بات أخيليوس، لم يغمض له جفن، كأنما يرقد على فراش من الشوك. نبا به المضجع، وأرقه الحزن على صديقه باتروكلوس، ونغصه التفكير في أحكم الطرق وأبشعها للانتقام له.
وما إن أشرق الصباح حتى كانت ثيتيس واقفة إلى جوار ابنها أخيليوس تهدي إليه الحلة الحربية التي وعدته بها. وكانت حلة لامعة براقة، تتوهج تحت أشعة الشمس كأنها نار محرقة، وتتلألأ كأنها قرص من الذهب. لقد فاقت حلته السابقة بريقا ولمعانا، حتى إن المورميدونيين أنفسهم روعوا لمرآها، وذهلوا لمشاهدتها.
وارتدى أخيليوس حلته الحربية الجديدة، ومضى إلى معسكر الإغريق، وعلى وجهه أمارات الجد الصارم. فما يجدر بأخيليوس أن يتوانى عن الثأر لأعز أصدقائه، أو يتراخى في الانتقام له.
تناهى إلى الإغريق صوت أخيليوس يدعوهم إلى لقائه، فهبوا مسرعين يجيبونه، حتى القادة الجرحى منهم جاءوه: أغاممنون ومينيلاوس وأوديسيوس وديدموديس. وما إن اكتمل جمعهم حتى قال أخيليوس: «أي أغاممنون، ليس من الحكمة أن نتعارك فيما بيننا، وندع الطرواديين يفتكون بقومنا. دعنا ننس الماضي بكل ما كان فيه، ونقبل على المعركة القادمة بقلوب صافية. لقد نسيت كل ما حدث، وها أنا ذا أمد يدي إليك، وأعيد جسور المودة بيني وبينك قوية ثابتة كما كانت. هيا بنا نعد الإغريق للحرب.»
ورحب الإغريق ترحيبا حارا بعودة أخيليوس إليهم، وبدا التأثر واضحا على وجه أغاممنون، الذي قال: «أي أخيليوس العظيم، لقد جانبني الصواب حين وجهت إليك الإهانة، وكم ندمت على ما بدر مني في حقك. والآن كم أنا مسرور باستعادة صداقتي بك! وسأفاجئك بهدايا كثيرة ثمينة؛ تتويجا لعودة الصفاء والوئام، وستكون من بينها بريسايس الجميلة؛ كي تضيء أرجاء خيمتك، وبعد ذلك نتجهز للمعركة.»
وأشرقت أسارير أخيليوس العظيم، وقال لأغاممنون: «لقد توطدت الصداقة بيننا، وأشكر لك هداياك. هيا بنا نجهز الرجال للمعركة، وعلى كل منكم أن يحذو حذوي، ويصنع مثل صنيعي.»
بادر أخيليوس العظيم إلى ملاقاة الطرواديين، فما بقي إله في جبل أوليمبوس إلا وقد هبط إلى الأرض، واشترك في المعمعة، كما تقول الأناشيد القديمة.
وقاتل أخيليوس أروع قتال، ولم تصل يده إلى طروادي إلا أجهز عليه، ودفع بروحه إلى غياهب العالم السفلي الرهيب. ولم تكن جميع أسلحة الأعداء ذات غناء في صده عن الفتك بهم، فلم يجدوا سبيلا أمامهم غير تولية الأدبار، والفرار إلى شاطئ النهر، وأخيليوس يتعقبهم: فمنهم من بلغه فقتله، ومنهم من ألقى بنفسه في مياه النهر تحمله كما تشاء، ومنهم قليل كتبت له النجاة.
وكان برياموس الملك العجوز يشهد سير المعركة من فوق قمة قلعة عالية، فلما رأى اندحار الطرواديين أمام أخيليوس العظيم، وفرارهم إلى شاطئ النهر، أمر الحراس أن يفتحوا أبواب المدينة أمام هذه الفلول الهاربة؛ لتحتمي بحصونها، علها يوما تستعيد قوتها، وتحقق لوطنها ما أعجزها اليوم تحقيقه.
وولى كثير من هذه الفلول الهاربة وجهه شطر أبواب المدينة، يحاولون النجاة من لظى الحرب. وكانت حلوقهم ظامئة، وأجسادهم منهكة، قد خضبت بالدماء، ولطخت بالوحل. وأخيليوس العظيم على رأس الجيش الإغريقي يطارد هذه الفلول، ويعمل فيها قتلا وتجريحا.
صفحة غير معروفة