لم يكن صاحبنا في مقره ذاك الذي لاذ به من ضيق نفسه، قارئا سلبيا يتلقى ولا يضيف، بل أخذ يقارن ويختار، فكانت درة الدرر عنده هي فكرة «فرنسيس بيكون» في «أطلنطس الجديدة»، ولنلحظ هنا أنه اختار هذا الاسم، ليضمنه إشارة إلى جزيرة خيالية كان أشار إليها أفلاطون في بعض ما كتب، وأسماها «أطلنطس» فجاء «بيكون» ليبدع بخياله «أطلنطس الجديدة»، والحق أن صاحبنا إذ تأثر بما رواه «بيكون» عن أحلام عقله، لم يكن تأثره مما يزول عنه بعد يوم أو بعد عام أو عشرة أعوام، بل هو تأثر باق معه إلى يومنا هذا؛ إذ يرى في الصورة المرسومة ما يتساءل إزاءه قائلا: لماذا لا يتحقق للإنسان هذا الحلم؟ وما الذي يتميز به حلم «أطلنطس الجديدة» دون سائر الأحلام؟ إن أهل هذه الجزيرة قد استبدلوا بالدولة السياسية دولة علمية، فبدل أن تتولى الحكم وزارة من رجال السياسة، تتولى الحكم في أطلنطس الجديدة وزارة من العلماء المتخصصين في فروعهم، وبدل أن يقال وزارة الخارجية ووزارة الداخلية ووزارة الزراعة ... إلخ، يقال: وزارة الفيزياء ووزارة الكيمياء ووزارة الجيولوجيا ... إلخ، والمكاتب في هذه الدولة العلمية هي «معامل» البحوث العلمية، والقرارات التي تصدرها الحكومة هي القوانين العلمية في شتى فروع العلم التي يكشف عنها في المعامل وهكذا، ورئيس الدولة هو كبير العلماء.
إنه لو وفق الإنسان في تحقيق هذا الحلم العظيم لانتفت الحروب، وانمحت الصغائر التي تشغل حتى أعلام الرواد، وأما الحروب فتنفى لأن الإنسان في أطلنطس الجديدة لا يحارب الإنسان ليقهره، وإنما يحارب الطبيعة لينتزع منها أسرارها فيسودها، وأما الصغائر التي تشغل الناس، حتى كبار العظماء منهم، فتنمحي لأن المفاضلة بين إنسان وإنسان لن تكون على أساس السلطة وجبروتها، بل على أساس القدرة العلمية في الكشف عن الجديد.
على أنه لم يكن لصاحبنا بد من صحوة يعود بها من فراره في مدينة الأحلام، ليواجه واقعه الصلب العنيد، محاولا أن يستبدل به واقعا جديدا.
سنوات التحول «1»
جاءت سنوات الأربعينيات لتكون مرحلة للتحول العظيم، وهو تحول شمل العالم كله وما زال إلى هذه الساعة يشمله، متجها نحو أن يقتلع نمطا من الحياة كانت له السيادة في ظل حضارة بلغت ذروتها في أوروبا القرن التاسع عشر، مع بضع سنوات من هذا القرن العشرين، يريد اقتلاعها من جذورها، ليقيم مكانها حضارة أخرى ينتج عنها نمط آخر لحياة الإنسان فردا ومجتمعا، ولقد شاء الله لصاحبنا أن تكون تلك السنوات نفسها مرحلة تتحول بها حياته الفكرية، على نحو يوثق الروابط بينه وبين تيارات عصره، قابلا مرة، رافضا مرة، باحثا عن صيغة جديدة تصلح له مرة ثالثة.
فقد كان سنوات الأربعينيات من هذا القرن، هي التي شهدت الحرب العالمية الثانية (1939-1945) وقيام هيئة الأمم المتحدة بأجهزتها المختلفة، وفي تلك السنوات أنشئت الجامعة العربية، وزرعت إسرائيل على أرض عربية، وصدرت وثيقة حقوق الإنسان ، وبدأ الاستعمار الأوروبي رحيله عن الأقطار المستعمرة في آسيا وأفريقيا، وأما ما تحولت به الحياة عند صاحبنا، فأهمه السفر في بعثة دراسية إلى إنجلترا، وكان ذلك في قلب الحرب العالمية، فأتيح له أن يرى الغرب من قريب، وأن يرى وطنه من بعيد، فأطلعته الرؤية القريبة على سيئات الغرب وحسناته، كما أظهرت له الرؤية البعيدة أين تكمن القوة في أمته وأين يكمن الضعف والقصور.
لم تكن الحرب العالمية الثانية حربا كل ما فيه حديد ونار وتقتيل وتخريب ودمار، بل كانت تحمل وراء ذلك كله رسالة حضارية تريد لوجه العالم أن يتغير لتتغير معه صورة الحياة، فلقد كانت أوروبا إبان القرن الماضي تحمل في جوفها نقيضين، وكان محالا على طابع الأمور أن يظل النقيضان متجاورين في سلام، أو لا بد لأحدهما أن يهدم الآخر ويمحوه: فبينما سارت صور الحياة الاجتماعية على سكون وجمود لا يسمح لأحد بأن يغير من الأوضاع المألوفة شيئا، كان هنالك تحت سطح البحر الهادئ تيار فكري جار يعمل على التغيير، فإذا كان الناس قد استقرت لهم الحياة في ظاهرها على رؤية سكونية تجعل «الثبات» أساسا، فلا يسأل سائل عن شيء ثبت على صورة معينة قائلا: ما الذي أدى إلى ثباته؛ فقد ظهر لهم من بينهم مفكرون يقلبون الوضع رأسا على عقب، بحيث يجعلون لهم «الحركة» أصلا، والسكون فرعا، فلا يكون السؤال هو: ما الذي حرك ذلك الموقف الثابت ليعرضه إلى التغير، بل السؤال هو: ما الذي جمد ذلك الموقف المعين، بعد أن كان الأصل في وجوده أن يتحرك ويتغير، ولقد امتدت الدعوة إلى هذا الانقلاب الفكري خلال القرن الماضي كله، بادئة بفكرة هيجل عن جدلية الأفكار، بمعنى أن تصورنا لفكرة ما يستوجب بالضرورة تصورنا لنقيضها، فإذا ما أخذ العقل ينتقل بانتباهه من أحد النقيضين إلى النقيض الآخر، وجد نفسه أمام طرف ثالث تولد عنهما، وأخذ أشد الأفكار تجريدا وتعميما، وهي فكرة «الوجود» المطلق الذي لا يتعين بأي مضمون معين يقيده، تجد أن فكرة الوجود - أو العدم - قد نشأت من تلقاء نفسها، متولدة من فكرة «الوجود » ذاتها، فإذا أخذت تنقل فكرك بين هذين التصورين: الوجود من ناحية، واللاوجود من ناحية أخرى، تولد لك تصور ثالث، يجمع في آن واحد بين الوجود واللاوجود، وهو ما يسمونه ب «الصيرورة»، وهي حالة تتحقق بالفعل في كل كائن من كائنات العالم المخلوق، فانظر إلى النهر - مثلا - تجده موجودا معدوما في آن واحد، فهو هو النهر المعين، تراه اليوم كما رأيته بالأمس، وكما سوف تراه في الغد، لكن هل مياه اليوم هي مياه الأمس أو مياه الغد؟ ثم انظر إلى نفسك، فأنت اليوم هو الذي كنت بالأمس والذي سوف تكونه غدا (لو أراد لك الله أن تحيا إلى غد) لكن هل تبقى تفصيلات أفكارك وأعضائك ومشاعرك هي هي اليوم كما كانت بالأمس أو ما سوف تكون عليه في الغد؟ وهكذا وهكذا تستطيع أن تدقق النظر فيما شئت من كائنات، لتجد في كل كائن ما يخلع عليه هوية تدوم ولو إلى حين، كما تجده - في الوقت نفسه - متغير التفصيلات على نحو لا يمكنه من الثبات على حالة واحدة لحظتين متتاليتين، وبهذا المعنى نقول إنه في حالة من الصيرورة المستمرة، أي إنه في كل لحظة موجود ومعدوم معا.
وإنه لمما يضيء لنا هذه الفكرة الجدلية، أن نقف عندها قليلا لنقارنها بما قد كان قبلها، لنفهم التغيير الذي طرأ على الإنسان في رؤيته للعالم وكائناته منذ القرن الماضي، فانتقل بسببه من عصر فكري استنفد دوره في التاريخ، إلى عصر فكري جديد بدأت طلائعه ليكتمل له كيانه بعد حين، وقد يفيدنا في وضوح التصور لما نحن بصدد عرضه من تغير في المناخ الفكري، أن نقارن بين تعريفنا لأية حقيقة رياضية - كالمثلث مثلا - من جهة، وأية حقيقة بيولوجية - كالشجرة - ففي الحالة الأولى، نقول عن المثلث إنه سطح مستو محيط به ثلاثة خطوط مستقيمة، وهو تعريف مقطوع بصوابه (في حالة استواء السطح) لا يتغير منه شيء بتغير المكان أو بتغير الزمان، فهو هكذا على سطح الأرض، وعلى سطح القمر أو المريخ، ثم هو هكذا في عصرنا، وفي كل عصر مضى، وفي كل ما سيأتي من زمان، لكن قارن ذلك بتعريفنا للشجرة، تلمس أوجه الاختلاف من فورك، فبينما الحقيقة الرياضية المتجسدة في «المثلث» هي حقيقة سكونية ثابتة ودائمة، نرى أنفسنا أمام «الشجرة» حيال كائن متغير، يولد وينمو ويذبل ويموت ويثمر أو يجدب من الثمر، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فالشكل الهندسي الذي نحن بإزائه، إما أن يكون مثلثا تام التكوين، وإما ألا يكون مثلثا، لكن ما هكذا الحال بالنسبة إلى الشجرة؛ لأنها لا تبدأ تامة التكوين بل تولد نبتة صغيرة وتأخذ في النمو نموا يأتيها باعتمال حيويتها من الداخل، ولا يأتيها بإضافات يضيفها إليها أحد من الخارج، وعلى ضوء هذه المقارنة بين تعريف المثلث وتعريف الشجرة نقول: إن وجهة النظر في العصور القديمة كانت تريد للعلم أن يحدد حقيقة الكائن أيا ما كانت طبيعته، على الأساس الرياضي، ولا فرق بين مثلث وشجرة، بل لا فرق بين فكرة وفكرة، ففكرة «الشجاعة» أو «العفة» أو «الوفاء» أو «العدل» أو «الفن» أو «الحرية» إلخ يجب أن تجد لها عند العقل تعريفا قاطعا محددا يجعلها ثابتة على مر الدهور، وفي أي مكان ظهرت، وكان ذلك كله طلبا للمحال، ثم كان في الوقت نفسه فكرا عميقا يحكم على حياة الإنسان بالجمود، فلا تغير ولا تطور.
وجاء القرن الماضي بأفكاره الكبرى لينقل الإنسان إلى تصور دينامي جديد، وضح في أشكال مختلفة باختلاف عمالقة الفكر على امتداد ذلك القرن، فهو وإن تكن بدايته «هيجل» وما طرحه من منطق الجدل بين النقائض ليتولد عنها جديد، إلا أن الفكرة التطورية هذه قد أخذت صورا مختلفة: عند دارون، وماركس، وفرويد، وسبنسر، وشوبنهور، ونيتشة، وبرجسون، ثم عند صموئيل ألكساندر، ولويد مورجان، وألفرد نورث وايتهد، وغيرهم، ممن ركزوا الانتباه على جانب «التغير» و«التطور» و«النمو» و«الإبداع» في هذا الكون وكائناته، متخلصين من الرؤية الرياضية إلى الأفكار والأشياء، وهي الرؤية التي ترى الحق في الثبات والدوام، لا فرق في ذلك بين شيء وشيء، ولا بين فكرة وفكرة.
على أن تلك الأفكار الكبرى، التي ساورت عمالقة المفكرين، خلال القرن الماضي وجزء من أعوام هذا القرن، لم تمنع أن يحيا الناس حياتهم العملية وكأنهم صبوا في قوالب من حديد، لا يريدون للتقاليد الشكلية أن يتغير منها شيء، ومن ثم فقد سارت حياة الفكر وحياة الجمود الاجتماعي جنبا إلى جنب، الأولى تجعل التغير والتطور محورها المحتوم، والثانية تقيس كل الحقائق على نماذج سالفة ثابتة مسحت بمسحة من التقديس، وكان لا بد لهذا الاختلاف بين الحياتين أن يحدث توترا ينتهي آخر الأمر بانفجار يقضي على أحدهما ليبقي على الآخر، وتمثل هذا الانفجار خلال النصف الأول من هذا القرن، في حربين عالميتين، وقعت بينهما ثورات وانقلابات وحروب أهلية.
صفحة غير معروفة