ألسنا نخطئ من يزعم أن الورد في عام من الأعوام، ضعفت شجراته، وقلت زهراته؛ لأن آفة ألمت بحديقة من حدائقه، وطافت بجنة من جناته؟ بلى إنا نخطئه في زعمه؛ لأن ذلك قد يلم بالشجرتين في مغرس واحد، فتنجو إحداهما وتعطب الأخرى، فكيف نقبل إذن أن نحكم على الشعر قبل أن يوجد الشعراء، وعلى التشبيب قبل أن يخلق المشببون؟ ألا إن الحكم الأدبي لا يغني فيه غير الاستقراء، وهيهات أن ينفع الاستقراء حيث يكثر الشذوذ، وما دام الأدب من آثار النفوس، وما دامت النفوس قلما تتشاكل، فلن يصح إلحاق الأواخر بالأوائل، ولا الحكم على الأحفاد باتباع الأجداد.
ولقد كان يصعب التمييز بين شعراء العرب لو اتبعوا نقادهم فيما يأمرون به من توحيد المعاني، وتحدي القدماء، ولكن يظهر أن النفوس العربية الوثابة، التي ألفت الحرية، واعتادت الخروج حتى على الملوك والأمراء، لم تشأ أن تخضع في جوانح الشعراء لتلك النظم المشوشة التي وضعها العلماء، وكذلك نهض الأدب مع ارتباك النقد، فكان الشعراء في واد، والنقاد في واد.
إذن فلنترك تلك السبل، ولنحكم على الشاعر بما يصح أن يكون من ناحية ما اختص به، من لون نفسه، ووجهة خاطره، غير ناظرين إلى تلك الأنواع العامة، التي اتبعها صاحب «الأغاني» وغيره، تلك التي لا تميز شاعرا عن شاعر، ولا كاتبا عن كاتب، ولنجرب ذلك في الحكم على ابن أبي ربيعة المخزومي، ثم لننزل عند حكم الطبع، ولنتبع رائد التفكير. •••
علمتم أيها السادة أن ابن أبي ربيعة كان شابا محسود الشباب، وأنه كان الأمل الحلو الذي تتغنى به كل حسناء أوت إلى فراشها، أو هبت من منامها، والأمنية العذبة التي تترقرق في قلوب العذارى صاعدة هابطة بين اليأس والأمل، والرجاء والقنوط، والحديث المعسول تفضي به البنت إلى أمها، والأخت إلى أختها، بل كان زهرة النرجس، تلك الزهرة المقدسة، التي كان يرى العرب أن لا بد لمن يرغب في الحياة أن يشمها مرة كل شهر، أو مرة كل سنة، فإن لم يستطع ففي العمر مرة. وكان ابن أبي ربيعة يعلم ذلك، ويعلم أنه حديث الفتيان في الأندية السامرة، والفتيات في المغاني الزاهرة، نعم كان يعلم من ذلك ما أورثه العزة في نفسه، والتيه في حبه، فرغب عن قرب الملوك، وترك زيارة الأمراء؛ علما منه بأن له ملكا أعظم من ملكهم، وعزا أروع من عزهم، إذ كان أمير الحسن في عصره، ومليك الحب في دهره، فطالما قدمت إليه الحلل الفاخرة، والطيب النادر العرف؛ حبا في شعره الذي تنبه به الغواني، وتنفق به الأوانس، إذ كان من دلائل الحسن الذي يعتز به النساء، ويتيه به الكواعب أن يسير بيت لابن أبي ربيعة في وصف امرأة والتشبيب بفتاة.
علم ذلك ابن أبي ربيعة، وعلم أنه البدر الطالع في سماء الحسن، والزهرة الشائقة في جنة المحبة، فرأى من الحكمة أن يعمل على ما يزيد حبه رسوخا، وشعره نباهة، فاحتال لذلك بحيل ثلاث. •••
الحيلة الأولى: إبداعه في وصف النساء؛ ذلك الوصف الذي ما سمعته امرأة إلا ودت أن تكون الغرض منه، والسبب فيه، والذي ما ذكر فيه اسم امرأة إلا كانت أمل الآمل وأمنية المتمني، والذي طالما تسابق النساء إليه، وتباغضن من جرائه، فكم كان يحسد المرأة جاراتها، ويغبطها أترابها، إذا نوه بها ابن أبي ربيعة في شعره، أو خصها بالنسيب.
ويرى الدكتور ضيف أن ابن أبي ربيعة لم يعرف إلا بالقصص، فلم يكن من الوصافين للنساء، والناعتين للمحاسن. أما أنا فقد رأيت من حوادث النساء ما يدل على أنه كان لوصفه منزلة عندهن، وحديث بينهن، فقد ذكروا أن عائشة بنت طلحة سهرت ليلة لهم ألم بها، فقالت: إن ابن أبي ربيعة لجاهل بليلتي هذه حيث يقول:
وأعجبها من عيشها ظل غرفة
وريان ملتف الحدائق أخضر
ووال كفاها كل شيء يهمها
صفحة غير معروفة