وأما عمود الأفاعي ذلك الموجود في دلفي، فهو أسهل شيء يمكن فحصه في العالم؛ فكان الجميع يذهبون إلى دلفي. فتأليف الكتاب من دون إيمان جازم بصحة الوصف الذي قدمه في صفحاته فيه مخاطرة شديدة، والتفسير الطبيعي تماما لمعدل نجاحه المذهل هو أنه، بشكل عام، زار فعلا الأماكن التي قال إنه زارها، وأنه ظن أنه رأى ما قال إنه رأى، على الرغم من أن الأفكار الخاطئة والخلل في الذاكرة حتما لعبا دورا.
شكل 8-2: تلة المدفن التي تغطي قتلى أثينا في ماراثون.
2
أحد أقوى التأكيدات لدقة رواة هيرودوت وقوة منطقه على السواء، يأتي من مثال لافت للنظر يخونه فيه منطقه، وذلك نتيجة محدودية فهمه شكل الأرض؛ فقد روى بعض الفينيقيين، زاعمين أنهم أبحروا حول أفريقيا (في اتجاه عقارب الساعة عبر البحر الأحمر على امتداد الساحل الشرقي، ثم لأعلى نحو مضيق جبل طارق)، أن الشمس كانت عن أيمانهم وهو يدورون حول الرأس، وهو شيء - كما يقول هيرودوت - «لا يمكنني تصديقه، وإن كان شخص آخر قد يصدقه.» إنه مخطئ بالتأكيد، لكن منطقه كان سليما؛ إذ إنه لو كانت الأرض فعلا مسطحة، كما كان يظن، لكانت حكاية الفينيقيين غير معقولة حقيقة.
علاوة على ذلك، يحفل «تاريخ هيرودوت» بأمثلة على استخدام هيرودوت قدراته النقدية لتقييم البيانات التي جاءته على نحو ما سيفعل أي مؤرخ حديث. إنه متشكك بالفطرة، وكثيرا ما يلقي البيانات المزعومة التي تأتيه في سلة المهملات. والحقيقة أنه أكثر نقدا لحكايات بعض الرحالة من مؤلفين متأخرين، حيث يرفض رفضا قاطعا تصديق أن الجبال الواقعة شمالا (الأورال؟) تئوي بشرا لهم أقدام معز، على الرغم من أن مصادر قديمة أخرى ذكرت مواضع بشر لهم أقدام خيل في الشمال، وأيضا تحدث كتاب من القرون الوسطى عن بشر لهم أقدام ثيران.
ومع ذلك، وبعد أخذ كل شيء بعين الاعتبار، فإن القضية المطروحة الآن ليست مجرد إلى أي مدى «تاريخ هيرودوت» صحيح حقائقيا؛ ففي نهاية المطاف، وإعادة لصياغة كلام هيرودوت نفسه ، فإن الحقائق التي تبدو الآن دقيقة ربما يثبت في المستقبل أنها غير دقيقة، والأفكار التي تبدو اليوم منافية للحكم السليم ربما يثبت يوما ما أنها مصيبة تماما. ولتنظر إلى مسألة الإتروسكانيين؛ فقد أبدى المؤرخون منذ زمن طويل تشككهم في زعم هيرودوت أن هذا الشعب الذي عاش فيما قبل العصر الروماني انحدر من الأناضول، لكن أدلة الحمض النووي الحديثة التي كشف عنها لدى البشر والبقر على السواء، تشير إلى أن هيرودوت كان محقا دون شك. إن التاريخ، كما قال المؤرخ الهولندي بيتر جيل، جدل بلا نهاية، والجدل غير معني بالحقائق فحسب، فيا له من احتمال رهيب! بالنسبة لسرد تاريخي، يعد وجود نذر قليل من الحقائق أمرا ضروريا، لكنه بالكاد يكفي. إن مجموعة من الحقائق لا تؤكد عملا ما بوصفه عملا تاريخيا، وإن مزيجا من الخيال لا يبطل زعمه أنه عمل تاريخي؛ فقد برع المؤرخون القدامى في تقديم ما يعتبرونه أرفع واقع، ومن هنا كان إقحامهم الخطب في عملهم، بل وفي بعض الحالات إقحامهم أفرادا لا يعرفون عنهم في واقع الأمر إلا قليلا، فيقحمونهم في النص لتصعيد الدراما أو للإيعاز إلينا بما كان الناس سيفكرون فيه ويقولونه، أو الاثنين معا، بل ومن الجائز أن نقول إنهم «عالجوا بالفوتوشوب» سرودهم ليجعلوها تناسب أغراضهم. أما كيف يكون شعورنا حيال ذلك، فقد يتوقف على رأينا في المعالجة بالفوتوشوب بوجه عام، بإضافتها سحبا كثيفة فوق بستان التفاح، أو إزالتها خلفية مشتتة للانتباه خلف صور الأحفاد في حفلات العزف المنفرد على البيانو التي يؤدونها. إن ما نجده بين المؤرخين الإغريق والرومان هو في معظم الأحوال شيء من قبيل «الدراما الوثائقية» التي نراها في العصر الحديث، وهي لون هجين تختفي فيه الشخصيات الثانوية وتخترع شخصيات مركبة للفت الانتباه إلى الديناميكيات الأساسية موضع الاعتبار.
لقد كان هيرودوت مبتكر هذا الجنس الأدبي، حيث مزج ابتكاره الرائد الأبحاث الجادة والحكايات الفولكلورية الساحرة، ولعلنا نستطيع أن نتعلم ألا يزعجنا هذا أكثر مما ينبغي. فمن ذا الذي سبق له وصف حكاية فولكلورية بأنها كذبة؟ ولتتأمل تعليق الصحفي الاسكتلندي نيل أشرسون على سؤال أين يوضع عمل كابوشنسكي على الحد بين الأدب والتحقيق الصحفي: «هذا سؤال تصعب الإجابة عنه، وذلك لأسباب من أهمها عدم وجود حاجز سلكي (منار بالكشافات الغامرة وتحرسه دوريات الكلاب) بين اللونين.» قيل إن هيرودوت كان صديقا لسوفوكليس، وكابوشنسكي كان صديقا لجابرييل جارسيا ماركيز. كان هيرودوت سينظر إلى الحكايات الممعنة في الخيال في «تاريخ هيرودوت» كإثراء لحكايته المحورية عن الحروب الفارسية، لا كأساس لتقويض سلامته كمؤرخ. فقد حكى لنا بعض هذه القصص شيئا مهما عن الحالة الإنسانية، وبعضها الآخر عن ثراء خيالنا المشترك. وتظهر تعليقات من إغريقيين من بني جلدته أنهم كانوا يعتبرون سرده عملا تاريخيا، حيث أكد أرسطو، في معرض كتابته عن الفرق بين الشعر والتاريخ في القرن التالي، يقول إن سرد هيرودوت سيعتبر تاريخا حتى لو حول إلى شعر، وهذا أوضح اعتراف يمكن أن نأمله لهذا الغرض، حتى إن إخوانه الإغريق صنفوا عمله ... بوصفه تاريخا. وقد وصفه صاحب رسالة «في سمو الأسلوب»، الذي كتبه إبان وقوع اليونان تحت الهيمنة الرومانية، بأنه «الأشد هوميرية من بين المؤرخين».
ذلك إطراء عظيم، لكن هناك المزيد مما يقال في هذا الشأن؛ لأن مبادئ الاحتواء عند هيرودوت كانت مختلفة بشدة عنها لدى أي شاعر ملحمي. وقد جمع المؤرخ الفكري مورتون وايت سبعة مبادئ للاحتواء في الكتابة التاريخية: (1)
مبدأ الجمالية؛ ما ينبغي تفضيله هو الأشد إثارة أو متعة من الناحية الجمالية. (2)
مبدأ الشذوذية؛ ما هو أشد غرابة أو شذوذا. (3)
صفحة غير معروفة