جعلها تبرك كالجمل، عصر خرقة بالية، ثم لفها على شكل دائرة، وضعها فوق رأسها، ثبتها بدقات متتابعة، كأنما يدق مسمارا في جدار، انثنى بنصفه الأعلى مثبتا قدميه في الأرض، رفع البرميل بذراعيه الاثنين ثم وضعه فوق رأسها، التوى عنقها تحت الثقل، وكاد البرميل يسقط، هبت الريح فأمالت البرميل إلى جانب، تركته مائلا وحركت قدميها، القدم وراء القدم، حركة السير العادية، الطريق أمامها كأنما مشت فيه من قبل، هذا الطابور من النسوة تعرفه، وهي واحدة من الطابور، يسرن بخطوة بطيئة ثابتة كالزمن، تزداد العاصفة والشلال يهدر، أجسادهن تهتز كالقشة في مهب الريح، كل شيء يهتز، إلا البرميل فوق الرأس، يظل ثابتا في مكانه، رابط الجأش.
كانت تعود بجسد منهك، تتكور فوق الأرض، ركبتاها تحت ذقنها، حقيبتها تحت رأسها، حلقها جاف ولسانها تشقق، تفتح عينيها في الظلمة، تبحث عن الزجاجة، لم تكن في أي مكان، تعود إلى النوم، ثم تصحو على الصوت، كان قد اصطاد حيوانا يشبه الخروف أو الماعزة، ذبحها بالسكين، تدفق الدم كالنافورة، العينان تنظران نحوها، تستنجدان بها، وصوته يزأر. - هيا، اطبخي! - أنا لا آكل اللحم. - ليس من الضروري أن تأكليه، عليك أن تطبخيه! - لن أطبخه!
مد ذراعه الطويل بالسكين، رمقت النصل اللامع، فالتوى عنقها إلى أسفل، انكمشت داخل جسدها تخفي رقبتها بيديها الاثنتين.
جرت جسدا ثقيلا إلى المطبخ، مسحت الدم حول العنق، أشعلت الموقد ووضعت الوعاء، تصاعد البخار حتى السقف، أحست به واقفا خلفها، يتشمم رائحة اللحم، يحتك بها من الوراء، غريزة الأكل عنده كانت تصحو وتوقظ معها الغرائز الأخرى، تركت جسدها له وراحت في النوم، بينما هي نائمة شعرت بألم، يشبه وخز الإبرة، كان ضميرها يؤنبها، كيف أعطيته نفسي مقابل وجبة عشاء؟
في الصباح هب تيار عنيف، تناهى إليها على متن الريح صوت يشبه المجداف، أرهفت السمع وقلبها يدق، سمعت صوت امرأة يشبه صوت خالتها.
تبدد الصوت حين حرك الرجل جفونه، شدها إلى أعلى وظهر النني الأسود محدقا فيها، أمسك خرقة بالية، ربما هي سروالها، أخذ يلويه بين يديه كأنما يعصره، جعله على شكل حزام وضعه فوق رأسها، جعلها تثني جذعها، ثم رفع البرميل بيد واحدة. - إنه ثقيل جدا! سوف يحطم عنقي.
صوتها يرتد إليها، كأنما هي تكلم نفسها، سارت به في الطريق نحو الشركة، كالنائمة في حلم، ربما لهذا السبب كان جسمها قويا، استطاعت أن تحمله دون عناء، بل أحست بنوع من الخفة كما يحدث في الأحلام، لكن قلبها كان ثقيلا، هذا العمل ترفضه بقرة تحترم نفسها، ربما لا يقبله إلا نوع منقرض من الحمير، والبرميل أيضا من النوع المنقرض، له أذنان كبيرتان، وبطن منتفخ بالحبل كالإله ذي الثدي الواحد.
ترددت بعض الأصوات من بعيد، صرخات خافتة ذات إيقاع واحد، أعقبها صوت كالغمغمة، وضحكات مكتومة ثم الصمت.
بدا لها أنها تمشي دون أن تتقدم خطوة واحدة، واقفة حيث كانت، لا يفصلها عن عتبة الدار إلا خطوتان، كان الباب مفتوحا وهو جالس في مقعده وراء الصحيفة. - العاصفة مستمرة. - يمكنك الانتظار. - في هذا الوضع؟! - حين يزحف النفط فلا شيء يقف في طريقه، وعليك التعامل معه نهارا حين تسطع الشمس ويجف. - وهذا البرميل يسخن رأسي! - لا بد من الانتظار، لا بد! - قال: «لا بد» وهو ينظر إلى أعلى، دارت سحابة رمادية عند الخط الفاصل بين السماء والأرض. - النفط يشرب بخار الماء في الجو، وحين تتبدد السحب بواسطة الشمس يحدث الجفاف. - الجفاف؟ - نعم، وينحسر السائل متحولا إلى صلب، ويمكنك السير بسهولة دون أن تغوص قدماك، ويمكن أيضا أن تسير فوقه الدبابات.
حين قال: «الدبابات» كست عينيه لمعة، تشبه الدموع، ربما أخذوه إلى الحرب، ستصبح مساحته فوق الفراش خالية، وتكف عن الطبخ، شدت عضلات عنقها تحت ثقل البرميل، ضربت الأرض بقدميها.
صفحة غير معروفة