شدت جسمها من تحت الغطاء، كانت العاصفة تلقي بالغبار الأسود، سيل منهمر من السماء ومن بطن الأرض، الرجال يملئون البراميل، من بعيد تراهم فوق خط الأفق كالظلال السوداء الصغيرة، بحجم الأطفال يحركون أذرعتهم في الهواء كأنما يلعبون، يحاولون إفراغ مياه البحر في جرادل صغيرة، أو إفراغ السماء من الهواء في دورق من الصفيح.
التوى عنقها تحاول النظر إلى النسوة، ظل البرميل فوق رأسها ثابتا، لم تعد تسقط منه قطرة واحدة وإن حركت رأسها، كان الوصول إلى النسوة يقتضي الانزلاق فوق المنحدر المغمور بطين النفط، في منتصف الطريق توقفت، نظرت من خلال الأفق إلى الكثبان السوداء، والبيوت الأكثر سوادا عند السفح، والأسطح غارقة في الظلمة، مغطاة بالبراميل المقلوبة، وأبراج حمام أسود الريش يشبه الخفافيش، وأطراف المآذن ورءوس المقابر كالصلبان المرفوعة، لم تكن تعرف اسم هذه القرية التي وجدت نفسها فيها بالصدفة، كانوا يسمونها مسقط الرأس، أجل، أي مسقط هذا الذي تهاوى فيه رأسها؟
رفعت النسوة أذرعهن، نزعن البراميل بحركة قوية من العنق، وانثناءة من الجذع، جلسن على حافة صخرة يغطيها طحلب أسود، كانت الأرض مبللة رطبة، الصمت يدوي كصفير الريح، سطح البركة يتموج تحت الضوء الشاحب، أمواج تتعاقب وتتكوم في الأركان مع الطحالب، والكثبان تحوط المكان كالجدران تحجز كل ما وراءها في العالم.
كانت هي تجلس في الوسط، كما كانت خالتها تجلس وسط النسوة، أخرجت واحدة من جيب جلبابها ورقة مطوية، كانت الحروف بالحبر الأسود بخط زوجها، أو رئيسها في العمل، وختم صاحب الجلالة بطبيعة الحال.
مدت النسوة أعناقهن يحاولن القراءة، بدت الحروف غريبة كأرجل صراصير الليل الأسود. - هذا مفزع. - أهناك وسيلة لإنقاذها؟ - مساعدتها على الهرب؟ - آه، لكن ...
عند هذه الكلمة أطبقت النسوة في صمت، سمع صوت يشبه أنفاس مكتومة، هواء محموم يخرج من الصدر، أو ربما هو صوت انسحاب الروح من الجسم، وانفرجت شفتاها عما يشبه الصرخة، أجل، كلنا في حاجة إلى الهرب، ولكن إلى أين والعالم فارغ، ومن قبل، نعم، من قبل قلت لكن مرارا هذه الكلمة «التضامن»، لكن هذه الكلمة ممنوع النطق بها، وكأنما هي الشيطان أو إلهة الموت سخمت. - سخماط؟ - علينا أن نصحح النطق وهذا في يدنا لأنه لساننا الذي ننطق به. - لن نكون جديرات بحق نأخذه من أياد ليست أيادينا. - وهكذا نسمح لأنفسنا بأوضاع لا ينبغي أن يقبلها الحيوان. - ليس أمامنا إلا عدد محدد من الأشياء التي يمكن لنا أن نفعلها بأيدينا. - الهرب مثلا؟ - سنهرب فوق أرجلنا، هذا واضح، فوق أرجلنا وليس أرجل غيرنا. - وتذكرة السفر؟ - آه تذكرة! - علينا أن نطالب بأجورنا.
هتفن في نفس واحد، أصبحت الكلمة مثل كرة من الضوء تنط من فم إلى فم، ترتطم بالظلمة كالجدار، فتعود مرتدة يحملها الهواء إلى حيث الفم لا زال مفتوحا، تدخل فيه حيث كانت قبل أن تخرج، ويدب الصمت. - ألم نطالب بأجورنا من قبل؟ - أجل من قبل. - علينا إذن أن نكف عن المطالبة ونأخذ أجورنا بأيدينا. - أجل، لن نكون جديرات بحق نأخذه من أياد ليست أيادينا.
وتبادلت النسوة النظرات من وراء الغطاء الأسود، هرشن رءوسهن حيث التهب الجلد تحت قاع البرميل، لم تتحرك عضلة واحدة في وجوههن، ولا الشفاه انفرجت عن صوت، عيونهن تتذبذب من تحت غمامة، كانت هي تنظر إلى البركة المغطاة بالغبار، الطحالب في الأركان يجرفها التيار، تبدو البركة عميقة كالبحر أو المحيط، وأجساد ميتة ترقد في القاع. - أهناك من يراقبنا؟
من وراء الثقب في الباب كانت العين تطل، عرفته على الفور من ظهره، الصنم كان بارزا تحت الضوء الشاحب، رفعت النسوة أذرعهن بحركة واحدة قوية، عادت البراميل واستقرت داخل الحفر فوق الرءوس، لم تعد ترى منهن إلا ظهورا مقوسة، أجسادهن صغيرة كالأطفال يتناقص حجمها بالابتعاد، ولا صوت إلا هفهفة الجلاليب من بعيد كحفيف الهواء.
كانت وحدها جالسة، ظلمة الليل تضعف، الظلام كالستار كان يحجبها، فإذا بالضوء يكشفها، ورأت الرجل واقفا، أدركت أنه رآها، وهي كانت من قبل رأته، واقفان متساويان في الرؤية وطول الجسم، لم يكن لهذا الوضع المستقيم أن يحدث في عالم غير مستقيم. - لم يعد أمامك فرصة.
صفحة غير معروفة