ولمن شاء أن يسأل: وعن أي شيء يبحث الباحث عن مدى ما اتسعت به «الحرية» أو ضاقت عند شعب معين، أو في حياة فرد بذاته؟ إنه سؤال وارد ولا غرابة فيه؛ لأن كثرتنا الكاثرة قد وقفت في إدراكها لمعنى «الحرية» عند المعنى السلبي، إذ الحرية في أذهان أولئك جميعا تحطيم لقيد أو قيود تحول دون أن يتحرك المقيد بها كيفما شاء وأينما شاء، والتحرر السياسي من المستعمر، أو من المحتل الأجنبي، أو من سيادة السيد، أيا كان نوع سيادته، كلها معان وتصورات تندرج تحت الجانب السلبي للحرية؛ لأنها جميعا «تحرر» من قيد، حتى إذا ما تحرر المقيد لا تكون «حريته» بالمعنى الإيجابي لهذه الكلمة قد بدأت بعد، فمن تفك عن قيوده يقال له: لك الآن أن «تفعل» ما شئت، وفي «الفعل» الذي يختار ليؤديه تكون الحرية بمعناها الإيجابي، لكن «الأفعال» التي يجريها فاعلها لتؤدي ما أريد لها أن تؤديه، تستبق بطبيعتها شرطا لا يتحقق لها وجود بدونه، وهو أن يكون الفاعل على «علم» بحقائق الميدان الذي سيجري أفعاله في نطاقه، وبغير هذا «العلم» المسبق يبطل أن تكون الأفعال أفعالا بالمعنى المعقول لهذه الكلمة؛ لأنها ستجيء حتما «خطبا كخبط الثور في مستودع الخزف» كما يقال، أعط للزراع آلة مستحدثة لري الأرض، أو لحرثها، دون أن يكون ذلك الزارع على علم بطريقة استخدامها، تصبح تلك الآلة المجهولة قيدا على حياته جاء ليحل محل قيد قديم تحطم، لكن أعط الآلة نفسها لزارع يعرف كيف يديرها وكيف يصلحها إذا عطبت تزدد بها حريته في زراعة أرضه، فأعظم المعاني التي تفهم بها «الحرية» الإيجابية الفاعلة البناء هو ذلك المعنى الذي يتحقق لها عن طريق العلم بطبيعة الميدان الذي سيمارس الإنسان الحر حريته فيه، فالحرية بمعناها الأسمى هي حرية الذين «يعلمون»، وصدق الله العظيم حين قال:
هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون ، كلا إنهم لا يستوون؛ لأن الذين يعلمون أحرار في نطاق ما يعلمونه، والذين لا يعلمون يفتقرون إلى الحرية حتى ولو لم تغل أجسادهم أغلال، وماذا نعني بحرية «الفكر» حين نطالب بها أو نتحدث عنها؟ إننا - بالطبع - لا نعني أن يكون للمفكر الحق في أن يدير فكرة في رأسه؛ لأن ذلك الحق مكفول لمن أراده، لا يستطيع أعتى الجبابرة أن يسلبه ذلك الحق، وكيف يسلبه شيئا يدار داخل جدران الجمجمة، لا يسمعه سمع ولا يبصره بصر، لكن الموقف يتغير من أساسه إذا ما عبرت الفكرة من مكمنها إلى علانية تنشرها بين خلق الله فيقرؤها من يقرأ ويسمعها منطوقة من يسمع ثم يزداد الموقف تغيرا، إذ لم يقنع صاحب الفكرة بنشرها مكتوبة أو مذاعة بالصوت، بل هم بترجمتها إلى «فعل» يجسدها، فهذه - إذن - ثلاث خطوات في حياة الفكرة المعينة هي بمثابة ثلاث درجات نحو «الحرية» بمعناها الإيجابي الفعال: خطوة أولى تكون الفكرة فيها بكماء حبيسة الدماغ في جسم صاحبها، وخطوة ثانية تلتمس الفكرة فيها طريقها إلى العلانية، وخطوة ثالثة تتمثل بها في فعل يحقق وجودها، والمستبدون من الحكام لا يعنيهم أن تنحبس في رءوس المفكرين ما ينحبس من أفكار، وقد يكون منهم من يتسامح في الخطوة الثانية التي تخرج الفكرة من السر إلى الجهر، ما دامت تقف إلى فعل، وأما الخطوة الثالثة التي تحول بها الأفكار من «كلام» إلى «فعل» فهي حقا محك «الحرية» الفكرية إذا اكتمل وجودها.
بهذا المقياس يمكنك أن ترى كم نمت «الحرية» وكم اتسعت آفاقها، وعلت درجاتها بفضل «العلم» الطبيعي في صورته العصرية، التي هي صورة تملؤها التقنيات من حيث هي أجهزة تستخدم في عمليات البحث العلمي، فتبلغ بها من عمق النفاذ ودقة الأرقام ما لم يكن يطوف بخيال السابقين، فكل ما عرفه العلم الطبيعي قبل عصرنا من أجهزة للبحث، تجري بها التجارب وتقاس بها المقادير والأبعاد، لا تزيد إلا قليلا عن لعب الأطفال إذا ما قيست مما هو بين أيدينا اليوم.
ثم لم يقتصر أمر التقنيات على أن تكون وسائل للبحث العلمي، بل جاوزت ذلك الحد لتخرج إلى حياة الناس العملية، تراها الآن في كل كوخ انعزل بصاحبه عن العمران، لكن جهاز الراديو الصغير في يده كفيل وحده بأن يصل الروابط بينه وبين أقطار الكوكب الأرضي جميعا.
وما معنى ذلك فيما يتصل ب «الحرية» التي نتحدث عنها في معناها العظيم؟ معناه أن قد تحول كثير جدا من أهوال الطبيعة التي كانت تخيف الإنسان وترعبه، لتصبح أطوع من مارد القمقم في أساطير الأولين، يخرجه فعل السحر ليؤمر فيطيع، لكنها هي حرية الذين يعلمون دون غيرهم ممن لا يعلمون، اللهم إلا ما يتصدق به أولئك على هؤلاء بما عملوا وما صنعوا، وواضح أنها حرية تتسع أو تضيق ما اتسعت دائرة العلم أو ضاقت، فهل نخطئ إذا قلنا إن الشعوب التي عرفت كيف تحطم قيود المستعمر تحطيما أكسبها التحرر من نير المستبد في عالم السياسة، لكنها مفقودة الحرية أمام مستعمريها السابقين؛ لأنها تركت جمهور الكشف العلمي ينفرد بها سادتهم السابقون، فظلوا سادة بعلومهم وما ينتج عنها من أدوات «الحرية» التي يقهر بها الإنسان ظلمات الكون وأسراره فتضيء نورا وتجهر بعلانية، ويبقى تابع الأمس تابع اليوم، مقيدا بجهالته وحموله، لم ينفعه إلا بالقيل أن أزيلت عن جوارحه أطواق الحديد.
لقد ذكرنا لك فيما ذكرناه، أنه إذا كان أسلافنا أيام مجدهم، قد اختاروا لأنفسهم موقفا فكريا يلتمسون به موقعا يجمع لهم قلبا إلى رأس، أو وجدانا إلى عقل، وأنهم بعد أن نقلوا إلى العربية «حكمة» اليونان، أي فلسفتهم، جعلوا همهم أن يجدوا الصيغة التي تؤاخي بينهما شريعة الدين وحكمة اليونان، فكأنما وضعوا لنا برنامج العمل في يومنا هذا وكل ما في الأمر من تغير، هو أن نضع «العلم» - الذي هو طابع عصرنا - مكان «الحكمة» أو الفلسفة التي كانت طابع اليونان الذين يمثلون «الغرب» عندئذ، فيصبح شعارنا هو أن نبحث عن طريقة يلتحم بها «علم» العصر مع شريعة ديننا، فيكون لنا من الحياة الثقافية ما نريد.
لكننا أضفنا إلى ذلك أن هذه الصيغة المرجوة لا تتحقق لنا، إلا إذا كنا على تصور واضح بطرفين؛ فنلم بحقيقة هذا العصر في جوهره لنعرف ما الذي يراد له أن يلتئم مع الطرف الثاني الذي هو حياتنا نحن كما تريدها لنا عقيدتنا الدينية، ومعها ما قد استقر في الوجدان العربي من قيم، فأما عصرنا فجوهره علم يزيد من حرية الإنسان، وأما موروثنا المأثور في نظرته إلى ذلك العلم وهذه الحرية المترتبة عليه فقد قدمنا عنه من الحديث ما يكفي.
رؤية موحدة «2»
شهدت أعوام الستينيات في حياتنا ما شهدته من أحداث جسام يهتز لها رواسخ الجبال، فكيف بها على شعب في حالة انتقال من نظم اجتماعية بليت إلى نظم أخرى تعلق بها الرجاء في أن ترد للمواطن العادي قيمته وكرامته، بعد أن كانت قيمة الإنسان وكرامته مشروطين بأن يكون ذلك الإنسان من الفئة المحظوظة، ولكن تلك الأحداث بكل جسامتها، بادئة من موجة تأميم اقتصادي غمرت معظم مراكز العمل، حتى أوشكت صورة الحياة دولة وعمالها، لم تترك للفرد المستقل فرصة وجود إلا في حيز ضئيل، إلى حرب سنة 1967م مع إسرائيل وما انتهت إليه من كارثة الهزيمة، وما تبعها من آثار هي أبعد مدى من أن يختزلها قلم في جملة عابرة، وبين رجة التأميم في أعوام الستينيات، ورجة الهزيمة في أواخرها، كانت الحياة الثقافية قد مالت بمعظم ثقلها نحو «السياسة» بالمعنى المباشر لهذه الكلمة وبالمعنى غير المباشر معا، بحيث أخذت الأصوات وأصداؤها تدوي بعبارات وكلمات تحمل إلى أذن السامعين روح المذهبية السياسية قبل أن تصل معانيها إلى العقول لتتدبر في رؤية وتحكم، فامتلأ جو سمائنا ب «اليمين واليسار» و«الصراع الطبقي» و«الكادح المطحون» و«سيادة اليد العاملة» وما إلى ذلك، فأحس صاحبنا إزاء هذا كله بكثير من القلق؛ لأنه رأى في مجمل الموقف - من الزاوية الثقافية - تبعية الثقافة للسياسة، وكان الصواب عنده دائما هو أن تكون الريادة للثقافة، ثم تجيء السياسة وغير السياسة فروعا لها، والفرق بين الحالتين قد لا يظهر لكثيرين، لكنه فرق يستحق وقفة متأنية ليتبين وجه الحق.
كان صاحبنا، وما زال وسيبقى على رأي يراه ولا يتصور سواه، وهو أن الحياة السوية للشعب، وللفرد الواحد على حد سواء، تقتضي أسبقية «الفكرة» على تنفيذها، وإنه لضرب من الاحتجاج على «العقل»، ومن التنكر للفطرة السليمة أن يروج المروجون لعكس هذا الترتيب المنطقي لخطوات السير، فالفكرة من الأفكار لا تكون شيئا على الإطلاق إن لم تكن في حقيقتها خطة عمل، وتظل تلك الخطة «نظرية» ما دامت في ذهن حاملها ثم تتحول لتصبح «عملية» عند تطبيقها، وإذا كان ذلك كذلك، لم يعد أمامنا موضع للشك، في أننا إذ ما وسعنا نطاق الحديث فجعلنا الفكرة الواحدة مجموعة أفكار متشابكة الأطراف في شجرة واحدة، ثم أضفنا إلى شجرة الفكر ما قد يتصل به من مبدعات الفن والأدب، بل أضفنا كذلك إلى هذا وذاك حياة العلم، والتعليم والإعلام لنجعل من كل هذه الجوانب حياة واحدة هي التي أشرنا إليها باسم «الحقيقة الثقافية»، لم يكن لنا بد من القول بأن الترتيب الطبيعي للأمور، هو أن يتشرب الشعب روح تلك الحياة فيتولد له من ذلك «رؤية» «معينة»، على أساسها ينشط الأفراد بما ينشطون به، وعلى أساسها كذلك تبنى أحكامهم بالصواب وبالخطأ على أقوال الناس وأفعالهم، وما «السياسة» وأصحابها وما يختلفون عليه من مذاهبها إلا جزء مما تنتجه الحياة الثقافية على نحو ما انطبعت به قلوب المواطنين وعقولهم، بل إن الاختلاف حول المذاهب السياسية ذاته لا يكون عندئذ إلا اختلافا على «الوسائل» المؤدية إلى تحقيق «الرؤية» الثقافية كما يحياها المواطنون.
صفحة غير معروفة