وما أدرى أطال مجلسنا هذا أم قصر، ولكني أعلم أني كنت أسرع منها إلى النشاط، فقد نهضت خفيفة رشيقة فاستقبلتها ثم انحنيت عليها فأخذت كتفيها فهززتهما هزا عنيفا رفيقا معا، وأنا أقول لها في صوت حزين يتكلف الفرح وبوجه عابس يتصنع الابتسام: «هلم هلم يا أماه ما هذه القصة الصامتة التي أخذنا في تمثيلها منذ اليوم؟ أي شيء طرأ؟ وأي حادث عرض؟ ألم أنهك عن هذا البكاء؟ ألم أحرم عليك هذا الإغراق في الحزن؟ ما أجمل هذه التحية التي استقبلتني بها! أهكذا تلقى الأمهات بناتهن حين يشرق لهن وجه النهار؟ هلم هلم يا أماه إنك خليقة أن أغضب عليك وأن أعاقبك عقابا شديدا فأعبس لك النهار كله وأعرض عن حديثك إلى الغد. هلم هلم ما كنت أدري أن السن تتقدم بك فتردك إلى سيرة الصبية والأطفال.»
أقول لها ذلك متكلفة أول الأمر، ولكن التكلف يزول شيئا فشيئا، وإذا أنا أراني جادة، ويخيل إلي أني قد صرت لها أما وأنها قد صارت لي بنتا ناشئة، وأني أؤدبها وأهذبها وآخذها في سيرتها بالرشد والصواب، وإذا أنا أنهضها فلا تمتنع علي، وإنما تستجيب لي فتنهض غير متثاقلة، وإذا أنا أطوق خصرها بذراعي وأسعى معها رفيقة فتسعى مطيعة مذعنة وعلى وجهها إشراق كئيب، وعلى ثغرها ابتسام حزين، حتى إذا خرجنا من غرفتها وأغلقت الباب من دوننا، قلت لها في لهجة العاتبة: لقد أخرت ساعة إفطاري، ألا تستحين؟ إنك قد أفطرت من غير شك، فلا عليك ألا يفطر الناس، ومع ذلك فإني لن أفطر الآن عقابا لك!
فتلتفت إلي وتهم أن تتكلم، تريد من غير شك أن تحرضني على الإفطار، ولكني أريحها من الكلام قائلة: لقد صرفت نفسي عن الرغبة في الطعام والشراب، ولا بد لي من لحظات قصار أتنسم فيها الهواء وأطوف في أثنائها بالحديقة، وأحس في أثنائها ما يملأ الحديقة من زهر وشجر، وأتلقى تحية الزهر والشجر أيضا، وستشهدين هذا كله وسترافقينني في هذه الرياضة، فلعلها ترد إليك بعض الحكمة، ولعلك تثوبين معها إلى الرشد، ولعلها تهيئك لإفطار جديد، فلن أفطر وحدي هذا اليوم، ولا بد من أن تحتملي هذه الخطيئة التي لا أغتفرها.
أقول لها هذا كله في صوت يضطرب بين الشدة والهدوء، وبين التكلف والجد، وهي تسمع لي مذعنة أول الأمر، ثم مقبلة علي مبتسمة لي، وما هي إلا لحظات حتى نكون في الحديقة مطوفتين؛ أنا أقف بها من حين إلى حين عند هذه الجماعة أو تلك من النجوم والأزهار، متحدثة إليها ألوانا من الحديث عن هذه النجوم والأزهار، داعية البستاني بين وقت ووقت، أستفسر منه مرة، وألومه طورا، وأنهاه طورا، وما أزال على ذلك حتى أرد إلى قلبها بعض الأمن، وإلى نفسها بعض الهدوء، وإذا هي تشاركني في بعض الحديث وتوافقني في هذه الملاحظة وتخالفني في تلك، حتى إذا بلغت من ذلك كله مأربي رجعت بها إلى غرفة المائدة، فاضطرت متكلفة، وأكرهتها على أن تشرب قدحا من القهوة. ثم أمضيت معها الضحى كله أجاذبها أطراف الحديث في شئون مختلفة متباينة، لا تتصل بي ولا بأخي، ولا بالفقيدين الشهيدين، وإنما تتصل بأهون الأشياء وأيسرها وأجدرها أن ينفق فيه الوقت، ويستعان به على احتمال الحزن والألم.
وكذلك أنفقنا صباح اليوم حليفتين على دفع هذا الضيف البغيض الذي أراد أن يغزو دارنا وأن يفسد أمرنا وأن يردنا إلى شر ما كنا. ولم أفارق أمي إلا حين تقدم المساء، وبعد أن فرغنا من غدائنا ومن هذا الحديث الذي تعودنا أن نأخذ فيه بعد الغداء. ولم أتركها وحيدة، وإنما أوصيت بها إلى أبي، ونبهته في رفق إلى أنها لم تكن حكيمة ولا رشيدة صباح اليوم. ومن يدري لعله هو أيضا لم يكن حكيما ولا رشيدا، ولعله لم يكن أقل منها حزنا، ولكن الرجال يحسنون الصبر ويتقنون التجلد، ويبلغون من كظم الحزن وإخفاء العواطف ما لا يبلغ النساء.
وخلوت إلى نفسي بعد ذلك، فجعلت أستعرض ما كان من الأمر وألتمس له - كما تعودت - العلل والأسباب، ولكني لم أستطع أن أرد هذه الأزمة الطارئة المفاجئة إلى سبب معقول أستريح إليه. وكيف عرفت أمي أني أسرف في السهر؟ إنها إذن تلاحظني أكثر مما كنت أظن. لقد كنت أحسب أني كنت آمنة على خلوتي إذا افترقنا حين يتقدم الليل، وأن كلا منا يأوي إلى غرفته فيفرغ لنفسه من كل إنسان، ومن كل شيء، وتؤجل الصلات بينه وبين الناس والأشياء إلى غد، ويستمتع بحريته الكاملة ساعة قبل أن يغلبه النوم. كنت أظن ذلك، ولكني كنت واهمة، فهذه أمي تلحظني بعد أن نفترق، وتعرف أني أسرف في السهر، وتلومني في ذلك لوما رفيقا.
وليس من شك في أنها تلاحظني منذ أيام، فهي لم تقل لي لقد أسرفت في السهر أمس أو أول من أمس، وإنما قالت لي إنك تسرفين في السهر. إنها لا تتعمد هذه الملاحظة، فليس هذا من خلقها، ولكن المسكينة مؤرقة دائما تسرف في السهر عن اضطرار، لا عن عمد. وما أكثر ما يضطرها الأرق إلى النهوض من سريرها والاضطراب في غرفتها والوقوف إلى النافذة تستنشق الهواء وتنظر إلى السماء!
ولعلها تلتمس نفس هذا أو ذاك من فقيديها الشهيدين، متحيرة بين هذه الأشعة الضئيلة التي ترسلها النجوم إلى الأرض. وأكبر الظن أنها لاحظت الضوء ينبعث من نافذتي، فصبرت على ذلك مرة ومرة، فلما تكررت الملاحظة وطال الأمر لم تطق على ذلك صبرا، فدفعها الإشفاق إلى هذا التنبيه. والغريب أن لنافذتي أبوابا، وأن من دونها أستارا، وأن هذه الأستار إن أسدلت وتلك الأبواب إن أغلقت، خليقة أن تحجب الضوء وتمنعه من النفوذ.
ولكني لا أحسن إليك الخلوة أيها الدفتر العزيز، ولا أحتاط حين أناجيك وأفضي إليك بأسرار الضمير، على أني لم أفهم كيف انتهى إشفاق أمي علي من الإسراف في السهر بنفسها إلى هذه الأزمة الحادة، فقد كان من أيسر الأشياء أن تدعوني إلى ما تحب، وتنهاني عما تكره، دون أن يضطرب قلبها هذا الاضطراب العنيف.
أترى حزنها يعظم لها الهين من الأمر ويكبر لها الصغير من الشأن ويخيفها من أقل الأشياء دعاء للخوف؟ أترى فقدها لابنيها يملأ قلبها حرصا على استبقاء ابنيها الآخرين، فهي تشفق عليهما من أيسر الأمر وأهونه؟ أم ترى أن في الأمر شيئا آخر وأنها لم تكد تتحدث إلي وتضمني إليها، حتى ثارت في نفسها عواطف وعرضت لها شئون وتصورت المستقبل القريب أو البعيد، وأشفقت من فراق قريب أو بعيد، فثارت العاصفة وكانت الأزمة؟
صفحة غير معروفة