التاريخ عند ابن أبي شيبة
الناشر
الجامعة الاسلامية بالمدينة المنورة
رقم الإصدار
السنة السابعة والعشرون
سنة النشر
العددان - مائة وثلاثة - مائة وأربعة - ١٤١٦/١٤١٧هـ
تصانيف
مقدمة
...
ملخص البحث
عني علماء الحديث خلال القرون الثلاثة الأولى بتدوين التاريخ وذكر مروياته، وعلى رأسهم أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) صاحب المصنف، سواء من خلال أبوابه كالمغازي والجهاد والفضائل أم من خلال كتبه الأخرى كالتاريخ والجمل وصفين والفتوح التي وصلتنا مضمومة للمصنف عدا الفتوح فهو مفقود.
ويتناول هذا البحث التعريف – باختصار - بأهمية المصادر الحديثية في دراسة التاريخ ثم التعريف بالمصنف وملامح عصره وذكر مؤلفاته، ثم يفصّل في دراسة التاريخ ومعرفة منهجه وموارده فيه، وفروعه عنده، مثل المعارك والفتوح وتواريخ المدن والأقاليم وتراجم الأعلام وآداب الحرب ومعاملة أهل الذمة، مع مقارنة بالمصادر التاريخية المبكرة ما أمكن، والإشارة إلى بعض ما انفرد به أو حفظه من الروايات التاريخية التي فقدت مصادرها أو انخرمت من الموجود منها.
والله ولي التوفيق.
1 / 560
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده محمد بن عبد الله وعلى آله وصحبه وسلم.
تمثل كتب المصنفات والصحاح والسنن مصدرًا مهمًا من مصادر التاريخ الإسلامي المبكر، فهي لا تخلو من ذكر فتح أو غزوة أو سرية أو وصف متوقف أو حادثة أو مكان أو قول خليفة أو قائد أو والٍ ترجمت له، فتزيد من التفصيل المذكور عنه في المصادر التاريخية أو تذكر صوره أخرى له موافقة فتدعمه أو فيها زيادة فتجليه أو مغايرة فتعيد النظر في دراسته والموقف منه، ولذلك فإن عدم الرجوع إليها في الموضوعات التاريخية المشتملة عليها يعد قصورًا منهجيا في عدم استيفاء مادتها، ويبقى نتائج دراستها ناقصة. وإذا كانت كتب الصحاح عنيت أخيرًا باهتمام المؤرخين والرجوع إليها، ودراسة منهجها في إيراد الحوادث التاريخية، فإن كثيرًا من المصادر الحديثية الأخرى مازالت تحتاج إلى الاهتمام نفسه من قبل المؤرخين المحدَثين، فهي مظان كبيرة لجوانب عديدة من الأحداث التاريخية المختلفة.
إن غياب المصدر الحديثي في الدراسات التاريخية الحديثة يعد قصورًا منهجيًا لا مبرر له، وقد آن الأوان لردم ما اتسع من الفجوة وإعادة التلازم والتراحم الذي كان قائمًا بين هذين العلمين في صدر الدولة الإسلامية.
وقد ورد أصل الحادثة وذكرها بإجمال عند أصحاب المصنفات وجاء ذكرها بالتفصيل عند المؤرخين وقد يعود ذلك إلى أن الأولين يشترطون علوًا ودقة في الإِسناد أكثر من المؤرخين، وهو ما ظل يراعيه أصحاب الصحاح وتساهل فيه المؤرخون.
1 / 561
تم إن طبيعة الاختصاص اقتضت التفصيل عند المؤرخين واقتضت الإيجاز عند الآخرين.
وكان أبو بكر بن أبي شيبة (ت ٢٣٥ هـ) علمًا من أعلام المصنفين في الحديث، وشيخًا لِلإمامين البخاري ومسلم، وأحد رواة الصحيحين الثقاة سواء في المرويات التي أشير لها في البحث أو غيرها. وقد روىَ عنه البخاري في عدة مواضع ولا سيما في كتاب المغازي.
ولكن قليلًا من أهل الاختصاص في التاريخ بل كثير من القراء يعرفونه مؤرخًا ومن ثم كانت مؤلفاته التاريخية المبكرة والثقة في مؤلفها وقيمة المنهج الذي اتبعه منها مصدرًا مهمًا لبعض المصادر التاريخية المشهورة كالبلاذري والطبري والخطيب البغدادي.
وإذا كان بعضهم سبق ابن أبي شيبة بذكر روايات تلك الحوادث أو أنها جاءت في مصادر أخرى فإن سبقه بها الكثيرين أيضًا، والثقة فيه تحتم الإفادة الكبيرة من مروياته فيها.
ولذا فإن عرض كثير من المرويات والأخبار الواردة في المصادر الأخرى على ما أورد ابن أبي شيبة، كل في موضوعه ومقارنتها سيثري الدراسة التاريخية في مجالاتها لا من حيث القيمة المصدرية لمادتها فحسب وإنما من حيث المضمون والنتائج لها.
وعند مقارنة أهميتها التاريخية نجد أن حجم مادة الغزوات عنده يوازي تقريبًا ما ورد عنها عند ابن سعد على الرغم من أن هناك غزوات لم يرو فيها ابن أبي شيبة شيئًا.
فإذا أدركنا اختلافه في طرق الإِسناد والمتن في كثير من المواضيع التاريخية عنِ الآخرين ولا سيما المؤرخين فإن ذلك يثرى البحث فيها، ويتيح مجالا واسعًا للمقارنة بينهما.
1 / 562
ورغم شهرته عند المؤرخين الأوائل واعتمادهم عليه فإنه لم يحظ بالاهتمام المرجعي في الدراسات التاريخية الحديثة.
ولهذا جاءت هذه الدر اسه في محاولة للفت أنظار الباحثين المحدثين في التاريخ إلى أهمية مؤلفات ابن أبي شيبة التاريخية وضرورة تأسيهم بأسلافهم الذين أدركوا تلك الأهمية والمنزلة السامية لمؤلفها في الاعتماد عليها في كثير من فروع التاريخ وأبواب التأليف فيه.
باب: ابن أبي شيبة ... ابن أبي شيبة: هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، ولد بالكوفة سنه ١٥٩ هـ ١ ونشأ وتعلم بها، ثم رحل إلى البصرة وبغداد ومكة والمدينة٢. وكان من بيت علم اشتهر منه أخواه عثمان والقاسم وابنه إبراهيم بن أبي بكر وابن أخيه محمد بن عثمان بن أبي شيبة٣. ومن أشهر من تلقى العلم وروى الحديث عنهم شريح بن عبد الله القاضي وعبد لله ابن المبارك ووكيع ابن الجراح وأخوه عثمان ابن أبي شيبة، وآخرون غيرهم٤ أكثر من رواية التاريخ عنهم مثل عبد الله بن إدريس وأبي أسامة. أما أشهر من تلقى عنه فهم الشيخان الإمام البخاري ومسلم، وأبو داود وابن ماجه، والإِمام أحمد وابنه عبد الله والإِمام إبراهيم الحربي وآخرون كثيرون٥. ووصفه الإِمام البخاري بأنه من أقران أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه _________ ١ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج١٠ ص٦٦. ٢ نفسه. ٣ الذهبي: سير أعلامء النبلاء ج١١ ص١٢٢-١٢٣. ٤ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج١٠ ص٦٦. ٥ البخاري: كتاب التاريخ الصغير ج٢ ص٣٣٣.
باب: ابن أبي شيبة ... ابن أبي شيبة: هو أبو بكر عبد الله بن محمد بن أبي شيبة العبسي، ولد بالكوفة سنه ١٥٩ هـ ١ ونشأ وتعلم بها، ثم رحل إلى البصرة وبغداد ومكة والمدينة٢. وكان من بيت علم اشتهر منه أخواه عثمان والقاسم وابنه إبراهيم بن أبي بكر وابن أخيه محمد بن عثمان بن أبي شيبة٣. ومن أشهر من تلقى العلم وروى الحديث عنهم شريح بن عبد الله القاضي وعبد لله ابن المبارك ووكيع ابن الجراح وأخوه عثمان ابن أبي شيبة، وآخرون غيرهم٤ أكثر من رواية التاريخ عنهم مثل عبد الله بن إدريس وأبي أسامة. أما أشهر من تلقى عنه فهم الشيخان الإمام البخاري ومسلم، وأبو داود وابن ماجه، والإِمام أحمد وابنه عبد الله والإِمام إبراهيم الحربي وآخرون كثيرون٥. ووصفه الإِمام البخاري بأنه من أقران أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه _________ ١ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج١٠ ص٦٦. ٢ نفسه. ٣ الذهبي: سير أعلامء النبلاء ج١١ ص١٢٢-١٢٣. ٤ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج١٠ ص٦٦. ٥ البخاري: كتاب التاريخ الصغير ج٢ ص٣٣٣.
1 / 563
ويحيى بن معين وعلي بن المديني١، وقال الذهبي في السن والمولد والحفظ ٢.
وقال يحي بن معين والإمام أحمد: إنه صدوق٣. ووصفه الذهبي بالحافظ الكبير الحجة، وأن إليه المنتهى في الثقة٤. نظرًا لما عرف عنه من قوة الحفظ حتى كان فيه مضرب المثل.
عصره:
عاش ابن أبي شيبة ما بين منتصف القرن الثاني والثالث أي في العصر العباسي الأول، وأدرك من خلفائه الرشيد والأمين والمأمون والمعتصم والواثق وبداية عهد المتوكل. وكان المتوكل يقربه ضمن من قرب من علماء الدولة، وفي سنه ٢٣٤ هـ ندبه في الرد على المعتزلة في قولهم بخلق القرآن، فجلس ابن أبي شيبة يفند آراءهم في مسجد الرصافة ببغداد فاجتمع عليه نحو من ثلاثين ألفًا٥. ويدل ذلك على غزارة علمه ومكانته بين الناس حتى يحضر دروسه مثل هذا العدد.
وتوفي ﵀ ببغداد سنة ٢٣٥ هـ٦.
كما عاش ابن أبي شيبة في هذا العصر، وهو عصر نضج التدوين والتأليف في مختلف العلوم الإسلامية، عاش فيه الأئمة الأربعة والإمام البخاري ومسلم وعبد الله بن المبارك.. وغيرهم كثير. وهو أيضًا عصر التأليف التاريخي وآخر مراحل اتصاله بعلم الحديث بعد أن كانا صنوي نشأة ومنهج وقتًا طويلًا.
_________
١ البخاري. كتاب التاريخ الصغير ج٢ ص٣٣٢-٣٣٣.
٢ سير أعلام النبلاء ج١١ ص- ١٢٢.
٣ المصدر السابق: ج١١ ص١٢٣-١٢٤.
٤ الذهبي: ميزان الاعتدال ج٢ ص٤٩٠.
٥ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج١٠ ص٦٧.
٦ البخاري: كتاب التاريخ الصغير ج٢ ص٣٣٥.
1 / 564
ولهذا عاصر ابن أبي شيبة عددًا من المؤرخين الذين كانوا أعلامًا وقتذاك ولكنهم اشتهروا في التاريخ أكثر من غيره إلى جانب تبريز بعضهم في علوم أخرى مثل ابن إسحاق وابن هشام وابن سعد وخليفة بن خياط وعمر بن شبة ومصعب الزبيري.
وإذا كان عصره لا يزال يمثل اتصال التاريخ بعلم الحديث ولما كان ابن أبي شيبة من علماء الحديث، فإن كتابته للتاريخ كانت متأثرة بذلك منهجًاَ وغاية، فقد ضمن عدد من معاصريه من المحدثين كتبهم أبوابًا في التاريخ حيث كانت المغازي بابًا ثابتًا في مؤلفاتهم فجاءت مثلًا عند الصنعاني في مصنفه والبخاري ومسلم في صحيحيهما في الوقت الذي كثر فيه التأليف التاريخي المستقل، وظهر فيه الخروج على قواعد منهج المحدثين فيما يتعلق بالدقة والتحري، وبقي فيه بعض ضوابطه كالسند وهو منحى مهم يزيد في قيمة الكتابة التاريخية عندما تكون في هذا الوقت من مثل هذا العلم، وحسب التاريخ أن يكتب فيه مثله.
إن الإغراض في التأليف التاريخي والتساهل في السند كان حافزًا مهمًا للمحدثين، ولبعض المؤرخين، لكتابة التاريخ على منهج تدوين الحديث والإبقاء عليه، مثلما فعل الطبري في تاريخه فيما بعد.
وعلى الرغم من استقرار منهج المحدثين رواية ودراية في علمهم وقتذاك، إلا أنه في تدوين التاريخ لم يكن بنفس القوة والتطبيق، فقد شاح عنه المؤرخون منذ ذلك الوقت وتحففوا منه ثم تركوه في العصور التالية.
ولكن بقي بعض المحدثين خلال القرن الثالث يعقلون به تدوين التاريخ وعلى رأسهم ابن أبي شيبة.
1 / 565
مؤلفاته:
ألف ابن أبي شيبة عددًا من الكتب، هي كتاب السنن في الفقه، وكتاب التفسير، وكتاب المسند في الحديث١.
ولم يذكر المتقدمون مثل النديم صاحب الفهرست والخطيب البغدادي أن له كتابًا اسمه المصنف في الحديث بينما ذكره المؤرخون كابن كثير ٢ وحاجي خليفة٣ وإسماعيل البغدادي٤.
حتى أن النديم لم يذكر كتابًا لأي مؤلف بهذا الاسم، وأكثر من ذكر أسماء الكتب المتفقة مع مؤلفاته هذه في الاسم بما فيها المسند سواء لعلماء سبقوه أو عاصروه، ومناقشة ذلك خارج هذا الموضوع.
أما مؤلفاته التاريخية، فيذكر النديم إنها كتاب التاريخ، وكتاب الفتن، وكتاب صفين، وكتاب الجمل، وكتاب الفتوح. ولم يذكر الخطيب البغدادي شيئًا منها.
وكانت موضوعاته من أغراض التأليف المهمة في التاريخ، وقد ألف فيها الكثير مثل أبي مخنف (ت ١٥٧هـ) ٥ والواقدي (ت ٢٠٧ هـ) ٦ ونصر بن مزاحم المنقري (ت ٢١٢ هـ) ٧ وعلي بن محمد المدائني (ت ٢٢٥ هـ) ٨ وعمر بن شبة (ت ٢٦٢ هـ) ٩.
_________
١ النديم: الفهرست ٢٨٥؛ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج١٠ ص٦٦.
٢ البداية النهاية: ج١٠ ص٣١٥. وزاد ابن كثير: "ولم يصنف أحد مثله قط لا قبله ولا بعده". ج١٠ ص٣٥٦.
٣ كشف الظنون ج٢ ص١٣١١.
٤ هدية العارفين ج١ ص٤٤٠.
٥ النديم ص١٠٥.
٦ المصدر السابق ص١١١.
٧ ياقوت: معجم الأدباء ج٧ ص٢١٠.
٨ النديم ص١١٤.
٩ المصدر السابق ص١٢٥.
1 / 566
أما من المحدثين فقد ضمن كل من الصنعاني والبخاري ومسلم مؤلفاتهم أبوابًا في التاريخ كالمغازي والسيرة النبوية ولكنها تقل عددًا عما ورد عند ابن أبي شيبه.
وقد اشتمل كتابه المصنف في الحديث على كتبه التاريخية السابقة١ أو هكذا وصلتنا والسؤال هل كان كل واحد منها كتابًا مستقلًا، ثم ضمت إلى المصنف وأصبح الرجوع إليها يتم من خلاله.
ولما كان عددها يبلغ خمسة كتب بعضها في حجم مجلد صغير وآخر متوسط فإنه يصعب قبول أن تكون أبوابًا في المصنف لاسيما وأن النص واضح من قبل أن ابن أبي شيبة نفسه على تسميتها بالكتب وأن بعضها يتألف من عدة أبواب.
وإذا كان كتابا الفتن والمغازي هي ما تشتمل عليه كتب الحديث في الغالب على غرار مصنف الصنعاني والصحيحين مثلا، فإن كتب صفين والجمل والتاريخ والفتوح هي مما لم يألفه التأليف الحديثي ومن ثم عدم اشتماله على هذه المؤلفات كتبًا أو أبوابًا.
كذلك جاء في ترتيب كتاب التاريخ عند ابن أبي شيبة قبل كتاب المغازي، وهذا خلاف التسلسل الزمني والسياق الموضوعي للأحداث ولا أخال إلا أنه مقتحم بين كتاب الجهاد وكتاب المغازي. واتصال الكتابين يتطلب تتابعهما بدون فصل على غرار ورودهما كذلك عند الصنعاني في مصنفه، ولكن قد يكون ذلك ومن خطأ أحد النساخ، لكنه يدعم أن كتاب التاريخ كان مستقلًا عن المصنف ثم وضع إليه في أحد العصور.
كما أن إشارة النديم بأن له كتابًا اسمه الفتوح، وهو ما تؤكده دلالة كثرة
١ جاء كتاب التاريخ في ج١٢ ص٥٤٧ وج١٣ ص٥، وجاء كتاب المغازي في ج١٤ ص٢٨٣، وجاء كتاب الفتن ج١٥ ص٥، وجاء كتاب الجمل في ج١٥ ص٢٤٨، أما كتاب صفين وسماه ما ذكر في صفين فجاء في ج١٥ ص٢٨٨.
1 / 567
التأليف فيه خلال القرن الثالث ولم يصلنا بابًا أو كتابًا مضمومًا إلى المصنف مما يدعم أن كتبه التاريخية كانت مستقلة على الأرجح.
ويظهر أن كتاب الفتوح ليس الكتاب التاريخي الوحيد المفقود للمؤلف وإنما له مرويات من كتب أخرى مفقودة، فقد أورد البلاذري روايتين منقولة عن ابن أبي شيبة تتعلقان بوفاة فاطمة وسعد بن أبي وقاص- ﵄-١ وسياقهما ما بين كتابين الفضائل والتاريخ له، إلا أنهما غير موجودتين في نسخة المصنف الحالية مما يشير إلى أن بعض رواياته التاريخية ضائعة.
ثم إن النديم عندما يذكر غير كتابي السنن والمسند لأحد المؤلفين اللذين شاع التأليف باسميهما كثيرًا خلال القرن الثالث فمعنى ذلك أن بقية كتبه التي يذكرها ليست من أبواب أحدهما وإنما هي كتب مستقلة. فقد أورد لعبد الله بن المبارك كتاب السنن وكتاب التفسير وكتاب التاريخ٢.
وذكر لإِسحاق بن راهويه (ت ٢٣٨ هـ) كتاب السنن وكتاب المسند وكتاب التفسير٣.
وذكر للإمام البخاري كتاب الصحيح وكتاب التاريخ الصغير والكبير.. الخ٤. ولعلي المديني (ت ٢٥٨ هـ) كتاب المسند وكتاب الضعفاء٥.
وهذا ما يرجح عند الباحث أنها كتب أخرى له صمت لكتابه الكَبير المصنف في عصر من العصور حتى غدت كأنها أبواب منه، وسواء كانت كذلك أم مؤلفات مستقلة عنه فإنه ولله الحمد وصلتنا محتوياتها.
_________
١ البلاذري: أنساب الأشراف ج١ ص٤٠٤-٤٠٥.
٢ النديم ص٢٨٤.
٣ المصدر السابق.
٤ نفسه.
٥ نفسه.
1 / 568
باب: منهجه في كتاب التاريخ
...
منهجه في كتابة التاريخ:
فرَّق ابن أبي شيبة ﵀ في كتابة التاريخ بين التاريخ بمعنى الأخبار والحوادث والأحوال، وبين التاريخ بمعنى التوقيت والتقويم، وأورد في كل منهما ما يناسبه، وقدم الأول وابتدأه بالحديث عن معركة اليمامة١ ثم ذكر بعده كثيرًا من أخبار المعارك الإسلامية التالية مثل القادسية وتستر واليرموك.
وقد فَصَل ابن أبي شيبة بين أحداث المغازي، وبين أحداث التاريخ وعقد الحديث في الأولى عن الغزوات الإسلامية في عهد الرسول ﵇، بينما أورد أحداث المعارك في العهود التالية في كتاب التاريخ.
وقد يعود ذلك إلى أن مفهوم الفصل بين التاريخ والمغازي ظل قائمًا حتى عصره.
ثم إنه لما كان مُحدثًا واتَّبع منهج أهل الحديث في كتابة التاريخ، فإن ترتيب موضوعات مصنفه اقتضى أن يقسم التاريخ إلى غزوات وأحداث عامة، وأن يجعل الغزوات تلي باب الجهاد مباشرة ثم يذكر بعدها حوادث تاريخ المسلمين ذات العلاقة كالمعارك والفتوح٢.
كما أن هناك تشابهًا كبيرًا في باب المغازي بين ابن أبي شيبة والإمام الصنعاني (ت ٢١١ هـ) من أصحاب المصنفات، فهما يتحدثان فيه عن سيرة الرسول المبكرة مثل زواجه ونزول الوحي عليه، ثم يتحدثون فيه عن أوائل من أسلم من الصحابة، وقد توسع في ذلك ابن أبي شيبة أكثر من الصنعاني٣.
وتبع هذا توسعه في المادة العلمية عن كل غزوة، بينما كان الإمام البخاري أكثر تحديدًا وقصرًا له على المغازي من الاثنين.
_________
١ ابن أبي شيبة ج١٢ ص٥٤٧.
٢ ابن أبي شيبة ج١٣ ص٥-٣٠.
٣ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٣١٠-٥٣٩.
1 / 569
وقد راعى ابن أبي شيبة التسلسل الموضوعي في ذكر الأحداث وأوضح أمثلته ما أورده منها في كتاب التاريخ، فقد شمل معركة اليمامة، وقدوم خالد بن الوليد الحيرة، ومعركة القادسية وجلولاء، ثم تحدث عن فتح بعض أقاليم فارس مثل الجبل ومعركة تستر، ثم أتبع ذلك بذكر مرويات معركة اليرموك وتوجه عمر- ﵁ إلى بيت المقدس١.
أما ما ورد عنده بشأن تأخير بيعة العقبة في كتاب المغازي بعد أخبار خلافة علي بن أبي طالب٢. فهو غير مألوف في منهجه زمنيًا أو موضوعيًا، ويظهر أنه من أخطاء أحد النساخ، وله نظائر عند الصنعاني، فقد جاءت غزوة الحديبية مقدمة في ذكر أخبارها مقدمة على غيرها من الغزوات بما فيها بدر٣. للسبب نفسه فيما يبدو.
والملاحظ أن ابن أبي شيبة قصر تاريخه على ذكر أخبار المعارك والفتوح الإسلامية وما يتعلق بها ولم يعن بذكر أخبار الحكام والبلدان والحواضر التي تمثل طورًا مهمًا من أطوار مفهوم التاريخ عند المسلمين ومراحل كتابته المبكرة.
أما كتبه التاريخية الأخرى مثل الجمل وصفين، فهي موضوعية تدور رواياتها حول موضوع كل كتاب، ويظهر أن المصنف لم يراع ترتيبًا معينًا لها سوى سياق الموضوع وتسلسل أحداثه في بعض الأحيان، أما كتابه الفتوح، فهو مفقود ولم نظفر بوصف له.
ومن مظاهر الثقة في منهج ابن أبي شيبة في تدوين مروياته ومنها ما يخص الحوادث التاريخية في كتبه وأبوابها عنده، إن كثيرًا من رواياته جاءت بنصها أو
_________
١ يبلغ مجموع صفحات كتاب التاريخ ١٢٢ صفحة، وتقع في جزء ١٢ من ص٥٤٧-٨٠٥، وفي جزء ١٣ من ص٥-٩٤، ويعمل الباحث على تحقيق نصوصه.
٢ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٥٩٧.
٣ الصنعاني: المصنف ج٥ ص٣٣٠.
1 / 570
بمعناها في الصحيحين بعد ذلك، وهذا يدل على مدى الثقة والتحري الذي راعاه المصنف حتى أخذ الشيخان ببعض ما ذكره على الرغم من دقة تحريهما وشروطهما الدقيقة في صحة ما يثبتانه في الصحيحين.
كما أن ابن أبي شيبة يذكر روايات مباشرة عن الأحداث التاريخية، ولذا ورد كثيرًا منها بلفظ (شهدت) و(رأيت) ١. ومرويات شهود العيان بعد نقدها من أهم مقومات الدراسة التاريخية.
وكثيرًا ما يذكر أن ما قام به هو من حفظه ومن ثم دَوَّنهُ في مصنفه حوله إحدى الغزوات وينص على ذلك بقوله (ما حفظت) في غزوة كذا ٢.
ولكن من الملاحظ كثرة الروايات القصيرة في الأحداث التاريخية عند ابن أبي شيبة مقارنة بابن إسحاق قبله ومعاصره ابن سعد. وقد يعود هذا إلى اعتماده على الحفظ الذي أشار إليه كثيرًا وهو مما لا يساعد في العادة إلى إيراد المطولات من الأحاديث والأخبار وتحتاج إلى الرجوع إلى المدون فيها، وعلى الرغم من ذلك لم تخل مدوناته التاريخية منها.
وقد اتبع ابن أبي شيبة أسلوب تكرار الرواية في الحدث التاريخي الواحد أحيانًا وفقًا لتعدد طرقه أو مصادره، فهو المنهج الذي سار عليه بعض المؤرخين، كابن إسحاق والطبري.
وهو أسلوب يتيح للقارئ المقارنة والنقد إلا أن أبي شيبة لم يكثر منه، وربما يعود ذلك أنه استبعد منذ البداية بعض الروايات التي لم تثبت عنده.
ودرج على ذكر الروايات المختلفة حول الموضوع الواحد وأمثلته كثيرة منها ذكره لاختلاف الروايات حول مدة بقاء الرسول ﵇ في مكة والمدينة ٣.
_________
١ ابن أبي شيبة ج١٣ ص٣٤-٣٥.
٢ المصدر السابق ج١٤ ص٤٢٤، ٤٢٧، ٥١٢.
٣ ابن أبي شيبة: المصنف ج١٤ ص٢٩١.
1 / 571
كما يأتي أحيانًا بالروايات المتعارضة في الموضوع الواحد بين الإجازة والتحريم مثل روايات الاستعانة بالمشركين من عدمها.١
ومن ملامح منهجه أنه يأتي بالرواية الواحدة في أكثر من موضع حسب مناسبته له فقد جاء بأحاديث في كتاب الأمراء، وجاء بها في كتاب الفتن، إلا أنه لم يكثر من ذلك على غرار ما وضح عند الإِمام٢مسلم عندما جاء بأحاديث غزوة تبوك في عشرة مواضع في صحيحه تبعًا لمناسبتها لها ٣.
كما يبدو أنه تأثر بطريقة عروة بن الزبير في الجمع بين أسانيد عدة روايات في سبيل تأليف حادثة متكاملة وهو المنهج الذي اتبعه أيضًا ابن شهاب الزهري وابن إسحاق في بعض الحوادث٤. ويظهر ذلك واضحًا في المقارنة بين مروياته وبعض مرويات عمر به شبة في مقتل عثمان ﵁.
أما الاقتصار على ذكر سند الرواية والتنويه بمشابهة سابقتها في المتن فكثير عنده٥.
وقد اتسم أسلوبه بالرصانة ونصاعة العبارة في سرد الحوادث التاريخية، فهو أحد العلماء بخلاف أصحاب المرويات التاريخية من الإخباريين وغيرهم.
وأخيرًا فإن تأليف ابن أبي شيبة في هذه الموضوعات كالجمل، قد يكون أحد أساليب النقد والرد على مؤلفات آخرين سبقوه، وبالذات المؤرخين الشيعة الذين غالوا وشوهوا حقائق تلك الأحداث من أمثال أبي مخنف صاحب
_________
١ المصدر السابق ج١٢ ص٣٩٤- ٣٩٥.
٢ المصدر السابق ج١١ ص١٣٩.
٣ سليمان العودة: السيرة النبوية في الصحيحين وعند ابن إسحاق ص١٠٨.
٤ محمد الأعظمي: مقدمة كتاب مغازي رسول الله ﷺ لعروة بن الزبير ص٦٨.
٥ ابن أبي شيبة: المصنف ج١٢ ص١٣٦.
1 / 572
كتب الجمل وصفين ومقتل الحسين١. ونصر بن مزاحم صاحب كتاب صفين.
إلا أن روايات الجميع في التاريخ ينبغي أن تخضع لمنهج الجرح والتعديل سندًا ومتنًا لتحديد ما يثبت منها وما يمكن التساهل في قبوله ورد ما عدا ذلك.
موارده:
لم يذكر ابن أبي شيبة في بداية مصنفه أسماء مصادره التي اعتمد عليه، لاسيما أنه لم يضمن مصنفه مقدمة يمكن أن يشير فيها إلى ذلك وابتدأ مباشرة بأحد الموضوعات الفقهية أو هكذا وصلنا مصنفه. ولكن من خلال تتبع رواياته التاريخية يمكن حصر عدد كبير من الرواة الذين نقل أو سمع منهم، فهو ينص عليهم في بداية كل رواية بقوله: حدثنا، أو قال فلان، ويذكر اسمه.
وعلى العموم فقد غلب على موارده الاعتماد على ثقاة الرواة وأهل الاختصاص في الوقت نفسه مثل ابن عباس٢ وابن شهاب الزهري٣ وعروة بن الزبير٤. فقد كانوا من حيث الثقة من رواة الصحيحين، وكانوا ذوي اهتمام وتأليف في أحداث السيرة بالذات، فإن ابن عباس روى الكثير منها وقد يكون له كتاب فيها٥، وعروة أبن الزبير هو أول من صنف كتابًا في المغازي٦، وابن شهاب الزهري معروف كتابه القيم في السيرة، وإذا عرفنا أن الزهريَ وعروة كانا
_________
١ النديم: الفهرست ص١٠٥.
وأبو مخنف لوط بن يحيى إخباري تالف وشيعي محترق، أما نصر ابن مزاحم المنقري فهو رافضي جلد متروك. انظر على الترتيب الذهبي: ميزان الاعتدال ج٤ ص٢٥٣؛ ج٣ ص٤١٧-٤١٨.
٢ ابن أبي شيبة: المصنف ج١٤ ص٣٧٦.
٣ المصدر السابق ج١٤ ص٣٩١، ٤٠٥، ٤٤٠، ٤٥٥، ٤٧٠.
٤ المصدر السابق ج١٤ ص٣١٢، ٣٧٧، ٤٠٤، ٤١٦، ٤١٧، ٤٢٤، ٤٢٨، ٤٢٩.
٥ محمد الأعظمي: مقدمة كتاب مغازي رسول الله ﷺ لعروة بن الزبير ص٢٣.
٦ ابن كثير: البداية والنهاية ج، ص١٠١.
1 / 573
من أكثر رواة الأحداث التاريخية عند البخاري، أدركنا القيمة الكبيرة لمرويات ابن أبي شيبة عنهما.
كما تلقى كثيرًا من الروايات عن عدد كبير من الثقاة في عصره وبعضها كان عن شيوخه. فقد أكثر من الأخذ عن حماد بن سلمة (ت ١٦٧هـ) أحد أئمة الحديث والثقاة الأعلام في عصره. وقد أخذ عنه في المغازي.١.
كما أخذ عن عبد الله بن إدريس (ت ١٩٧هـ) وهو أحد العلماء الذين رشحهم الرشيد للقضاء فلم يقبل، ووصفه الإمام أحمد بن حنبل بأنه نسيج وحده، تتلمذ عليه ابن أبي شيبة وكان جارًا له٢، فأكثر من الرواية عنه في أحداث المغازي والجمل وكتاب التاريخ.
وممن أخذ عنه يحيى بن آدم (ت ٢٠٢ هـ) وهو أحد الثقاة فقد وثقه يحي بن معين٣، ووصفه ابن حبان بالإتقان ٤.
وله كتاب في الخراج مشهور وقد حدث عنه ابن أبي شيبة في أخبار الجمل وصفين، ونقل عنه عدة مرويات فيهما لا توجد في كتابه الخراج وهي إما مأخوذة عنه بالسماع أو منقولة من أحد كتبه الأخرى التي لم تصل إلينا. كما أكثر من الرواية في التاريخ والمغازي عن أبي أسامة واسمه حماد بن أسامة٥ وعلي بن مسهر٦ وعفان بن مسلم الصفار٧ وكلهم ثقاة. وإذا كان ابن أبي شيبة أكثر عن هؤلاء فإنه أخذ عن كثير غيرهم.
_________
١ الذهبي: ميزان الاعتدال ج١ ص٥٩٠-٥٩٣.
٢ الخطيب البغدادي: تاريخ بغداد ج٩ ص٤١٧ –٤١٨- ٤٢٠.
٣ عثمان بن سعيد الدارمي تاريخه ص٢٢٧.
٤ ابن حجر: تهذيب التهذيب ج١١ ص٥١٧.
٥ عثمان به سعيد الدارمي: تاريخه ص٩٢، المقدمي: كتاب التاريخ ص١٣١.
٦ عثمان بن سعيد الدارمي: تاريخه ص٧٠.
٧ الذهبي: ميزان الاعتدال ج٣ ص٨١-٨٢.
1 / 574
وقد روى ابن أبي شيبة التاريخ عن عدد من المحدثين من أمثال حماد بن سلمة، وعبد الله بن إدريس، مما يعد أحد علامات الثقة في موارده التي اعتمد عليها، أما ترتيب مادتها وفق فروع التاريخ فهو من جهده ومن سمات منهج كتابة التاريخ عنده.
وبتتبع تواريخ وفيات من روى عنهم مثل عبد الله بن إدريس سنة ١٩٢ هـ وعفان الصغار سنة ٢٢٠ هـ نجد أنه استغرق وقتًا طويلًا في جميع مروياته ومنها التاريخية امتد أكثر من ثلاثين عامًا، وهو مؤشر واضح على أن ابن أبي شيبة ظل يتعهد مؤلفاته بالجمع والإضافة سواد عمره.
1 / 575
ويعد ابن أبي شيبة من أوائل أصحاب المصنفات الذين عنوا بالسيرة وتدوين مرويات أحداثها في مصنفه فيما يزيد على سبع وستين صفحة، ضمنها عدة روايات حول عمر النبي ﵇ حين بُعِثَ ونزل عليه الوحي، وكيفية بدايات نزول الوحي عليه، وشق صدره واستبشار خديجة وأبي بكر الصديق ﵄، وبشرى ورقة بن نوفل له بالنبوة، ووعده بالانضمام له عندما يؤمر بالقتال في سبيل نشر دعوته فيما بعد، ووصف الرسول ﵇ له بالقس١.
وكذلك ذكر ما لاقاه من أذى قريش له، وما جاء به من حديث الإِسراء والمعراج، وهو من المصادر المبكرة التي أوردت هذه الأحداث واعتمد عليها الكثير من أصحاب الدلائل والأسانيد والتاريخ. بيد أنه ينبغي معرفة قوة السند الذي تروىَ به تلك الأخبار عند نقدها وكذلك الخلاف في التفاصيل بينه وبين غيره كابن إسحاق مثالا في حادثة شق الصدر٢.
ثم عقد المصنف عنوانًا عن حديث الإسراء والمعراج بالرسول ﵇، ذكر فيه عشر روايات مطولة منها إخباره ﵇ عن وصف البراق ثم مجيئه بيت المقدس، ثم العروج به إلى السماء ورؤيته لعدد من الأنبياء مثل إبراهيم وموسى ﵉ ثم مشاهدته سدرة المنتهى وفرض الصلاة على أمته٣. ثم عد خبره على أهل مكة.
تاريخ الغزوات:
ذكر ابن أبي شيبة كثيرًا من أحداث المعارك والغزوات الإسلامية ابتداء من غزوة بدر الأولى ثم الكبرى حتى معركتي الجمل وصفين في خلافة علي بن أبي طالب.
_________
١ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٢٩٢-٢٩٤.
٢ ابن هشام: سيرة النبي ج١ ص١٣٦.
٣ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٣٠٢-٣٠٣.
1 / 576
وقد توسع ابن أبي شيبه في المادة العلمية عن كل غزوه، فقد كتب عن غزوة بدر ٣٦ صفحة، وكتب عن غزوة الخندق ٢٥ صفحة، وعن غزوة مؤتة تسع صفحات، في حين كتب الإمام الصنعاني قبله في مصنفه عن الغزوات كلها خمسين صفحة، وكتب الإمام البخاري في صحيحه عنها من بعده مثله أو أقل بيسير.
وفي غزوة بدر يبدأ الحديث عنها بالروايات حول تاريخ حدوثها، ثم ذكر بعض الآيات التي نزلت فيها وربطها بأحداثها كآية ﴿سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ﴾ ١ وآية ﴿وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ﴾ ٢ ثم ذكر رواية عن اتخاذ المسلمين لهم سيما وعلامات تميزهم أثناء القتال عن المشركين وكانت من الصوف الأبيض٣. وهي إشارة لطيفة وما زالت الجيوش في العصر الحديث تتخذ لها علامات للغرض نفسه.
ثم جاء بعدد من الروايات حول عيون الرسول ﵇ واستخباره عن قوة جيش قريش وعدده وأين نزل، والشورى بين المسلمين في القتال، واختياره ميدانه، وبناء مركز قيادة لهم٤. وما دار بين المشركين، من جدل حول الرجوع واختلافهم وتنابزهم بالألقاب، ثم بداية المعركة بالمبارزة، والتحام الفريقين وسقوط القتلى، وكان عددهم كبيرًا من المشركين ثم وضعهم بالقليب، ووقوع عدد منهم في الأسر، وما ناله المسلمون من نصر وأنفال بالإضافة إلى عدد من الروايات الأخرى حول مواقف عديدة حدثت في بداية المسير للمعركة أو أثناءها أو في طريق العودة منها- لا تخلو من دروس وعبر عظيمة.٥
_________
١ سورة القمر آية ٤٥.
٢ سورة الأنفال آية ١١.
٣ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٣٥٨.
٤ المصدر السابق ج١٤ ص٣٥٣ – ٣٨٧.
٥ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٣٥٣-٣٨١.
1 / 577
ثم أتبعها بالحديث عن غزوة أحد وبدأه بروايات بما يشبه التوطئة كمكر الرسول ﵇ بالمشركين، ثم ذكر بعض مواقف الصحابة أثناء القتال كحذيفة بن اليمان وسعد بن أبي وقاص، ودعم الرسول ﵇ ومساعدته له أثناء الرمي بالسهام حتى ذكر أنه فداه بأبيه وأمه حتى قال علي بن أبي طالب ما سمعته فدى أحدًا بأبويه إلا سعدًا. وكان سعد يذكر ذلك١.
كما ذكر عددًا من الروايات حول كيفية استشهاد حمزة بن عبد المطلب وغدر العبد الحبشي به. والموقف من كثرة القتلى والمعيار في تقديمهم داخل اللحود ٢.
وكذلك كيف قابل الرسول ﵇ انكشاف المسلمين يوم أحد وكيف كان ﵇ يعتذر منه لربه٣. وهي روايات تشبه إلى حد كبير ما أورده ابن سعد في غزوة أحد مع اختلاف سند ابن أبي شيبة عنه إلا فيما قل ٤.
ثم يورد المصنف رحمه الله تعالى عددًا آخر من الروايات حول مواقف مختلفة في تاريخ الغزوات منها ما يتعلق بالتخطيط الحربي، ومنها ما يتعلق بمقارعة العدو بالحجج والحقائق، مثل مقارعته بآلات الحرب فكل له تأثيره في الجانبين، وقد كان الرسول ﵇ يرد على هتافات المشركين، ويخبر عن مصائر قتلى الطرفين ونحو ذلك٥. فضلًا عن عدد من الروايات عن آلات الحرب وقتذاك.
وبعد ذلك تحدث عن غزوة الخندق وجاء بعدد من الروايات حولها دار
_________
١ المصدر السابق ج١٤ ص٣٨٩- ٣٩٠.
٢ المصدر السابق ج١٤ ص٣٩٢.
٣ المصدر السابق ج١٤ ص٣٩٥.
٤ ابن سعد: الطبقات الكبرى ج٢ ص٤٢- ٤٨.
٥ ابن أبي شيبة ج١٤ ص٤٠١-٤٠٣.
1 / 578
معظمها حول استشهاد الصحابي الجليل سعد بن معاذ ١. مما قد يضيف جديدًا لمن يدرس أحداثها أو سيرته بعناية.
ثم ذكر عددا كبيرًا من الغزوات مثل غزوة الخندق وبني قريظة والفتح وحنين وذي قرد وتبوك ومؤتة في تفصيل مناسب من الروايات المتعددة عن كل غزوة إلا أن بعضها مثل الفتح وحنين وتبوك كانت رواياتها أكثر.
وفي الغالب لا تختلف مروياتها عما ذكر من قبل وربما ندرك من خلالها أن المصنف يميل إلى الوضوح في ذكر الأحداث، والبعد عن التداخل ففي غزوة مؤتة مثلًا بدأت روايتها عنده بتحديد ترتيب قوادها الثلاثة ثم ذكر ما حدث فيها، ثم إعلان نتيجتها، ووصف مواساة الرسول ﵇ لأهل الشهداء وذكرهم بالخير والدعاء لهم، وبروايات مختلفة سندًا ومتنًا عما أورد ابن سعد عنها ٢.
ولم يذكر شيئًا عن غزوة يهود بني النضير بالمدينة على الرغم من أن الإمام الصنعاني قبله توسع في أخبارها٣ فذكر أصلهم، وموطن سكنهم، والمفاوضة معهم، والعلاقة بينهم وبين مشركي قريش، وتحريض الأخيرين لهم ثم إجلاءهم إلى بلاد الشام، وكذلك ذكرها الإِمام البخاري فيما بعد٤.
وقد يعود ذلك إلى أن المصنف لم يحفظ فيها شيئًا فهو في الغالب يعتمد على حفظ ذاكرته في الأحداث وقد نص على ذلك كثيرًا، أو يعود إلى ضياع أو خرم في النسخة التي وصلتنا ويستبعد أن يعود ذلك إلى أنه لم يثبت فيها شيء عنده بعد ما ثبت عند غيره من قبل ومن بعد كما أشير إليه آنفًا.
_________
١ المصدر السابق ج١٤ ص٤٠٨- ٤١٦.
٢ ابن سعد: الطبقات الكبرى ج٢ ص١٢٨-١٣٠.
٣ الصنعاني ج٥ ص٣٥٧ - ٣٦٠.
٤ صحيح البخاري ج٥ ص٢٢.
1 / 579