واصدق فإن الصدق واسعنا
اضرب لنا أجلا نعد له
إخلاف موعده تقاطعنا
24
وإنا لنعجب حين نرى الرجال يقدرون مصير الحسان من بناتهم، فيهجرون مكة فرارا من ذلك الشاعر الخليع، فقد ولد لرجل من بني جمح جارية لم يولد مثلها بالحجاز حسنا، فقال: كأني بها وقد كبرت فشبب بها عمر بن أبي ربيعة، وفضحها ونوه باسمها كما فعل بنساء قريش، والله لا أقمت بمكة! فباع ضيعة له بالطائف ومكة ورحل بابنته إلى البصرة، فأقام بها، وابتاع هناك ضيعة، ونشأت ابنته من أجمل نساء زمانها.
ومات أبوها فلم تر أحدا من جمح حضر جنازته، ولا وجدت مسعدا ولا مواسيا، فقالت لمرضع لها سوداء: من نحن؟ ومن أي البلاد نحن؟ فخبرتها، فقالت: لا جرم، والله لا أقمت في هذا البلد الذي أنا فيه غريبة . فباعت الضيعة والدار وخرجت في أيام الحج، وكان عمر يقدم في ذي الحجة فيعتمر ويحل، ويلبس ما شاء من الحلل والوشي، ويركب النجائب المخضوبة بالحناء عليها القطوع والديباج ويرسل لمته، ويلقى العراقيات فيما بينه وبين ذات عرق محرمات، ويتلقى المدنيات إلى مر، ويتلقى الشاميات إلى الكديد، فخرج يوما للعراقيات فإذا قبة مكشوفة فيها جارية كأنها القمر تركب معها جارية سوداء، فقال للسوداء: من أنت؟ ومن أين أتيت يا خالة؟ فقالت: لقد أطال الله تعبك إن كنت تسأل هذا العالم: من هم ومن أين هم؟ قال: فأخبريني عسى أن يكون لذلك شأن، قالت: نحن من العراق، فأما الأصل والمنشأ فمكة، وقد رجعنا إلى الأصل ورحلنا إلى بلدنا، فضحك، فلما نظرت إلى سواد ثنيتيه قالت: قد عرفناك، قال: ومن أنا؟ قالت: عمر بن أبي ربيعة! قال: وبم عرفتني؟ قالت: بسواد ثنيتيك وبهيئتك التي ليست إلا لقريش،
25
فأنشأ يقول:
أصبح القلب في الحبال رهينا
مقصدا يوم فارق الظاعنينا
صفحة غير معروفة