إذن، من الواضح، بالنسبة لتولكين، أن إرو يستطيع حقا أن يرى المستقبل، وأن يضع خططا وفقا لمعرفته المسبقة، وفي نفس الوقت يملك بيلبو (مثل الأشخاص الآخرين الذين يمثلون جزءا من تلك الخطط) حرية اختيار السلوك الذي ينتهجه. وهكذا نعود مجددا لمواجهة مشكلة قدرة إرو على معرفة المستقبل كاملا، حتى عندما يملك الناس إرادة حرة. كيف يكون ذلك ممكنا؟ (4) حل تولكين البوثي
ثمة بذور لحل آخر محتمل لمشكلة المعرفة الإلهية المسبقة غرسها الفيلسوف الروماني بوثيوس (حوالي 480-524م) في عمله الكلاسيكي «عزاء الفلسفة»، الذي ألفه بينما كان في السجن في انتظار الإعدام بتهمة جائرة.
14
ذهب بوثيوس إلى أن البشر لا يملكون سوى ذرة صغيرة من وجودهم، في أي زمن؛ إذ إن ماضيهم قد ولى بالفعل، ومستقبلهم لم يأت بعد. وفي اعتقاده أنه لا بد أن ذلك لا ينطبق على الله؛ فالله له الوجود المطلق. لذا فلا بد أن يكون لديه كل واقعه دفعة واحدة، وليس مجزأ على مدار الزمن.
ولكن لا بد أن ذلك يعني أن الله خارج إطار الزمن، وغير خاضع للتغيير، فنحن البشر نعيش لسنوات، ويتقدم بنا العمر، ونتغير كل يوم، ولنا ماض وحاضر ومستقبل. أما الله، بحسب اعتقاد بوثيوس، فليس كأحد منا، والفارق ليس مجرد مسألة طول الزمن؛ فالزمن لا يسري على الله من الأساس؛ فليس له «ماض وحاضر ومستقبل»، بل فقط «حاضر آني» مخلد لا يتغير.
15
كيف يساعد ادعاء بوثيوس بأن الله خارج إطار الزمن في حل مشكلة المعرفة الإلهية المسبقة؟ هب أن بيلبو يعلم أن بارد الرامي يتناول عشاءه لأنه يشاهده يفعل ذلك. إن معرفته بأفعال بارد وتصرفاته لا تضع إرادة بارد الحرة محل شك البتة؛ فالمعرفة بحدث يقع في «الحاضر» لا تثير أي إشكاليات فلسفية بشأن الحرية، ولكن إذا كان الله خارج إطار الزمن، كما يعتقد بوثيوس، إذن فبإمكان الله أن يرى المستقبل؛ فهو، من منظور الله فقط، ليس في المستقبل، ولكنه يحدث «الآن»؛ ومن ثم فالله لم تكن لديه معرفة «مسبقة» بالمعنى الحرفي تماما.
تخيل أن لديك نسخة فيلمية من فيلم بيتر جاكسون «الهوبيت» تعرض أمامك. بإمكانك أن تنظر إلى المشاهد في بداية الفيلم ونهايته في آن واحد. تلك هي الكيفية، بشكل عام، التي استوعب بها بوثيوس رؤية الله للكون. فلما كان الله خالدا ويوجد خارج إطار الزمن؛ فبوسعه أن يرى في لمحة واحدة أبدية لا زمن لها، أحداثا تقع على بعد آلاف السنين، مشاهدا إياها وكأنها جميعا تقع في اللحظة نفسها.
لعلك تقول إن كل ذلك جيد وعظيم بالنسبة لبوثيوس، ولكن ما علاقته بتولكين؟ في الواقع، هناك مؤشرات واضحة على أن هذا كان الحل الذي توصل إليه تولكين لمشكلة المعرفة الإلهية المسبقة، في كل من عالم اليوم الواقعي وفي الأرض الوسطى الخيالية في «الهوبيت».
ثمة إشارات إلى أن تولكين قد تبنى الحل البوثي في مواضع كثيرة مختلفة. لنعد، على سبيل المثال، إلى موسيقى الآينور. إن هذه القطعة، مثلما يقال لنا، تعزف في ردهات لا زمنية. حين يختار بعض من الآينور (من بينهم الفالار، ملائكة الطبقة العليا؛ مثل إلبيريث التي يغني لها الجن) دخول العالم الجديد الذي خلقه إرو يقال إنهم «دخلوا في بداية الزمن».
صفحة غير معروفة