في ذلك الحين كان أخيليوس يجلس فوق ظهر سفينته، يرقب سير المعركة، ويجد في نفسه لذة ومتعة، وهو يرى قادة الإغريق يعودون إلى المعسكر منكسرين، في حلوقهم مرارة الهزيمة، وفي جسومهم آثار الجراح. وخرجت الكلمات من فمه إلى صديقه باتروكلوس تعلن عما يختلج بين جوانحه من فرحة وغبطة.
قال: «بعد قليل سوف يأتي الإغريق إلي، وتنحني أعناقهم بين يدي، يطلبون مني النجدة والغوث؛ فهم الآن أحوج ما يكونون إلي! اذهب يا باتروكلوس سريعا إلى خيمة نسطور، وتبين أمر ذلك الرجل الذي كان يحمله في عربته. لقد خيل إلي أنه الطيب ماخاوون. لقد مرقت العربة سريعا في جواري، فلم أتبين وجهه في وضوح.»
عدا باتروكلوس إلى خيمة نسطور، فوجده عاكفا على تضميد جراح ماخاوون.
ولما بصر به نسطور، قال له: «ماذا يضير أخيليوس، وهو هادئ ساكن في سفينته، لو أن جميع جنود الإغريق قد جرحوا أو قتلوا؟ هل يدري أن ديوميديس وأوديسيوس، بل أغاممنون نفسه، يعانون من آلام الجراح التي أصابتهم، ويلعقون مرارة الهزيمة التي مني بها جيشنا؟ ليتني كنت فيها شابا قويا فأمحو ما لحقنا من عار الهزيمة، وأرد للإغريق كرامتهم وعزتهم. اذهب يا باتروكلوس إلى أخيليوس العظيم، وارجه أن يعيرك حلته الحربية إن أبى النزول إلى ساحة المعركة بنفسه، فلعل الطرواديين تخدعهم الحلة، ويظنونك أخيليوس، فيفعل الخوف فعله في قلوبهم. وربما استطعت أنت والمورميدونيون - وقد سلمتم من أذى المعركة اليوم، وما زلتم في فورة نشاطكم - أن تكسروا شوكتهم، وتحققوا للإغريق ما فقدوه في معركة اليوم من عزتهم وكرامتهم.»
عندئذ عاد باتروكلوس مسرعا إلى أخيليوس، في حين راح نسطور يعمل على نزع السهم من كتف ماخاوون، وينظف الجرح، ويضمده تضميد خبير حكيم في سرعة وإتقان.
وتوسل باتروكلوس إلى أخيليوس أن يمضي إلى ساحة القتال؛ ليسعف الإغريق، ويرفع عنهم ما أصابهم من الذل والعار. ولكن أخيليوس رفض توسلاته، فما زالت تؤذي نفسه إهانة أغاممنون له، وما زال جرحه منها ينزف.
فألح عليه صديقه باتروكلوس أن يعيره حلته الحربية - ما دام مصرا على عدم خوض المعركة بنفسه - عل هذه الحلة ترهب الطرواديين، وتقوم مقام صاحبها في ترويعهم .
أخيرا، وعلى مضض، وفي ضيق شديد، قبل أخيليوس ذلك، كما أذن للمورميدونيين أن يهبوا لنجدة الإغريق.
وسارع باتروكلوس إلى ارتداء حلة أخيليوس الحربية، ذات الصيت الذائع، والوهج الذي يكاد يخطف الأبصار، ونشط في بث الحماس في نفوس المورميدونيين وتعبئتهم للقتال، ثم قادهم إلى حومة الوغى غير هياب ولا وجل. فقد فعلت حلة أخيليوس في نفسه فعلها، وزادته قوة على قوته، فراح يحتز رءوس الطرواديين التي أثقلها الرعب، فتساقطت - تحت ضرباته - كما تتساقط أوراق الخريف اليابسة. لقد اجتاح باتروكلوس الجيش الطروادي كما تجتاح الرياح الناعمة لجج الضباب المتكاثفة حول ذؤابة جبل، وأزاحهم بعيدا عن المعسكر الإغريقي، على الرغم من استماتة الكثيرين منهم في القتال. لقد قتل باتروكلوس ومينيلاوس قائدا طرواديا كبيرا، كما قتل أبناء نسطور صديقين لساربيدون ملك لوكيا وابن زيوس.
وبينما كان باتروكلوس يقود جياد أخيليوس الخالدة، التقى بساربيدون وجها لوجه، فاندفع البطلان في صراع محموم، وراح كل منهما يكيل لغريمه الطعنات والضربات في عنف وقسوة، كأنهما صقران جارحان. ولم تستغرق هذه المعركة الضارية غير لحظات قصار، خر إثرها ساربيدون صريعا، فقد انتزع باتروكلوس روحه بطرف رمحه. وذهبت نفس زيوس حسرات على ابنه الحبيب، وأطل على ميدان الوغى، ونفسه تقطر ألما وحسرة، وصدره يمتلئ عزما وتصميما على معاقبة باتروكلوس على فعلته عقابا أليما.
صفحة غير معروفة