قال سيسي لرفيقيه: «معي نقود.» أشعرهم الإفصاح عن امتلاكه المال بالراحة، وخشخش سيسي بالعملات المعدنية في جيبه. لقد كانت الأموال التي منحته إياها والدته بعد غسيله الأطباق وذهابه لها في غرفة النوم الأمامية ليخبرها بأنه سيخرج. قالت له: «خذ خمسين سنتا من على منضدة الزينة.» امتلكت والدته بعض المال أحيانا، مع أنه لم ير والده يمنحها أي أموال قط، وعندما كانت تقول له «خذ» كذا، أو تعطيه بعض العملات المعدنية، كان سيسي يدرك أنها خجلة من حياتهم وخجلة من أجله، ومنه. وفي تلك اللحظات، كان يكره رؤيتها (وإن كان يسعد برؤية المال)، لا سيما عندما كانت تقول له إنه فتى صالح ويجب ألا يظن أبدا أنها لا تشعر بالامتنان له لكل ما يفعله.
سلك الصبية الثلاثة الطريق المؤدي إلى المرفأ. وبجوار محطة بنزين باكيت، كان هناك كشك تبيع فيه السيدة باكيت الهوت دوج والآيس كريم والحلوى والسجائر. وقد رفضت في السابق بيع السجائر لهم، حتى بعد أن قال لها جيمي إنه يشتريها لخاله فريد. لكنها لم تتحامل عليهم بسبب هذه المحاولة. كانت امرأة كندية من أصل فرنسي، جميلة وممتلئة القوام.
اشتروا بعض حلوى عرق السوس الأسود والأحمر، واعتزموا شراء الآيس كريم لاحقا، عندما يخف شعورهم بالامتلاء بسبب وجبة الغداء. توجهوا نحو مقعدي سيارة قديمين موضوعين بجوار السور تحت شجرة تظلل المكان في فصل الصيف، وتشاركوا معا حلوى عرق السوس.
جلس كابتن تيرفيت على المقعد الآخر.
عمل كابتن تيرفيت قبطانا حقيقيا لأعوام عديدة على متن القوارب في البحيرة، أما الآن، فقد حصل على وظيفة مسئول أمن خاص؛ إذ كان يوقف السيارات للسماح للأطفال بعبور الطريق أمام المدرسة، ويحميهم من الانزلاق بالشوارع الجانبية في الشتاء. كان ينفخ في صافرة يحملها في إحدى يديه، في حين يرفع يده الأخرى الضخمة التي بدت كيد المهرج وهي مغطاة بالقفاز الأبيض. كان لا يزال طويلا مشدود البنية وعريض المنكبين، بالرغم من كبر سنه وشعره الأبيض. وامتثلت السيارات لأوامره، وكذلك الأطفال.
وفي الليل، كان يتفقد أبواب جميع المتاجر ليتأكد من غلقها بالأقفال، ومن خلوها من أي أحد يحاول سرقتها، أما نهارا، فكان ينام عادة في الأماكن العامة؛ ففي الطقس السيئ، ينام في المكتبة، وعندما تتحسن الأحوال الجوية، كان ينتقي أي مقعد في الهواء الطلق. لم يقض الكثير من الوقت في قسم الشرطة، ولعل السبب في ذلك يرجع إلى ضعف سمعه الذي حال دون متابعته للمحادثات التي كانت تجري هناك إلا إذا ارتدى السماعة الخاصة به، التي كرهها شأنه شأن كل ضعاف السمع؛ هذا فضلا عن اعتياده العزلة، بالتأكيد أثناء عمله قبطانا وتحديقه في الخلاء من فوق قوارب البحيرة.
أغمض الكابتن عينيه ومال برأسه للخلف كي يسمح لأشعة الشمس بالتدفق على وجهه، وعندما ذهب الصبية للتحدث معه (اتخذ هذا القرار دون أي مشاورة، ولم يتبادلوا سوى نظرة واحدة توحي بالإذعان والتردد) كان عليهم إيقاظه من غفوته. استغرق وجهه لحظة ليدرك المكان والزمان والأشخاص من حوله، ثم أخرج ساعة كبيرة عتيقة من جيبه، كما لو كان اعتاد على سؤال الأطفال له دوما عن الساعة، لكنهم بدءوا في التحدث معه وقد بدا على ملامحهم الارتباك وبعض الخجل. قالوا له: «السيد ويلينس في بركة جوتلند»، و«لقد رأينا السيارة»، و«لقد غرق.» فحينها وجب على الكابتن رفع يده والتلويح لهم ليصمتوا، بينما بحث بيده الأخرى في جيب بنطاله ليخرج سماعة أذنه. أومأ برأسه بجدية وعلى نحو تشجيعي، كما لو كان يقول لهم «مهلا، مهلا»، بينما كان يضع السماعة في أذنه. ثم، رفع كلتا يديه ليطلب منهم الانتظار حتى يختبر تشغيلها. وفي النهاية، أومأ برأسه ثانية على نحو أكثر نشاطا، وقال لهم «فلتتحدثوا الآن» بصوت حازم، وإن كان يمزح إلى حد ما بشأن هذا الحزم.
كان سيسي - الأكثر هدوءا بين رفيقيه، في حين كان جيمي الأكثر أدبا، وباد الأكثر ثرثرة - هو الذي غير مجرى الحديث تماما.
فقال للكابتن: «سحاب بنطالك مفتوح.»
ثم صاحوا جميعا بمرح، وفروا سريعا. •••
صفحة غير معروفة