هبت نسمة هواء طرية، فتحت أزرار ثوبها تتلقى الطراوة فوق بشرتها العارية، كان للهواء ملمس منعش، أعاد إليها شيئا من سعادتها الطفولية، لم تكن كل طفولتها أحزانا، كانت هناك بعض لحظات سعادة، حين كانت تجلس فوق الجسر، عند الغروب، رأته ينظر إليها، يركز النظر إلى صدرها العاري، لم يكن بها أي رغبة لإغوائه، كانت تريد الهواء فحسب، يرطب بشرتها الملتهبة، ويجفف العرق.
كان عريها طبيعيا تحت وطأة الحر، لكنه ظل يحملق في صدرها كأنما كشفته عمدا، مدت ذراعها لتغلق الثوب فلم تمتد ذراعها، أغمضت عينيها في إعياء، أجل يمكن لها أن تهرب، ألم تهرب من قبل مرة؟ ألم تصنع ثغرة في الجدار تسلك منها وخرجت في إجازة؟
تلفتت حولها، لم تكن هناك جدران أربعة تحوطها، مجرد مساحات ممدودة من السائل، بركة أو بحيرة أمواجها سوداء، يمكن العثور على قارب، أو تصنع لنفسها مركبا من الجريد، في طفولتها صنعت سفينة صغيرة من زعف النخيل، وصنعت أيضا طائرة بجناحين من ورق الشجر.
بدأت تشد جسمها وتنهض، حركت قدميها في الاتجاه الآخر بعيدا عن الرجل.
ابتعدت بضع خطوات، رأته عن بعد أكثر إنسانية، ينظر إليها بعينين أكثر رقة، عيناها تنجذبان نحوه، يمكنه أن ينادي عليها لو أراد، لكنه صامت، وفي صمته شيء غير مستقيم.
لم تسر إلا بضع خطوات وعادت، كان الرجل قد دخل إلى الدار، رأته مستلقيا فوق ظهره يقطر في فمه من الزجاجة، بطرف لسانه مسح قطرة سقطت فوق شفته العليا، تطلع حوله كأنما لم يتوقع مجيئها. - أنت أناني، أليس كذلك؟ - نعم، ولكني أفضل من رجال كثيرين. - هذا أكيد. - غدا سأعطيك نصيبك، حين يصرفون المنحة. - غدا لن أكون هنا. - ماذا تقولين؟ - أرجوك، ساعدني لأعود، فهناك زوجي ينتظرني، قد تساوره الشكوك، وأيضا رئيسي في العمل لا يقل عن زوجي تشككا، وقد خرجت في إجازة، وهذا أمر يثير الشكوك، ولكن لم يكن يشغلني شيء، إلا البحث عن الإلهات، ولعلك سمعت عن الإلهة سخمت. - سخمط؟!
مط شفتيه إلى الأمام، وهو ينطق الكلمة، انقلبت شفته السفلى إلى الخارج، وقلب حرف التاء إلى الطاء. - ألا تعرف شيئا عن الحفريات؟ - في عيد صاحب الجلالة يأمرون بالصرف. - صرف ماذا؟ - الزجاجات. - لم أعد أريد شيئا! - ما المشكلة إذن؟ - لا أفهم لماذا لا تطلق سراحي؟ - سراحك؟ - نعم، فأنا مثلك إنسانة ولي حقوق. - ماذا؟ - حقوق المرأة! ألا تعرفها؟! - هذا شيء لم نسمع به، وعندنا قانون حقوق الإنسان فقط.
نكست عينيها، تنهدت بلا صوت، تهاوت ملامحها وتهدلت كتفاها، لم تبذل محاولة للرد، بدا لو كان الكلام بلا معنى.
غاب هو الآخر في صمت طويل، أطرق برأسه كأنما يتطلع إلى قدميه، أو ربما سقط في النعاس، ثم رفع رأسه، عيناه تنظران إليها. - لماذا لا تريدين البقاء هنا؟ - ولماذا تريد اللقاء هنا؟ - عملي هنا. - أتسمي هذه السخرة عملا؟ - هناك طابور طويل ينتظر بلهفة أن يخلو مكاني.
رفع ذراعه وأشار إلى خط أسود في الأفق، تابعت عيناها حركة أصبعه، كان الخط على شكل قوس منحن، يختفي وراء سحابة قاتمة، تتبدد قليلا تحت ضوء الشمس، يبدو الخط متحركا، على شكل نقط سوداء، آلاف النقط، تظهر على شكل رءوس متلاصقة، منحنية إلى أسفل، يسيرون بحركة بطيئة تشبه الزحف، يجرون أقدامهم جرا، يتقدمون خطوة وراء خطوة بظهور محنية، رجال لهم شوارب مفتولة، ونساء رءوسهن مربوطة بلا وجوه، تهب العاصفة وسحابة جديدة تظهر، يختفون تماما عن الأعين، لا يبدو لهم أثر، إلا ذلك الخط الأسود يتبدى في الأفق على شكل القوس.
صفحة غير معروفة