أرى الصيف دائما عندما أتذكر الماضي. يمكنني الشعور بالعشب من حولي وهو في طولي نفسه، والإحساس بالحرارة الصاعدة من الأرض، وكذلك رؤية الغبار في الزقاق، والضوء المخضر الدافئ القادم عبر أغصان شجر البندق. أرى ثلاثتنا مصطفين على نحو متتال، نأكل الثمار التي نقطفها من السياج النباتي، وكيتي تسحبني من ذراعي وتقول لي: «هيا يا صغيري!» وفي بعض الأحيان كانت تنادي على جو وتصرخ فيه قائلة: «جو! ارجع هنا حالا! وإلا فستعاقب!» كان جو ولدا ضخم البنية، برأس كبير وثقيل بعض الشيء، وسمانتين ضخمتين؛ وهو من ذلك النوع من الأولاد الذين يفعلون أشياء خطرة دائما. في السابعة من عمره، كان قد ارتدى بالفعل البناطيل القصيرة، والجوارب الثقيلة السوداء التي تصل إلى الركبتين، والأحذية العالية الرقبة التي كان يرتديها الأولاد في تلك الأيام، بينما كنت لا أزال أرتدي نوعا من الأردية الخارجية الطويلة الفضفاضة التي اعتادت أمي على حياكتها لي بيديها. وكانت كيتي ترتدي فساتين رثة سيئة تشبه فساتين الآنسات، التي كانت الأخوات يتوارثنها من جيل إلى جيل في عائلتها. وكانت لديها قبعة كبيرة مضحكة تخرج منها ضفائرها، وتنورة ذات ذيل طويل يجرجر على الأرض، وحذاء بأزرار كعبه مهترئ. كانت صغيرة البنية لا يزيد طولها بكثير عن طول جو، ولكنها لم تكن سيئة في «رعاية» الأطفال؛ ففي عائلة مثل عائلتها، يكاد الطفل «يرعى» أطفالا آخرين بمجرد فطامه. وقد كانت من حين إلى آخر تحاول التصرف كالناضجات والسيدات، وكانت تقطع حديثنا بالأمثال والأقوال المأثورة، التي كانت تعتقد أنها جواب مفحم؛ فإذا قلت: «لا تبالي»، ترد على الفور: «من لا يبالي أجبر على أن يبالي. من لا يبالي علق. من لا يبالي وضع في قدر من الماء المغلي حتى مات.»
أو إذا سببتها كانت ترد قائلة: «الكلمات الحادة لا تكسر العظام.» وعندما تتفاخر تقول لك: «يأتي الفخر قبل السقوط.» وقد تحقق ما قالت بالفعل في أحد الأيام عندما كنت أتبختر متظاهرا أنني جندي فسقطت في روث البقر. لقد كانت عائلتها تعيش في مكان صغير وقذر، أشبه بجحر الجرذان في الحي الفقير خلف مصنع الجعة، وكان المكان مكتظا بالأطفال كالهوام. نجحت العائلة بأكملها في الهروب من الذهاب إلى المدرسة، الأمر الذي كان سهلا بعض الشيء في تلك الأيام، وكان الأطفال يخرجون لقضاء مشاوير للآخرين ولأداء أعمال مؤقتة أخرى بمجرد تمكنهم من المشي. وقد سجن أحد إخوتها الكبار شهرا لسرقته بعض اللفت. توقفت عن تمشيتنا بعد ذلك بعام عندما كان جو في الثامنة من عمره وأصبح صعبا على فتاة التحكم فيه، وقد اكتشف أنه في منزل كيتي ينام كل خمسة من أفراد العائلة في سرير واحد، وكان يتهكم عليها بسبب هذا الأمر.
كم كانت كيتي مسكينة! لقد أنجبت طفلها الأول عندما كانت في الخامسة عشرة من عمرها. لم يكن أحد يعلم والد الطفل، وربما لم تكن كيتي نفسها متيقنة ممن يكون أيضا. وقد اعتقد معظم الناس أنه أحد إخوتها. أخذ الملجأ الطفل، وعملت كيتي خادمة في وولتن. بعد ذلك ببعض الوقت تزوجت سمكريا، وكان حتى بمقاييس عائلتها دون المستوى. وقد كانت آخر مرة أراها فيها في عام 1913. كنت أتنزه بالدراجة عبر وولتن، ومررت ببعض الأكواخ الخشبية المروعة بجوار خط السكة الحديدية، وكان يحيط بكل منها سياج من القطع الخشبية التي تصنع منها البراميل، حيث اعتاد الغجر التخييم في أوقات معينة في العام تسمح لهم الشرطة بها. خرجت امرأة شمطاء، بوجه دخاني مليء بالتجاعيد وشعر منسدل، وتبدو كأنها في عامها الخمسين على أقل تقدير، من أحد هذه الأكواخ وبدأت تنفض حصيرة بالية. كانت هذه المرأة هي كيتي، التي لا بد أنها كانت في ذلك الوقت في السابعة والعشرين من عمرها.
2
كان يوم الخميس هو يوم السوق. كان الرجال بوجوههم الحمراء المستديرة كقرع اليقطين وثياب العمل الواسعة القذرة خاصتهم وأحذيتهم الضخمة الملطخة بروث الأبقار الجاف، الذين يحملون العصي الطويلة من خشب شجر البندق، يقودون حيواناتهم إلى السوق في الصباح الباكر. لعدة ساعات كانت ثمة ضجة هائلة من نباح الكلاب، ونخير الخنازير، والرجال في عربات التجار الذين يريدون أن يشقوا طريقهم وهم يلوحون بسياطهم ويسبون، وكل من له علاقة بالماشية يصرخ ويضرب بالعصي. وكانت الضجة الكبرى دائما عندما يجلبون ثورا إلى السوق. حتى في ذلك العمر، هالني أن معظم الثيران كانت حيوانات غير مؤذية ومطيعة، وأن كل ما تريده هو أن تصل إلى مرابطها بسلام، ولكن الثور لم يكن ليعد ثورا إذا لم تخرج نصف البلدة لملاحقته ومطاردته. وفي بعض الأحيان كانت بعض الحيوانات المرتعبة، والتي عادة ما تكون من العجول الصغيرة، تهرب وتركض إلى أحد الشوارع الجانبية؛ ومن ثم فأي أحد تصادف وجوده في طريقها كان يقف في منتصف الطريق ويلوح بذراعيه للخلف كريش الطاحونة الهوائية، ويصرخ: «ووه! ووه!» كان من المفترض أن لهذا التصرف تأثيرا مهدئا على الحيوان، ولكنه بالتأكيد كان يخيفه.
في منتصف الصباح، كان بعض المزارعين يدخلون المتجر ويفحصون عينات من الحبوب بتمريرها خلال أصابعهم. ولم يكن أبي في الواقع يتعامل كثيرا مع المزارعين؛ لأنه لم يكن لديه عربة لتوصيل البضائع ولا يمكنه تحمل الديون طويلة الأجل، فكانت معظم معاملاته صغيرة الحجم للغاية، كبيع طعام الدواجن والعلف لتجار الخيول وما شابه. وكان العجوز بروير، الذي كان يعمل في الطاحونة، وغدا عجوزا بخيلا بلحية ذقن رمادية، يقف هناك لمدة نصف الساعة يفحص بأصابعه عينات ذرة الدجاج ويجعلها تسقط في جيبه غير مبال، ثم كان بالتأكيد يذهب في النهاية دون شراء أي شيء. كانت الحانات في المساء ممتلئة بالسكارى، وكان نصف اللتر من الجعة في تلك الأيام ببنسين، وكان بها بعض أحشاء الحيوانات على عكس الجعة اليوم. وطوال الوقت في خلال حرب البوير، كان رقيب التجنيد يجلس في حانة جورج الرخيصة كل مساء خميس وسبت، وكان متأنقا في ملبسه وينفق ببذخ. وفي بعض الأحيان في الصباح التالي، كنت تراه يجر صبيا بدينا أحمر الوجه غبيا من صبيان المزرعة الذي قبل أن يجرى تجنيده مقابل حصوله على شلن عندما كان مخمورا للغاية ليجد نفسه في الصباح في حاجة إلى دفع عشرين جنيها ليتخلص من هذه الورطة. اعتاد الناس الوقوف على عتبات بيوتهم والإيماء برءوسهم عندما كانوا يشاهدونهما يمران، تماما كما لو كانوا في جنازة. «عجبا الآن! التجنيد! فلتفكر فقط في الأمر! شاب غض مثل ذلك!» كان الأمر صادما لهم؛ إذ كان الالتحاق بالجيش بالنسبة لهم تماما كهروب بناتهم من المنزل. كان موقفهم من الحرب، ومن الجيش، غريبا للغاية؛ فقد كانت لديهم تلك الفكرة التي كانت لدى الإنجليز القدامى أن من يرتدون الزي العسكري هم حثالة الأرض، وأن أي أحد ينضم للجيش سيموت سكران، ويذهب مباشرة إلى الجحيم؛ ولكنهم في الوقت نفسه كانوا أناسا وطنيين صالحين، يضعون أعلام الاتحاد في نوافذهم، ويؤمنون إيمانا راسخا بأن الإنجليز لم يهزموا قط في أي معركة ولن يهزموا أبدا. وفي ذلك الوقت، كان الجميع، وحتى المنشقين عن الكنيسة، يغنون أغاني حماسية عن معركة الخط الأحمر الرفيع والجندي الشاب الذي مات في ميدان المعركة بعيدا عن بلاده. هؤلاء الجنود الشباب كانوا يموتون دائما «وسط سيل من الرصاص والشظايا»، على ما أتذكر. حيرني الأمر طفلا؛ فقد كان يمكنني تخيل طلقات الرصاص، ولكن ما شكل صورة غريبة في ذهني كان تطاير الشظايا في الهواء. عندما حررت بلدة مافيكنج، هلل الناس بشدة، وأحيانا كانوا يصدقون بغض النظر عن أي شيء الحكايات التي تروج عن البويريين القائلة بأنهم كانوا يرمون الأطفال الرضع في الهواء ويشوونهم على حرابهم كاللحم على الأسياخ. استاء العجوز بروير بشدة من مناداة الأطفال إياه ب«كروجر»، لدرجة أن حلق لحيته قرب نهاية الحرب. كان موقف الناس من الحكومة مماثلا تماما؛ فقد كانوا جميعا إنجليزا أوفياء لأوطانهم، وأقسموا على أن الملكة فيكتوريا كانت أفضل ملكة على الإطلاق، وأن الأجانب أشرار، ولكن في الوقت نفسه لم يفكر أحد قط في دفع الضرائب، حتى رسوم ترخيص كلابهم إن استطاعوا إيجاد أي طريقة لتجنب ذلك.
قبل الحرب وبعدها، كانت لوير بينفيلد دائرة انتخابية لليبراليين. وفي أثناء الحرب عقدت انتخابات فرعية وفاز فيها المحافظون. كنت صغيرا جدا على أن أفهم كل ذلك، وكل ما كنت أعرفه هو أنني كنت محافظا؛ لأنني أحببت أعلامهم الزرقاء أكثر من الأعلام الحمراء، وأتذكر ذلك على وجه التحديد بسبب رجل سكران سقط على أنفه على الرصيف خارج حانة جورج. وكان من الغريب أنه لم يلاحظه أحد، وظل في مكانه لساعات تحت الشمس الحارقة وجسمه ينزف من حوله حتى جف الدم، وتحول إلى اللون الأرجواني. وفي وقت انتخابات عام 1906، كنت كبيرا بما يكفي لفهم ما يحدث، بدرجة أو بأخرى، وأصبحت حينئذ ليبراليا؛ لأن الجميع كانوا كذلك. وقد طاردوا مرشح المحافظين لمسافة نصف ميل، وألقوا به في بركة مليئة بالطحالب. لقد كان الناس يأخذون السياسة في تلك الأيام على محمل الجد؛ فكانوا يشرعون في تخزين البيض الفاسد الذي سيلقون به أعداءهم من المرشحين قبل الانتخابات بأسابيع.
في وقت مبكر للغاية في حياتي عندما اندلعت حرب البوير، أتذكر الشجار الكبير الذي كان بين أبي وعمي إيزيكيال. كان لعمي إيزيكيال متجر صغير لبيع الأحذية في أحد الشوارع المتفرعة من هاي إستريت، وكان يصلح الأحذية كذلك. كان عملا صغيرا وكان يصغر أكثر فأكثر، الأمر الذي لم يكن يهم عمي إيزيكيال كثيرا؛ لأنه لم يكن متزوجا. كان أخا غير شقيق لأبي وكان أكبر منه بكثير؛ إذ كان يكبره بعشرين سنة على الأقل، وفي السنوات الخمس عشرة أو ما يقرب من ذلك التي عرفته فيها، لم يتغير على الإطلاق. كان رجلا عجوزا حسن المظهر، طويلا بعض الشيء، ذا شعر أبيض ولحية بيضاء لم أر لها مثيلا، كانت بيضاء كزغب الزهرة الشائكة. وكان دائما ما يخبط على مئزره الجلدي ويقف باستقامة شديدة - كي يصحح ما فعله الانحناء لساعات طويلة على قالب صنع الأحذية، على ما أعتقد - ثم يدوي بآرائه قاذفا بها مباشرة في وجهك ومنتهيا بما يشبه القوقأة الغامضة. كان عجوزا شديد الإيمان بالليبرالية كليبرالي القرن التاسع عشر، ذلك النوع الذي لا يكتفي بسؤالك عما قاله جلادستون في عام 1878، بل يمكنه أن يجيبك عن سؤاله، وهو أحد القلائل في لوير بينفيلد الذين لم تتغير آراؤهم طوال وقت الحرب. وكان دائم الإدانة لجو تشامبرلين وبعض الأشخاص الذين أسماهم «حثالة بارك لين». يمكنني سماعه الآن في إحدى مناقشاته مع والدي، وهو يقول: «هم وإمبراطوريتهم المترامية الأطراف! لا يمكنهم أن يبعدوا كثيرا عن ناظري. ها ها ها!» ثم أسمع صوت أبي الهادئ القلق حي الضمير يرد عليه بعبء الرجل الأبيض ودوره تجاه السود المساكين الذين عاملهم هؤلاء البوير بطريقة شائنة. لمدة أسبوع أو ما شابه بعد أن أعلن عمي إيزيكيال أنه مؤيد للبوير ومعاد للإمبريالية البريطانية، كادا لا يتحدثان، وتشاجرا مرة أخرى عندما بدآ في تداول روايات الفظائع التي ارتكبها كلا الجانبين. كان أبي قلقا للغاية من الحكايات التي سمعها، وكان يتناقش فيها مع عمي إيزيكيال. وسواء أكان عمي إيزيكيال معاديا للإمبريالية البريطانية أم لا، فبالتأكيد لم يكن يستطيع أن يرى أن ما فعله هؤلاء البوير من إلقاء الأطفال الرضع في الهواء وشيهم لهم على الحراب أمر جيد، حتى إن كانوا مجرد أطفال سود. ولكن عمي إيزيكيال ضحك في وجه أبي ساخرا من كلامه؛ فقد أساء أبي فهم الأمر! فلم يكن البوير هم من يرمون الأطفال الرضع في الهواء، بل الجنود البريطانيون! ظل ممسكا بي ليوضح له ما يحدث - ولا بد أنني كنت في ذلك الحين في الخامسة من عمري تقريبا - قائلا: «إنهم يلقونهم في الهواء ويضعونهم في الأسياخ كالضفادع، أؤكد لك! مثلما قد ألقي بهذا الطفل هنا!» ثم أرجحني في الهواء وكاد أن يلقي بي، وكان يمكنني تخيل نفسي بوضوح وأنا أطير في الهواء وأسقط بقوة على سن حربة.
كان أبي على النقيض التام من عمي إيزيكيال. لا أعلم الكثير عن جدي وجدتي؛ فقد ماتا قبل أن أولد. وكل ما أعرفه هو أن جدي كان إسكافيا، وقد تزوج في عمر كبير من أرملة بائع حبوب، وهكذا حصلنا على المتجر. لم تكن هذه المهنة تناسب أبي في الواقع، لكنه أتقنها جيدا وكان يعمل بلا كلل. وفيما عدا يوم الأحد وفي أحيان نادرة في المساء خلال الأسبوع، أنا لا أتذكره إلا والطحين على ظهر يديه وبين خطوط وجهه وعلى ما تبقى من شعره. تزوج أبي في الثلاثينيات من عمره، ولا بد أنه كان في الأربعين من عمره تقريبا في أول صورة له في ذهني عنه. كان رجلا قصيرا، أشيب بعض الشيء وضئيل البنية للغاية، وكان دائما يرتدي قميصا دون أي شيء فوقه، ومئزرا أبيض، وكان يعلوه غبار الطحين دائما. كان رأسه مستديرا وأنفه غير حاد، وكان بشارب كثيف ونظارة، وكان شعره سمني اللون كشعري؛ ولكنه فقد معظمه وكان دائما يغطيه الطحين. تحسن حال جدي كثيرا بزواجه من أرملة بائع الحبوب؛ وتعلم أبي في مدرسة وولتن للقواعد اللغوية، التي كان المزارعون والتجار ميسورو الحال يرسلون أبناءهم إليها؛ بينما كان عمي إيزيكيال يحب التباهي بأنه لم يدخل مدرسة في حياته وأنه كان يعلم نفسه القراءة على ضوء شمعة بعد ساعات العمل. ولكنه كان سريع البديهة أكثر بكثير من أبي؛ فقد كان بإمكانه مجادلة أي شخص، وكان يردد الكثير من عبارات كارلايل وسبنسر. أما أبي فلم يكن حاضر الذهن مثله، ولم يكن مغرما قط بقراءة الكتب أو ما كان يسميه «التعلم عن طريق القراءة»، ولم تكن لغته الإنجليزية جيدة . في أوقات ما بعد الظهيرة يوم الأحد، حيث الوقت الوحيد الذي كان يستريح فيه، كان يجلس بجانب الموقد في غرفة المعيشة ليستمتع بما كان يطلق عليه «القراءة الجيدة» لصحيفة يوم الأحد. كانت صحيفته المفضلة هي صحيفة «صنداي بيبول»، بينما كانت أمي تفضل صحيفة «نيوز أوف ذا وورلد»؛ لأنها تعرض أخبار جرائم قتل أكثر من وجهة نظرها. يمكنني رؤيتهما الآن في أحد أيام الأحد فيما بعد الظهيرة - وفي فصل الصيف بالطبع؛ فأنا أتذكر الصيف دائما - مع رائحة لحم الخنزير المشوي، والخضاة التي لا تزال تنساب في الهواء، وأمي بجوار المدفأة تشرع في قراءة آخر جريمة قتل، ولكنها يغلبها النعاس وفمها مفتوح؛ وأبي في الجانب الآخر من المدفأة يرتدي خفه ونظارته، ويحاول بصعوبة قراءة السطور العديدة ذات الطباعة المشوشة. كل ذلك مع الشعور اللطيف للصيف الذي يحيط بك من كل مكان، ونبات إبرة الراعي في النافذة، وهديل طائر الزرزور الآتي من مكان ما، وأنا أجلس أسفل الطاولة ومعي مجلة «بي أو بي» متخيلا غطاء المائدة خيمة. بعد ذلك وفي موعد تناول الشاي، كان أبي وهو يقضم الفجل والبصل الأخضر يتحدث متأملا عما قرأه، من الحرائق وغرق السفن، وفضائح المجتمع الراقي، وتلك الآلات الطائرة الجديدة، والرجل (الذي ألاحظ أنه يظهر في صحف أيام الأحد حتى يومنا هذا مرة كل ثلاث سنوات) الذي ابتلعه حوت في البحر الأحمر ولفظه بعدها بثلاثة أيام ليخرج من جوفه حيا ومغطى بعصارته الهضمية البيضاء. كان أبي دائم الشك نوعا ما في هذه القصة، وفي أمر آلات الطيران الجديدة؛ بخلاف ذلك كان يصدق كل شيء يقرؤه. حتى عام 1909 لم يصدق أحد في لوير بينفيلد أن الإنسان قد يتعلم الطيران في يوم من الأيام، وكان المعتقد السائد أنه إن أراد الله أن يجعلنا نطير لأعطانا أجنحة؛ ولكن عمي إيزيكيال كان يرد على ذلك بغضب بأنه إن أراد الله أن نسوق لخلقنا بعجلات، ولكن حتى هو لم يصدق خبر آلات الطيران الجديدة.
لم يكن أبي يعير انتباهه لمثل هذه الأمور إلا فيما بعد ظهيرة يوم الأحد، وربما في المساء الوحيد في الأسبوع الذي يطل فيه سريعا على حانة جورج ليشرب كوبين من الجعة. أما في غير ذلك من الأوقات، فقد كان دائما غارقا في العمل بشكل أو بآخر. لم يكن في الواقع ثمة الكثير مما يمكن القيام به، ولكنه بدا منشغلا دائما؛ إما في العلية خلف الفناء مكافحا لإصلاح جوال أو بالة، أو في مساحة التخزين الصغيرة المليئة بالأتربة خلف طاولة البيع في المتجر، حيث يجمع الأعداد في دفتر ملاحظات بقلم رصاص صغير. كان رجلا شديد الأمانة والكرم، وشديد الحرص على توفير البضاعة الجيدة، ولم يخدع أحدا، الأمر الذي لم يكن حتى في تلك الأيام أفضل الطرق لتحقيق أرباح كبيرة في العمل. كان سيلائمه أكثر لو أنه شغل منصبا رسميا صغيرا، كمدير مكتب البريد على سبيل المثال، أو ناظر محطة في إحدى القرى، ولكنه لم يكن لديه من الجرأة وحب المغامرة ما يدفعه إلى اقتراض بعض المال وتوسيع عمله، ولم يكن لديه من الخيال كذلك ما يجعله يفكر في خطوط بيع جديدة. كان ذلك من طباعه المتأصلة حتى إن أمارة الإبداع الوحيدة التي بينها، وهي اختراع خليط جديد من الحبوب لطيور الأقفاص (خلطة بولينج، هكذا كان اسمه، حيث كانت مشهورة على نطاق ما يقرب من خمسة أميال)، كانت في الواقع بفضل عمي إيزيكيال. كان عمي مولعا بالطيور وكان لديه عدد كبير من طيور الحسون في متجره المظلم الصغير، وكان يعتقد أن طيور الأقفاص تفقد ألوانها بسبب قلة التنوع في غذائها. في الساحة خلف المتجر، كان لأبي قطعة أرض صغيرة جدا يزرع فيها ما يقرب من عشرين نوعا من الحشائش أسفل شبكة سلكية، وكان يجففها ويخلط حبوبها ببذور الكناري العادية. كان من المفترض أن يكون جاكي طائر الدغناش المعلق في نافذة المتجر إعلانا لخلطة بولينج. وبالتأكيد، على خلاف معظم طيور الدغناش في الأقفاص، لم يتحول قط لون جاكي إلى اللون الأسود.
صفحة غير معروفة