وكان ضحك القسيس هادئا، حتى إذا انتهى إلى هذه الجملة قوي وظهر فيه العنف حتى وجمت له الراهبة لحظة، ثم ثابت إلى نفسها وجففت دمعها ونهضت متثاقلة، وخرجت صامتة لم تحي الشيخ ولم تقل له حرفا، وإنما مضت أمامها لا تلوي على شيء كأنما أوذيت في ضميرها، فلم تر دفعا لهذا الأذى إلا أن تفر من مصدره فرارا.
وما أظنك فهمت من هذا الحديث كله شيئا، وأي غرابة في ذلك؟ فأنت لم توكل بحل الألغاز ولا بتأويل المشكلات، وإنما أنت قارئ أو قارئة - أستغفر الله - قارئة أو قارئ، يعرض عليه الفصل، فإن استقبله فاهما لأوله مضى فيه حتى يبلغ آخره، وإن أعياه أول ما يستقبل منه تجلد إن كان من أولي العزم ومضى في القراءة، لعله إن تقدم بعض الشيء كشفت عنه الحجب، وذللت له الصعاب، وفهم ما لم يكن يفهم، وإن لم يكن من أولي العزم أعرض عن القراءة وألقى الصحيفة أو الكتاب إلقاء.
وأنا أرجو لك أن تكون جلدا صبورا وأن تمضي في القراءة شيئا، فلعلك تفهم عاقبة هذه الألغاز والرموز. والحق أني لم أكن لألغز ولا لأوثر الرمز والإيماء، ولا لأقدم في أول هذا الفصل ما حقه أن يكون في آخره. لكن الكتاب المحدثين يذهبون هذا المذهب حين يريدون أن يقصوا عليك أقصوصة لها حظ من قيمة، أو نصيب من طرافة، وهم فيما يظهر إنما يذهبون هذا المذهب تشويقا للقارئ وإيقاظا لحبه الاستطلاع وميله إلى تعرف الأنباء.
وأنا أظن أن القصة التي أريد أن أقصها عليك خليقة أن أشوقك إليها وأنبهك إلى دقائقها، ومن هنا ذهبت في أولها مذهب الكتاب المحدثين. ومن يدري؟ لعلي لم أفعل ذلك إلا تقليدا لهم واقتفاء لآثارهم، وتكلفا لبعض فنهم الطريف. وسواء أكان هذا أم ذاك، فقد أفرغ بعد كلام قليل أو كثير من هذه المقدمات، وأنتهي بك إلى القصة نفسها؛ لترى أنت أخليقة هي بالعناية، أم ليس لها خطر ولا شأن؟
ولا ينبغي أن تسألني فيم هذه المقدمات، أو فيم هذا التعليل والتحليل، والإبعاد عن الموضوع والتكلف الذي يزهق النفس ويثقل على القلب! لا تسألني هذا السؤال؛ فإن جوابه حاضر: وهو أني أريد أن أذهب في هذا أيضا مذهب جماعة من الكتاب المحدثين الذين يريدون أن يظهروك لا على القصة التي يحبون أن يقصوها عليك فحسب، بل على مذهبهم في القصص وطريقتهم في التفكير أثناء القصص، يريدون أن يظهروك على أنفسهم حين يتحدثون إليك؛ لتراها واضحة جلية، ولترى أنهم يصدقونك ويكبرونك كل الإكبار، فلا يعبثون بك ولا يتكلفون لك، ولا يكذبون عليك.
وأنا أعترف بأني لا أحدثك عن هذه الراهبة التي كانت تبكي بين يدي القسيس، والتي كان القسيس يضحك لها ليردها إلى الأمن والطمأنينة، فأساءت به الظن وقدرت أنه يضحك منها ويهزأ بها، فانصرفت عنه كئيبا محزونة الفؤاد يكاد يملأ نفسها اليأس - لم أحدثك عن هذه الراهبة البائسة السعيدة، إلا لأن حديثها أعجبني وراقني وأثر في نفسي أبلغ التأثير، وإياك أن تظن أنه حديث مصطنع قد ابتكره الخيال ابتكارا، فلو كان الأمر خيالا لأنبأتك بذلك، ولكنه حديث كله حق وصدق. ولا لك من أن تقبل مني ذلك، لا لشيء إلا لأني أنبئك به، والأصل في الكاتب أنه صديق القارئ، ينصح له ولا ينبئه إلا بالحق، أليس كذلك ؟
كانت هذه الراهبة في الوقت الذي بكت فيه بين يدي القسيس وضحك لها فيه، أو ضحك منها القسيس، قد بلغت الخمسين من عمرها أو كادت تبلغها، وكانت قد أنفقت في الدير أعواما طوالا لا تقل عن ربع قرن، متكلفة ما تتكلفه الراهبات في صدق واقتناع وإيمان من حياة الزهد والنسك، ومن خشونة العيش وتكلف الجهد الثقيل، وكانت قد خصصت نفسها بعد أعوامها الأولى في الدير لخدمة الفقراء والبائسين، وللعناية بالمرضى والذين مسهم الضر وألح عليهم الشقاء.
وكانت تجد فيما تعاني من ذلك لذة لا تعدلها لذة، وسعادة نفسية لا تبلغها سعادة، وكانت كلما بلغ منها الجهد وثقل عليها العناء ازداد نصيبها من الغبطة وحظها من الرضا. ولم تكن تؤثر من المرضى وأصحاب العلل إلا أسوأهم حالا، وأخبثهم علة، وأقبحهم مرضا؛ لتبتلي نفسها في العناية بهم بأشد أنواع الابتلاء، ولترى الألم الإنساني في أقبح صوره وأبشعها، ولتروض نفسها على شر ما تراض عليه النفوس، ولتثبت في قلبها أن الحياة الدنيا لعب ولهو وباطل آخر الأمر.
ومع هذا كله فقد كانت على حظ من جمال أدركه شيء من الذبول والذواء، ولكنه لم يستطع أن يغير من معالمه، ولا أن يمحو مظاهره على ما كانت تحرص عليه هذه الراهبة من أن ترد نفسها إلى شر ما تستطيع امرأة أن تبلغه من سوء الحال. ومصدر ذلك أن هذه الراهبة كانت من بيت عظيم بعيد النسب في الشرف الفرنسي، رفيع المكانة في الحياة الفرنسية منذ قرون، توارث أهله المجد والثروة والرفعة والنعمة على اختلاف العصور والظروف، وألمت بهم المحن فاحتملوها كراما، وخرجوا منها ظافرين، وما أكثر ما كانوا يمتحنون في مكانتهم وثروتهم، ثم يخرجون من المحن محتفظين بالمكانة والثروة جميعا.
وكانت راهبتنا في أول عمرها صبية رائعة الجمال، قوية الحس، دقيقة الشعور، زكية القلب، مرهفة العقل، وكانت فتنة أبويها. كانا يؤثرانها على أخيها الذي كان يشغف بحياة العنف والمخاطرة، على حين لم تكن هي تصبو إلا إلى حياة الحب والعطف والحنان. ذهب أخوها مذهب أمثاله من شبان الأشراف، فطلب العلم، ثم اتصل بمدارس الحرب، ثم انتظم في الجيش، ثم كانت الحرب الكبرى، فكان في مقدمة هذا الشباب الذي استقبل العدو. وقد اتخذ للموت في سبيل الوطن زينة الأشراف، فلم يعد إلى أهله ولم يطل انتظارهم لأنبائه، وإنما انتهى إليهم نعيه في الأشهر الأولى لهذه الحرب.
صفحة غير معروفة