فقال تشيس: «لا تتكلمي مثلها.» «أود أن ألوح للسيد جوري؛ لو كان يطل من النافذة.» «الأفضل ألا تفعلي ذلك.» •••
لم ألق نظرة أخيرة على المنزل، بل ولم أمش بعدها قط في هذا الشارع، في هذا المربع السكني الذي يقع في شارع آربيوتس في مواجهة المنتزه والبحر. لم أعد أتذكر بوضوح كيف كان يبدو، رغم أن أشياء قليلة لا تزال عالقة في ذهني، مثل ستار المهجع، وخزانة الآنية الصينية، ومقعد الريكلاينر الأخضر.
تعرفنا على أزواج شباب بدءوا حياتهم - كما فعلنا - بالسكن في أماكن زهيدة الإيجار في بيوت أناس آخرين. سمعنا منهم حكايات عن الفئران والصراصير، والمراحيض التي تقذف الفضلات على مستخدميها، ومالكات البيوت ناقصات العقل. وحكينا لهم بالتأكيد عن صاحبة بيتنا التي كانت مصابة بجنون الارتياب.
لم أفكر في السيدة جوري في غير تلك الحالات.
أما السيد جوري، فكنت أراه في منامي؛ رأيته في أحلامي وقابلته قبل أن يقابل زوجته. كان رشيقا قويا، لكنه لم يكن شابا، ولم يختلف مظهره قط عما بدا عليه وقتما كنت أقرأ له في الغرفة الأمامية. ربما كان يستطيع الكلام، لكن كلامه لم يتجاوز تلك الأصوات التي تعلمت أن أفسرها. كانت أصواتا مبتورة وحاسمة، كانت تعليقا أساسيا - وربما مشمئزا - على ما يحدث في الأحلام. أما الأحداث، فكانت عنيفة وصارخة؛ أحداث أحلام جنسية. فعلى مدار حياتي وأنا زوجة شابة - ولم يمض وقت طويل حتى حملت؛ فما كان هناك ما يدعو للتأجيل - ثم أم دائمة الانشغال والإخلاص لزوجي، الذي حرص على إشباع رغباتي بصورة منتظمة، ظلت الأحلام الجنسية تراودني بين الفينة والأخرى، وفيها تجاوزت المبادرة والاستجابة والاحتمالات أي شيء وهبتني إياه الحياة. كانت أحلامي تخلو من الرومانسية، وكذلك من الاحتشام. كان فراشنا - أنا والسيد جوري - شاطئا مغطى بالحصى، أو متن قارب متينا، أو لفائف من الحبال الناعمة والموجعة. وكنت أشعر - إن شئت فقل - بلذة القبح، حيث رائحة جسده النفاذة، وعينه المريضة، وأسنانه التي تشبه أسنان الكلب. كنت أفيق من هذه الأحلام المحظورة غير عابئة بشيء - حتى الدهشة أو الخزي لم يطرآ على بالي - وإذ بي أغط في النوم مرة أخرى، ثم أنهض في الصباح بذاكرة تعودت إنكارها. ظل السيد جوري يقوم بهذا الدور في حياتي الليلية سنوات طوالا امتدت بكل تأكيد إلى ما بعد وفاته. ظل ذلك يتكرر إلى أن أهلكت الرجل تماما وقضيت عليه، كما يهلك الموتى. لكن هذا لا يعني أنني كنت المسئولة عن استدعائه إلى أحلامي؛ فقد بدا لي أننا شركاء في الأمر؛ وكأنه استدعاني كما استدعيته، وكأنها تجربته كما كانت تجربتي.
أما القارب، ورصيف الميناء، والحصى الذي يغطي الشاطئ، والأشجار الناظرة إلى السماء أو المائلة نحو الأرض أو التي تظلل الماء، ومشهد الجزر المحيطة المعقد، والجبال المعتمة بالرغم من سهولة تمييزها، فكل هذه الأشياء بدت موجودة معا في مشهد طبيعي مربك؛ يزيدني إبهارا - وإن كان يبدو عاديا - بصورة أكبر من أي شيء يمكن أن أحلم به أو أن أختلقه. كان هذا المشهد أشبه بمكان سيظل باقيا سواء وجدت فيه أم لم أوجد، وبالفعل هو باق.
لكنني لم أر قط الأعمدة المتفحمة التي تهاوت على جسد الزوج؛ إذ حدث هذا منذ زمن بعيد قبل أن تنمو أشجار الغابة حول المكان.
عدا الحاصدين
كانت اللعبة التي يلعبانها هي نفسها تقريبا اللعبة التي كانت إيف تلعبها مع ابنتها صوفي أثناء سفرياتهما الطويلة والمملة بالسيارة، عندما كانت صوفي فتاة صغيرة. وقتها، كانت تسمى لعبة الجواسيس، أما الآن فتسمى لعبة الكائنات الفضائية. كان صغيري صوفي، فيليب وديزي، يجلسان في مقعد السيارة الخلفي. ديزي لم تتجاوز السنوات الثلاث ولا تكاد تدرك ما يجري، أما فيليب ففي السابعة، وكان يسيطر على مجريات الأمور؛ فكان هو من اختار السيارة التي سيتبعانها وكانت - في اللعبة - تقل مسافرين عبر الفضاء وصلوا لتوهم وكانوا في طريقهم إلى المقر السري؛ عرين الغزاة. كان المسافرون يعرفون الاتجاهات من الإشارات التي يلوح بها بعض الأفراد مقبولي الشكل من سياراتهم أو من شخص يقف بجانب صندوق بريد أو من شخص يقود جرارا زراعيا في حقل. كثير من الكائنات الفضائية قد وصل بالفعل كوكب الأرض وجرت لهم عمليات التحويل - كما قال فيليب - ولهذا يمكن أن يكون أي ممن حولهما كائنا فضائيا؛ كعمال محطة الوقود أو السيدات اللاتي يدفعن أمامهن عربات الأطفال أو حتى الرضع داخل عرباتهم ؛ جميعهم يمكن أن يكونوا يرسلون إشارات.
عادة ما كانت إيف وصوفي تلعبان هذه اللعبة على طريق سريع مزدحم، حيث يكون هناك زحام مروري كاف يحول دون اكتشاف مراقبتهما (بالرغم من أنهما ذات مرة حادتا عن طريقهما، فوجدتا نفسيهما على الطريق في اتجاه إحدى الضواحي). لكن الأمر لم يكن بهذه السهولة على الطرق الزراعية التي قطعتها إيف في ذاك اليوم؛ فحاولت أن تحل هذه المشكلة بنصحهما بأن يغيرا المركبة التي يتتبعانها إلى مركبة أخرى؛ لأن الهدف من بعض تلك المركبات هو خداعهما، حيث لا تتجه إلى المقر السري وإنما تضللهما فحسب.
صفحة غير معروفة