ذكرت ما تقدم أيها السادة؛ تمهيدا للحكم على شعر ابن أبي ربيعة، وبيانا لإبداعه الذي عرف به، فإني رأيت الأدباء السالفين إنما ينسبون إليه هذه البدعة، ويسندون إليه هذا الجرم؛ وهو: تزيين الفسق وتلطيفه، وتسهيله لدى النفوس الأبية، وتقريبه إلى القلوب العصية، ولقد ذكر شعره مع شعر الحارث بن خالد في مجلس ابن أبي عتيق، ففضل بعض الحاضرين شعر الحارث، فقال ابن أبي عتيق: بعض قولك يا أخي! فإنه ما عصي الله - عز وجل - بشعر أكثر مما عصي بشعر ابن أبي ربيعة، يريد أنه أبصر بمواقع الأهواء، ومواطن التأثير.
وإذا كان المؤلفون في الأدب لم يشرحوا طريقة ابن أبي ربيعة في القصص، وكان منهجه فيه جديرا بالبيان والإيضاح؛ فقد أردت أن أبين وجه الفتنة فيه، وموضع الحسن منه، حتى يتبين لكم ما ذهبت إليه من أنه في شعره محتال، وأنه بالنسيب صائد، وحسبكم هذا المثال، قال:
راح صحبي ولم أحي النوارا
وقليل لو عرجوا أن تزارا
ثم إما يسرون من آخر اللي
ل وإما يعجلون ابتكارا
هنا يتمثل لكم وهو خافت الصوت، خافق القلب، لا يدري - وهو بين اليأس والأمل، والرجاء والقنوط - أيلتمس الحيلة إلى لقائها، ويبتغي الوسيلة إلى وصالها، أم ينصرف وهو شجي، ويرتحل وهو حزين، ثم بين ما تم له بقوله:
ولقد قلت ليلة البين إذ جد
رحيل وخفت أن أستطارا
لخليل يهوى هوانا موات
صفحة غير معروفة