عزم الصبية على القفز في الماء واستشعار الصقيع كطعنات خناجر ثلجية تخترق أجسادهم لتصل إلى ما وراء أعينهم وإلى أعلى جماجمهم من الداخل، وبعدها يحركون أذرعهم وسيقانهم بضع مرات، ثم يخرجون بصعوبة من الماء، مصدرين أصواتا كأصوات البط من أفواههم وصريرا من أسنانهم، ويدفعون أطرافهم الخدرة في الملابس، فيشعرون بألم عودة الدماء تجري في أجسادهم؛ ومن ثم الارتياح لتحقيق ما سيتباهون به.
امتدت آثار السيارات التي لم يلاحظها هؤلاء الصبية إلى القناة المائية التي خلت من أي أعشاب أو نباتات آنذاك، ولم تحتو إلا على بعض حشائش العام الماضي الميتة التي استحال لونها إلى الصفرة وطفت على السطح. امتدت الآثار عبر القناة وحتى النهر دون أي شيء يدل على محاولة دوران السيارة للخلف. خطا الصبية فوقها، لكنهم كانوا قد اقتربوا للغاية حينذاك من الماء، الأمر الذي حال دون أن يلفت انتباههم أي شيء، حتى وإن كان أكثر غرابة من آثار سيارة على الأرض في هذا المكان.
كانت هناك لمعة من اللون الأزرق الباهت في الماء، لكنها لم تكن منعكسة من السماء، وإنما كانت لسيارة غارقة في وضع مائل في البركة التي تزود الطاحونة بالماء، بحيث غرز الإطاران الأماميان والمقدمة في الوحل بالقاع، في حين برز الجزء العلوي من السيارة بالكاد فوق سطح الماء. كان اللون الأزرق الفاتح لونا غير مألوف كطلاء للسيارات آنذاك، كذلك شكل تلك السيارة ذات المنحنى البارز أيضا، الأمر الذي ساعد الصبية في التعرف عليها على الفور. إنها السيارة الإنجليزية الصغيرة - طراز أوستن - والوحيدة من نوعها بلا شك في المقاطعة بأسرها. كانت سيارة السيد ويلينس، أخصائي البصريات، الذي كان يشبه الشخصيات الكرتونية عند قيادته لها؛ إذ كان قصيرا، مكتنز الجسم، عريض المنكبين، وكبير الرأس. بدا دوما محشورا في سيارته الصغيرة كما لو كانت بذلة تكاد تتمزق فوق جسده.
احتوى سقف السيارة على جزء متحرك اعتاد السيد ويلينس فتحه في الطقس الدافئ، وقد كان مفتوحا عند عثور الصبية على السيارة، لكنهم لم يتبينوا جيدا ما كان بالداخل. ولون السيارة جعل شكلها واضحا في الماء، لكن هذا الماء لم يكن نظيفا تماما، حتى إنه أعتم الأجزاء غير الواضحة من السيارة. جثم الصبية على ضفة النهر، ثم استلقوا على بطونهم ودفعوا رءوسهم للخارج مثل السلاحف محاولين النظر داخل السيارة . رأوا شيئا داكن اللون ومكسوا بالفراء يشبه ذيل حيوان كبير، وكان ذلك الشيء مدفوعا عبر الفتحة الموجودة بالسقف، ويتحرك بتراخ في الماء، وسرعان ما اتضح لهم أنها ذراع مغطاة بكم معطف داكن اللون مصنوع من نسيج ثقيل كثير الزغب، وبدا أن ثمة جثة داخل السيارة - بالتأكيد جثة السيد ويلينس - في وضع غريب؛ فلا بد أن قوة المياه - التي كانت شديدة في ذلك الوقت من العام؛ حتى في بركة المياه الصغيرة التي تزود الطاحونة بالماء - رفعت السيد ويلينس على نحو ما من مقعده ودفعته في ناحية أخرى بحيث صارت إحدى كتفيه قرب سقف السيارة فخرجت منه إحدى ذراعيه. أما رأسه، فقد ارتطم بالتأكيد بالنافذة والباب المجاورين لمقعد السائق، وانغرز أحد الإطارين الأماميين لعمق أكبر في قاع النهر من الإطار الآخر، ما عنى أن السيارة كانت مائلة على أحد جانبيها، مثل ميلها من الخلف للأمام. ولا بد أن النافذة كانت مفتوحة ويبرز منها رأس الجثة ليكون ذلك وضع باقي الجسم. لم يتمكن الصبية من رؤية ذلك، لكنهم تصوروا وجه السيد ويلينس كما يعرفونه؛ وجها مربعا ضخما ارتسم عليه عادة نوع من العبوس المتكلف الذي لم يخف أحدا قط بحق. أما شعره المجعد الخفيف، فكان مائلا للون الأحمر أو النحاسي في الجزء العلوي منه، وكان يصففه على نحو مائل فوق جبهته، وكان لون حاجبيه أغمق من شعره، كما كانا كثيفين ومجعدي الشعر كما لو كانا يرقانتين ملتصقتين أعلى عينيه. كان وجها قبيحا بالفعل في نظر الصبية، شأنه شأن الكثير من وجوه البالغين الآخرين، ولم يخشوا رؤيته غارقا، لكن كل ما تمكنوا من رؤيته هما تلك الذراع واليد الشاحبتين. واستطاعوا رؤية اليد بوضوح ما إن اعتادوا النظر عبر الماء، كانت تطفو هناك مترنحة كالريشة، وإن بدت كعجينة متصلبة. ومع اعتيادهم على رؤيتها، صار مظهرها عاديا؛ فبدت الأظافر كالوجوه الصغيرة الجميلة التي ترتسم عليها نظرة ترحيب عادية مدركة، تبرأ من الظروف المفروضة عليها.
قال الصبية في ذهول: «يا للهول!» قالوها بقوة وبنبرة تدل على احترام عميق، بل وامتنان أيضا. «يا للهول!» •••
كانت تلك هي المرة الأولى التي يخرجون فيها ذلك العام. عبروا الجسر الذي يعلو نهر بيريجرن - وهو جسر من حارة واحدة ومقطعين - والذي يعرف محليا باسم «بوابة جهنم» أو «شرك الموت»، مع أن الخطر الحقيقي كان في المنعطف الحاد في الطرف الجنوبي من الطريق أكثر من الجسر نفسه.
كان هناك ممر مستو للمشاة، لكنهم لم يستخدموه، أو بالأحرى لم يتذكروا قط استخدامهم له؛ فربما كانوا يفعلون ذلك قبل ذلك الحين بسنوات، عندما كانوا صغارا يحملون على الأيدي. لكن ذلك العهد قد ولى في نظرهم؛ وكانوا يرفضون الإقرار به حتى وإن عرضت عليهم أدلة مشيرة إليه في صور التقطت لهم أو أجبروا على الاستماع إلى هذه الأدلة في إحدى المحادثات العائلية.
أما الآن، فقد صاروا يسيرون بمحاذاة الرصيف الحديدي الممتد على الجانب الآخر من الجسر المقابل لممر المشاة. بلغ عرض ذلك الرصيف ثماني بوصات، وبلغ ارتفاعه قدما أو نحو ذلك فوق أرضية الجسر. دفع نهر بيريجرن ثلوج الشتاء وجليده - الذي ذاب بحلول ذلك الوقت - نحو بحيرة هورون. وأصبحت المياه محصورة بالكاد بين ضفتيه بعد الفيضان السنوي الذي حول المسطحات المترسبة بجانبه إلى بحيرة، واقتلع الأشجار الصغيرة من جذورها، وأطاح بأي قارب أو كوخ مر عليه. وبسبب الرواسب الفيضانية التي أتت من الحقول وعكرت صفو المياه بالوحل، وضوء الشمس الباهت المنعكس على صفحة النهر، بدت المياه كبودنج الباترسكوتش الذي يغلي على النار، لكنك إذا نزلت فيها، فسوف تجمد الدم في عروقك وتقذف بك في البحيرة، هذا إذا لم تهشم رأسك على الدعامات الخشبية أولا.
أطلقت السيارات نفيرها - تحذيرا أو توبيخا للصبية الثلاثة - لكنهم لم يلقوا لها بالا، وواصلوا سيرهم صفا واحدا بهدوء كالسائرين نياما. ثم في الطرف الشمالي للجسر، سلكوا طريقا مختصرا وصولا إلى الأراضي المسطحة، مع محاولة تحديد أماكن المسارات التي يتذكرونها من العام السابق. لم يمر وقت طويل على الفيضان، ما صعب اتباع هذه المسارات، فكان عليهم شق طريقهم فيها بين الأغصان المقطوعة، والقفز بين أكوام الحشائش الملتصقة بفعل الوحل، وكان أولئك الصبية يقفزون أحيانا بلا مبالاة، فيهبطون في الوحل أو برك المياه التي خلفها الفيضان. وعندما كانت أرجلهم تبتل، كانوا لا يبالون بعد ذلك بموطئها. أخذوا يخوضون في الوحل، وينثرون المياه بإنزال أرجلهم في البرك، ما جعل المياه تصل إلى أعلى أحذيتهم الطويلة الرقبة المصنوعة من المطاط. كانت الرياح دافئة؛ فمزقت السحب مكونة أشكالا تشبه خيوط الصوف القديم، وكانت طيور النورس والغربان تتشاجر وينقض بعضها على بعض فوق النهر. حامت الصقور الجارحة أيضا فوقهم مراقبة إياهم من أعلى؛ وطيور أبو الحناء أيضا عادت لتوها، وطيور الشحرور ذات الأجنحة الحمراء انطلقت في أزواج، عاكسة ألوانا براقة كأنها غمست في طلاء ما. «ليتنا أحضرنا بندقية الصيد عيار 22.» «ليتنا أحضرنا بندقية الصيد عيار 12.»
لقد كانوا أكبر من أن يرفعوا العصي الخشبية ويقلدوا صوت إطلاق الرصاص؛ فكانوا يتحدثون بنبرة آسفة اعتيادية، كما لو كانت هذه الأسلحة متوفرة لديهم بالفعل.
صفحة غير معروفة