وكنت أصغر إخوتي سنا، وكان أكبرنا قد تخرج في كلية الطب ليعمل مع أبينا في صناعته ثم ليخلفه على عيادته بعد عمر طويل، فكان قد أتم الرابعة والعشرين من عمره، وكان ثاني إخوتي قد أتم الحادية والعشرين من عمره وظفر بإجازة الليسانس من كلية الحقوق، وهو يتهيأ للعمل عند بعض الموثقين ولتحصيل إجازة الدكتوراه أثناء ذلك. فأما الثالث من إخوتي، فكان في السابعة عشرة من عمره قد ظفر بالشهادة الثانوية، ويريد أن يذهب إلى باريس، ليتهيأ فيها لدخول مدرسة المعلمين.
وكانت أسرتنا راضية موفورة ليست بذات ثروة ضخمة، ولكنها ليست ضيقة اليد ولا سيئة الحال ولا عاجزة عن أن تعيش عيشة فيها كثير من رغد وخفض، وآية ذلك أنا كنا نتهيأ في ذلك الصيف لألوان من العيش لا يتهيأ لها الذين قتر عليهم الرزق.
فقد كان أخواي يريدان أن يتركا فرنسا ليذهب أحدهما إلى إيطاليا، والآخر إلى بلاد اليونان والترك. وكان أصغر إخوتي يريد أن يلحق برفاق له في جبال الفوج، وكنت أتهيأ لأذهب مع أبوي وبعض أترابي إلى ساحل المحيط في بيارتز.
ولكن جو أوروبا يزدحم بالسحب ثم تخفق فيه البروق، وتقصف فيه الرعود، ثم تثور العاصفة فتحطم كل أمل وتغير كل اتجاه، ويذهب أخواي لا إلى إيطاليا ولا إلى اليونان ولكن إلى حيث تريد توجيههما وزارة الحرب. ويذهب أبي متطوعا للخدمة الطبية في بعض المستشفيات قريبا من الحدود.
وأبقى مع أمي وأخي في قريتنا هذه آمنين من غارات الحرب، غير آمنين أنباءها المنكرة، ومناظرها البشعة، إذا انحدرنا إلى هذه المدينة أو تلك، فرأينا هذا السيل الذي كان يتدفق بالجرحى على المستشفيات، وذلك السيل الذي كان يتدفق بالمحاربين على الحدود. ولكني مع ذلك لم أذق الحرب، ولم أبل مرارتها، ولم أحس لذعها الذي يحرق القلب ويغرق العين، إلا بعد أن تقدمت الحرب وبلغت من عمرها البشع ستة أشهر، حين جاءنا النبأ بأن أكبر أخوي قد صرع في أحد الميادين.
هنالك عرفت الحرب وأحسست آلامها، ولكن أسابيع لم تمض على هذا النبأ حتى يلحقه نبأ آخر بأن ثاني أخوي جريح يمرض في أحد المستشفيات، ثم لا يتم العام حتى تظهر في الأسرة ظاهرة من جنون لم ينكرها أبي حين استشير فيها بالكتب والرسائل، وأنكرتها أمي، ولكنها لم تجرؤ على أن تظهر إنكارها إلا بالإذعان والبكاء المتصل، وأنكرتها أنا أشد الإنكار وأعنفه، ولكن أحدا لم يسمع لي، وإنما كانت تلقاني الأسرة بالتلطف والتعطف والتسلية.
وهذه الظاهرة هي تطوع أخي الصغير للخدمة العسكرية قبل أن يبلغ سن الحرب، وكان يقول: قد صرع أحد أخوي وجرح الآخر، وما ينبغي أن تخلو ميادين الحرب من أحدنا.
ثم يسافر ذات يوم مع الصبح فنودعه، ثم لا نراه إلى الآن.
4
لم تكن ليلتي سعيدة أمس، وإنما انقضت شاحبة يملؤها الحزن والبؤس والشقاء. فقد انصرفت فجأة عنك أيها الدفتر العزيز، وحيل بيني وبين المضي فيما كنت أقص عليك من أنباء نفسي وأحاديث أسرتي.
صفحة غير معروفة