يكشف لنا أيضا عن شخصيات أساسية في معارك الحروب الفارسية من خلال الطريقة التي تستجيب بها لنبوءات الآلهة؛ إذ يؤكد هيرودوت أنه بسبب نبوءة تقول إنه لا يمكن تحقيق نصر إغريقي في ثيرموبيلاي إلا بموت ملك إسبرطي، صرف الملك ليونيداس السواد الأعظم من قواته. وهكذا تصور الحملة كتضحية طوعية لا هزيمة في معركة، وتضفى صفات البطولة على ليونيداس. ومن جانبه، يصور الأثيني تيميستوكليس كمستجيب لنبوءة إلهية، لا بالتضحية بالنفس بل بالحنكة والمهارة السياسية؛ إذ عندما تتنبأ عرافة دلفي بأن جدارا خشبيا سيساعد الأثينيين، فإن تيميستوكليس هو الذي يتمكن من إدارة دفة الحديث عن النبوءة نحو اعتبار أن الجدار الخشبي لا يعني الأكروبوليس الحصين بل الأسطول، فيوجه تيميستوكليس وقدراته على الإقناع المفاوضات بين الدول الإغريقية التي تتسم بالحدة أحيانا، فيطرح - وهو المفاوض الصعب دائما - نبوءات إلهية (حقيقية أو مختلقة) تتنبأ بأن الأثينيين سينتقلون يوما ما إلى إيطاليا؛ ليعضد تهديده بسحب الأسطول الأثيني إذا رفض الآخرون القتال في سلاميس. وعندما يترنح الائتلاف، توقع حنكته وجرأته الفرس في شرك شن الهجوم في الوقت الذي تكون فيه الفرق العسكرية الإغريقية في خطر التفتت والتبعثر عائدة إلى ديارها، فيلي ذلك انتصار إغريقي حاسم.
شكل 6-1: تظهر هذه المزهرية التي تعود إلى أوائل القرن الخامس كرويسوس على المحرقة بعد أن أوصله إليها قوروش المنتصر . وهو - وفقا لهيرودوت وبعض الكتاب الإغريق الآخرين - لم يمت بل أنقذت حياته، إما على يد قوروش وأبولو، وإما على يد أبولو وحده.
1
ما كان سرد هيرودوت ليكتمل دون المحاولات العقيمة لإفشال نبوءات العرافين؛ إذ يتبين لنا أن كورنثة كانت تخضع لحكم أوليجارشية قليلة العدد، قوامها عشيرة واحدة هي أهل باخياس، الذين لم يتزاوجوا إلا فيما بينهم. ولما لم يجد أحدهم شخصا يرغب في الزواج من ابنته الكسيحة لابدا، زوجها رجلا يدعى إيتيون من قرية بترا، لكن الزواج لم يثمر عن أطفال. وعندما استشار إيتيون المغموم كاهنة دلفي بشأن فرص إنجابه وريثا، قالت له إن لابدا حبلى في الحقيقة بطفل سيسقط على الباخياسيين كحجر رحى ويجلب العدل إلى كورنثة، فشرع الباخياسيون، الذين كان لديهم بالفعل من الصعوبات ما يكفيهم، في التخلص من وليد لابدا. والحكاية الرائعة التي يحكيها هيرودوت، أو بالأحرى يرويها على لسان شخص يدعى سوسيكليس الكورنثي، واحدة من أبرز الحكايات في «تاريخ هيرودوت».
يصل الجنود إلى بترا رغبة منهم - كما يقولون - في تقديم التحية والاحترام للوليد بدافع محبتهم إيتيون، لكنهم في الحقيقة ينتوون قتله. كان المنتظر من أول رجل يمسك بالطفل أن يقذفه بعنف على الأرض، لكن شاءت المصادفة الإلهية أن ينظر الوليد عاليا إلى الرجل الذي ينتوي قتله ويبتسم، وهكذا يتناوب الجنود حمل الطفل معيدين إياه في النهاية إلى أمه دون أن يقدر أي منهم على قتله.
عاد الجنود لمحاولة ثانية خشية مواجهة سادتهم الباخياسيين، لكنها تخفق هذه المرة لسبب مختلف؛ إذ فطنت لابدا - وهي التي لم تكن حمقاء - إلى نواياهم، فعمدت إلى إخفاء الطفل في خزانة (تعني باليونانية كيبسيلوس)، وبعد أن يعجز الجنود عن العثور على الطفل الذي بقي هادئا على نحو خارق للعادة، يرحلون، فتسمي لابدا ابنها «كيبسيلوس» تيمنا بالخزانة، ويكبر كيبسيلوس ليطيح بالأرستقراطية الباخياسية ويصبح حاكم كورنثة (أما كيف بدأت هذه القصة غير المعقولة في كورنثة فلا يسع المرء إلا أن يتخيل؛ فربما كان الهدف منها تفسير اسم كيبسيلوس الغريب).
وهكذا يدمج هيرودوت نبوءات العرافين التي كانت واسعة الانتشار في الثقافة اليونانية في سرده لعدة أغراض؛ فتفاعل كرويسوس مع دلفي يذكر القارئ بقوة القدر ويكشف عدم قدرة الملك على التعامل مع أقوال العرافة بحدة الذهن المطلوبة، ومثلما رفض حكمة سولون غير المرغوب فيها بلا تمحيص، يقبل الأنباء التي يريد سماعها بلا تمحيص. أولا: كان كرويسوس قد اختبر العرافة بأن سألها عما كان يفعله هناك في ليديا، فنجحت، ثم تختبر العرافة كرويسوس فيفشل، والنتيجة هي اتساع إمبراطورية قوروش. ويبلور تصميم ليونيداس على تحقيق النبوءة التي تنبأت بموته البطولة المتأصلة في الشخصية الإسبرطية، ويستحضر بطولة إلياذة هوميروس، كما أن المعركة التي تدور رحاها على جثته تستحضر المعركة التي تدور رحاها على جثة باتروكولوس رفيق أخيل. وفي الوقت نفسه، يبرز توجهه الوطني وميله إلى التضحية تباينا مقصودا مع العنصر الشديد الشخصية الذي كان يدفع أبطال هوميروس، الذين كانوا ينشدون المجد لأنفسهم لا لمدنهم. وقدرة تيميستوكليس لا على «التنبؤ» بمعنى نبوءة «الجدار الخشبي» فحسب، بل على إقناع الأثينيين المترددين بأنه على صواب، تسلط الضوء لا على شخصيته فحسب بل على الطبيعة الشرطية للتاريخ؛ إذ لو لم يكن الأثينيون محظوظين بما يكفي ليكون بينهم تيميستوكليس، لربما لم يعقدوا فعلا أملهم على الأسطول، ولمكثوا في أثينا ولذبحوا على أيدي الفرس. فالتاريخ - كما كتب العميد بحري صمويل موريسون - «هو كذلك، غير مضمون النتائج.» ويسلط الضوء على طبيعة الأوليجارشية القاتلة من خلال فرق الإعدام التي أرسلها الباخياسيون للتخلص من وليد لابدا، لكن دهاء لابدا الأمومي يضاهي دهاء سينو، الجارية التي أنقذت قوروش الوليد ونشأته حتى صار رجلا، وها هي مرة أخرى امرأة ترقى إلى مستوى الحدث عندما تواجه العنف الذكوري. وعلى الرغم من أن طفلها يكبر ليطيح بعائلتها، فهو على الأقل حي ليفعل ذلك.
إذن فهيرودوت يستخدم الدين في خدمة أجندته السردية. لكن ماذا عن عقائده هو؟ ما الدور الذي نسبه هيرودوت للآلهة في تشكيل الأحداث؟ كانت مسألة معتقدات هيرودوت الدينية موضع جدال أكاديمي عنيف نوعا ما، حيث يؤكد البعض على نزعة هيرودوت الشكوكية، ويعتبره آخرون إغريقيا تقليديا من إغريقيي عصره، ربما خاطر بركوب البحر لإشباع فضوله بشأن العالم البشري، لكنه كان يقبل التعاليم التقليدية حول آلهة جبل الأولمب قبولا مطلقا، وبين هؤلاء وأولئك يوجد من يرونه وسطا بين هذا وذاك.
ثمة نقطة جيدة للدخول في هذا الجدال، ربما تتمثل في توضيح ما لم يكنه إحساس هيرودوت بالآلهة؛ فالآلهة المتنازعة المتضاربة المصورة بصفات بشرية التي نراها مثلا في الإلياذة، حيث تجرح أفروديت في رسغها وتذهب إلى زيوس باكية من هذه الإصابة، غائبة تماما عن «تاريخ هيرودوت». ولتتأمل الطاعون الذي يصيب الإغريق في مستهل القصيدة؛ فعندما يرفض القائد العام للإغريق قبول فدية مقابل سبية حرب تصادف أن كان أبوها كاهن أبولو، يذهب الكاهن إلى أبولو ويطلب منه معاقبة الإغريق، فيوافق الرب:
فحث الخطى من أعالي الأولمب وقد تمكن الغضب من قلبه.
صفحة غير معروفة