»
بالطبع تلك مقولة مفضلة لدى العجوز بورتيوس؛ فهو لا يسمع عن وجود أي شيء جديد، وبمجرد أن تخبره عن أي شيء يحدث في أيامنا هذه، يقول لك إن الأمر نفسه قد حدث في عهد الملك فلان. وحتى إذا تحدثت معه عن شيء كالطيارات، يقول لك إنها ربما كانت موجودة في كريت أو ميسينا أو أيا كان. حاولت أن أشرح له ما شعرت به أثناء إلقاء الرجل الضئيل الحجم للمحاضرة، ونظرتي للأوقات الصعبة القادمة؛ ولكنه لم يستمع. وكل ما فعله هو أن كرر قوله بأنه لا جديد تحت الشمس. وفي النهاية، سحب كتابا من على الأرفف وقرأ لي فقرة عن أحد الطغاة اليونانيين في عصور ما قبل الميلاد، والذي بالتأكيد يكاد يكون شقيق هتلر التوأم.
استمر نقاشنا لبعض الوقت، وقد كنت طوال اليوم أنتظر التحدث إلى أحد عن هذا الأمر. إنه لأمر طريف. أنا لست أحمق، ولكني لست رفيع الثقافة أيضا، وعادة لا يكون لدي الكثير من الاهتمامات التي تتوقع أن تكون لرجل في منتصف العمر يتحصل على سبعة جنيهات في الأسبوع ولديه طفلان. ولكن لدي من الشعور ما يجعلني أرى أن الحياة القديمة التي اعتدنا عليها تنتزع من جذورها. إنني أشعر بحدوث الأمر؛ إذ أشعر بالحرب آتية وأرى أعقابها، حيث الطوابير على الطعام والشرطة السرية ومكبرات الصوت التي تملي عليك ما يجب أن تعتنقه من آراء. ولست وحدي من يشعر بذلك، فهناك الملايين غيري. الرجال العاديون الذين أقابلهم في كل مكان؛ رجال أراهم في الحانات، وسائقو الحافلات، ومندوبو المبيعات المتجولون لشركات الأدوات المعدنية، كلهم لديهم شعور بأن العالم يسير نحو الهاوية؛ إذ يمكنهم الشعور بالتحطم والانهيار أسفل أقدامهم. وعلى الرغم من ذلك، تجد هذا الرجل المثقف الذي عاش حياته كلها وسط الكتب وغاص في التاريخ حتى يكاد يتعرقه، ولا يمكنه حتى أن يرى أن العالم يتغير. إنه لا يعتقد أن أمر هتلر مهم، ويرفض الاعتقاد بقدوم حرب ثانية. على أي حال، بما أنه لم يحارب في الحرب الأخيرة، فلم يستقر الأمر كثيرا في فكره، إذ يظن أنها كانت عرضا بائسا مقارنة بحصار طروادة. وهو لا يرى ضرورة للقلق من الشعارات ومكبرات الصوت والقمصان الملونة، ويقول دائما إنه ليس ثمة رجل ذكي يعير لمثل تلك الأشياء اهتماما. سيموت هتلر وستالين، ولكن شيئا يطلق عليه العجوز بورتيوس «الحقائق الأبدية» لن يموت. هذه بالطبع طريقة أخرى للقول بأن الأشياء ستستمر دائما تماما كما يعرفها؛ فدائما وأبدا سيتجول رجال أكسفورد المثقفون جيئة وذهابا في غرف مكتب مليئة بالكتب، مقتبسين العبارات اللاتينية، ومدخنين أجود أنواع التبغ الذي يضعونه في برطمان عليه شعار نبالة. في الحقيقة، لم تكن ثمة فائدة من الحديث معه، وكنت قد استفدت أكثر من الحديث مع الشاب ذي الشعر الأصفر الباهت. وتدريجيا، تحول النقاش، كما هو الحال دائما، إلى أمور حدثت قبل الميلاد، ثم تطرق إلى الشعر. وأخيرا، سحب العجوز بورتيوس كتابا آخر من الرفوف، وبدأ يقرأ قصيدة «أغنية إلى عندليب» لكيتس (أو ربما كان طائر القبرة، لا أتذكر).
لا يمكنني القول إن الشعر يهمني كثيرا، ولكن من المفارقات الغريبة أنني أحب الاستماع للعجوز بورتيوس وهو يقرؤه جهرا، فلا شك أنه يلقيه جيدا. وقد اكتسب تلك العادة بالطبع من قراءته على الطلاب في المدرسة. إنه يتكئ إلى شيء بطريقته المسترخية، وغليونه بين أسنانه حيث ينفث قليلا من الدخان، ويخرج صوته مهيبا ويعلو ويهبط مع الأبيات. يمكنك رؤية أن الشعر يؤثر فيه بطريقة ما. لا أعرف ما يمثله الشعر أو ما وظيفته، ولكني أتصور أنه له تأثير على أعصاب بعض الناس كالموسيقى. عندما يقرأ، لا أستمع حقيقة، بمعنى أنني لا أنتبه للكلمات، ولكن أحيانا يشعرني الصوت بنوع من السكينة الذهنية. إجمالا، أحب الأمر، ولكنه لم يفلح معي الليلة نوعا ما؛ إذ كان كما لو أن تيار هواء باردا قد هب في الغرفة، وشعرت أن كل ذلك هراء. الشعر! ما هذا الشيء؟ إنه مجرد صوت، مجرد دوي في الهواء. يا إلهي! ما فائدة ذلك في مقابل المدافع الآلية؟
رأيته يتكئ إلى رف الكتب. يا لطرافة أبناء المدارس العامة! يظلون كطلاب المدارس طوال حياتهم، حيث تدور حياتهم كلها حول مدرستهم القديمة وما يعرفونه من اللاتينية واليونانية والشعر. فجأة، تذكرت أنه في المرة الأولى التي جئت فيها لبورتيوس هنا كان يقرأ علي القصيدة نفسها. وكان يقرؤها بالطريقة نفسها، وقد ارتجف صوته عندما وصل إلى الجزء نفسه، ذلك الجزء عن النافذة السحرية أو شيء من هذا القبيل. وجالت ببالي فكرة غريبة، وهو أنه ميت، وأن ما أراه هو شبح؛ فكل الناس الذين يشبهونه قد ماتوا.
وخطر ببالي أنه ربما كثير من الأشخاص الذين تراهم يمشون حولك هم أموات في الحقيقة. نحن نقول إن شخصا ما قد مات عندما يتوقف قلبه وليس قبل ذلك، ولكن هذا يبدو تعسفيا بعض الشيء؛ ففي نهاية المطاف، لا تتوقف أجزاء من جسمك عن العمل، الشعر على سبيل المثال يظل ينمو لسنوات. ربما يموت المرء بالفعل عندما يتوقف دماغه عن العمل، أي عندما يفقد القدرة على استيعاب فكرة جديدة. العجوز بورتيوس من ذلك النوع؛ فهو متعلم تعليما جيدا، وله ذوق رائع، ولكنه غير قادر على التغيير؛ إذ يقول الأشياء نفسها ويفكر في الأفكار نفسها مرارا وتكرارا. وثمة العديد من الناس مثله، من ذوي العقول الميتة، المتوقفين من الداخل. إنهم فقط يستمرون في السير ذهابا وإيابا في المسار الضيق نفسه، ويصبحون أكثر فقدانا للوعي بمرور الوقت كالأشباح.
أعتقد أن عقل العجوز بورتيوس ربما توقف عن العمل في وقت الحرب الروسية اليابانية. ومن المروع أن تقريبا كل الناس المحترمين - هؤلاء الذين لا يريدون تحطيم الوجوه بالمطارق - من هذا النوع. إنهم أشخاص محترمون، ولكن عقولهم قد توقفت، فلا يستطيعون الدفاع عن أنفسهم ضد ما هو آت إليهم؛ لأنهم لا يستطيعون أن يروه، حتى عندما يكون تحت أنوفهم. إنهم يعتقدون أن إنجلترا لن تتغير أبدا وأنها العالم بأكمله، ولا يمكنهم أن يفهموا أنها مجرد ركن ضئيل تصادف عدم رؤية الطائرات القاذفة للقنابل له. ولكن ماذا عن النوع الجديد من الرجال من أوروبا الشرقية، هؤلاء الرجال المحتشدون في صفوف منظمة الذين يؤمنون بالشعارات ويتعاملون بالرصاص؟ إنهم على إثرنا، ولن يطول الوقت حتى يلحقوا بنا؛ فليس لدى هؤلاء الصبية قواعد كقواعد مركيز كوينزبري. وكل الرجال المحترمين عاجزون، فهم كالرجال الموتى أو الغوريلات الأحياء، ولا يبدو أنهم أي شيء بين أولئك أو هؤلاء.
خرجت بعد ذلك بنحو نصف ساعة، وقد فشلت تماما في إقناع العجوز بورتيوس أن أمر هتلر مهم. وكنت لا أزال أفكر في الأفكار نفسها وأنا أسير إلى المنزل عبر الشوارع شديدة البرودة. كانت قد توقفت القطارات عن السير. وكان المنزل مظلما بالكامل، وكانت هيلدا نائمة. خلعت طقم أسناني ووضعته في كوب من الماء في الحمام، وارتديت ملابس النوم، ودفعت هيلدا إلى الجانب الآخر من السرير؛ فتدحرجت دون أن تستيقظ، وكانت الحدبة نوعا ما التي بين كتفيها أمامي. غريب هو هذا الإحساس المروع بالكآبة الذي يصيبك ليلا في بعض الأحيان. في تلك اللحظة، بدا مصير أوروبا لي أكثر أهمية من إيجار المنزل وفواتير مدرسة الطفلين والعمل الذي ينتظرني غدا. إن مثل هذه الأفكار هي مجرد حماقة لأي أحد عليه أن يكسب قوته، ولكنها لم تترك ذهني؛ فما زالت صورة القمصان الملونة والمدافع الآلية تزعجني. وآخر ما أتذكر أنه شغل بالي قبل أن أنام هو السؤال التالي: لماذا بحق الجحيم يجب أن يهتم رجل مثلي بكل ذلك؟
2
كانت قد بدأت زهور الربيع تتفتح. أعتقد أن ذلك كان في شهر مارس.
صفحة غير معروفة