كان المحقق يدور بالكرسي حول نفسه، وعاصفة من الهواء تقلب الأوراق، لم يكن هناك دليل على شيء، والصحيفة مفتوحة أمام عينيها، صورتها تظهر وتختفي مع حركة الريح، وأخبار المفقودين من الناس أسفل الصفحة، كان اختفاء الناس أمرا طبيعيا، وهناك قانون للمفقودين من الرجال، على المرأة أن تنتظر زوجها المفقود سبع سنوات، ولا تذهب لرجل آخر، فالجنين يبقى في الرحم حيا سبع سنين، وهو ملك الرجل المفقود حتى يعود، والمرأة ليست إلا وعاء، المفقودات من النساء لم يكن لهن قانون، ليس على المرأة أن تصبح مفقودة ليذهب زوجها لامرأة أخرى.
أغمضت عينيها في مواجهة الريح، شعاع الشمس مثل لسان اللهب، كانت الفكرة تدور في رأسها مؤلمة كالمسمار، إذا كان التحقيق مستمرا فلا بد أن هناك حملات تفتيش، وهناك من يتعقب خطاها، ربما هناك كلاب من النوع الجيد، ذلك النوع المستورد الذي يميز رائحة البشر، يدربونها على التقاط الرائحة من المسافات البعيدة، ورؤية النجوم وقت الظهيرة، والدق على الآلة الكاتبة، واستخدام الأدوات الحديثة، وهي لا تعرف شيئا عن الحداثة، كل ما تعرفه ينتمي إلى الماضي والحفريات، لن تحميها الإلهة حتحور أو سخمت من أي كلب مدرب، لكن في أعماقها شيء غامض، ربما كان الأمر عائدا إلى ذلك الرجل الآخر، أيكون هو الذي أرسل البلاغات عنها إلى البوليس؟ أو ربما هو رئيسها في العمل، لقد لمح بطرف خفي إلى شكل أنفها، وهذه دعوة صريحة لما هو أكثر من الأنف.
أفاقت على صوت الشخير المنتظم، كان الرجل يغط في نومه فوق عتبة الباب، راح يتنفس بصوت عال كعادته، ينفخ الهواء وشفتاه تهتزان، راقدا فوق ظهره، واضعا ساقه اليمنى فوق اليسرى، يهز قدمه في الهواء، ارتفعت الشمس في كبد السماء، وصلت الحرارة إلى درجة حطمت فيها كل شيء، حتى تلك الغلالة الباقية من الحياء، رأته ينزع عن جسمه السروال أيضا، أصبح عاريا كما ولدته أمه، لكن الحياء سرعان ما عاوده مع انخفاض الشمس، فارتدى السروال على حين ظل نصفه الأعلى عاريا.
لم تكن عيناها تتابعان حركة الشمس، كانت تثبت نظرتها فوق الصورة في الصحيفة، تحت الأنف الروماني كان فمها مطبقا مزموما، زاوية كل عين ملتهبة، واسمها الثلاثي غائب، ليس هناك أي تقرير من البوليس، ربما كف الرجل عن إرسال البلاغات.
أشاعت الطمأنينة في جسدها نوعا من النشاط، نهضت من مكانها وداست فوق النفط المتجمد، لم تكن ترتدي إلا السروال الواسع، منتفخ إلى حد كبير، وجذعها عار تماما، كان الهواء رغم انعدامه يتخلل بشكل ما إلى تحت الإبط، رفعت ذراعيها إلى أعلى تستشعر بعض الارتياح، تراكم النفط حول خصرها حيث أحكمت ربط الحزام، أرادت أن تهرش زاوية كل عين، حين تذكرت فجأة أن الظمأ يحرق جوفها.
استدارت لتبحث عن الزجاجة، وفي الاستدارة أصبحت الشمس في عينيها تماما، لم تستطع أن تخطو نحو البيت، بدا الكون من حولها مشتعلا بنار حمراء، ولا أثر للرجل، كان ذلك أمر طبيعي فهو يختفي حين يشاء، ويعود متى يشاء، وقد يغيب سبع سنين، وعليها أن تنتظره بحكم القانون.
بدا غياب الرجل عاديا، مع طوفان النفط، يمكن لأي شيء أن يغيب في غمضة عين، خارج العتبة مباشرة كان الشلال يتدفق كأنما العاصفة تبدأ من جديد.
حين رفعت قدمها لتجتاز العتبة رأت الإزميل راقدا، من حول رأسه حزام الحقيبة ملفوفا على شكل عقدة، تدفق في جسدها إحساس بالألفة، كأنما هي ترى الرجل الغائب، وقد عاد متنكرا على هيئة الإزميل.
ربما كان ثمة شيء قد حدث، أصبح للإزميل الحديدي وجود إنساني، بدد الوحشة، وامتدت يدها إليه، تربت عليها فوق صدرها، كالأم تعثر على طفلها المفقود، وكأنما الإزميل كان يتحرك وحده، فانزلق إلى الأرض، يحفر فيها برأسه المدببة الصغيرة، بإصرار عجيب، راح يحفر بإصرار وعناد، كأنما هو طفل يبحث عن أمه، ويدرك عن يقين أنها هناك، راقدة في تلك الحفرة، في بطن الأرض. - ألا تكفين عن البحث؟
فاجأها صوته، ثبتت في موضعها متجمدة، سقط الإزميل من يدها، برزت الأوردة الزرقاء فوق يديها المشققتين، أدركت وهو ينظر إليها أن نهديها عاريان، حوطت صدرها بالملاءة وفي عينيها النعاس، لم تكن صاحية تماما، ولا تعرف إن كان هو زوجها أم رجل غريب، لو كان هو زوجها فمن الأفضل أن تصرخ، فهي لا تذكر أنها تزوجت رجلا له هذا الشكل، وإذا كان الرجل غريبا فسوف يمضي إلى حال سبيله دون حاجة إلى الصراخ.
صفحة غير معروفة