بعد مرور عقد ونصف عقد من الزمان على إطلاق ونستون تشرشل تلك التحذيرات، رحلت بريطانيا عن الهند، وتلا ذلك فترة من الهمجية والحرمان فعلا، ما زال تحديد المسئول عنها موضع جدل محتدم. لكن أمكن استعادة النظام بعدها بصورة أو بأخرى، ولم تستدع الحاجة تدخل الألمان لحفظ السلام. أما صعود الهندوس - إن جاز الوصف - فحدث واستمر لا بقوة السلاح وإنما بانتخابات منتظمة قائمة على حق الاقتراع العام للبالغين.
إلا أنه خلال السنوات الستين المنصرمة منذ استقلال الهند، صارت مدة بقائها موحدة أو حفاظها على المؤسسات والعمليات الديمقراطية مثار التكهنات؛ فكلما مات رئيس وزراء سادت تنبؤات بحلول الحكم العسكري محل الديمقراطية، وكلما شحت الأمطار الموسمية توقع الناس أن تجتاح البلاد المجاعة، وكلما ظهرت حركة انفصالية جديدة لاح في الأفق اختفاء الكيان الموحد للهند.
من بين أولئك المتشائمين كان ثمة كتاب غربيون، بعد عام 1947 صار احتمال أن يكونوا أمريكيين أو بريطانيين متساويا. الجدير بالذكر أن وجود الهند لم يمثل لغزا فقط بالنسبة إلى المراقبين العابرين أو الصحفيين الذين يحكمون بديهتهم فحسب، بل مثلت حالة شاذة بالنسبة إلى علم السياسة الأكاديمي أيضا، الذي تنص مسلماته على أن التغاير الثقافي والفقر لا تقوم عليهما الدول، ناهيك عن الدول الديمقراطية؛ فقد كتب عالم السياسة المرموق روبرت دال أن فكرة أن الهند «يمكنها الإبقاء على مؤسسات ديمقراطية تبدو - ظاهريا - مستبعدة إلى حد بعيد». وأضاف أنها: «تفتقر إلى الظروف المطلوبة كافة.» وكتب باحث أمريكي آخر يقول: «إن الهند مشهورة بتحطيمها تعميمات العلوم الاجتماعية، إلا أن النتائج التي توصل إليها هذا المقال توفر أساسا للتشكيك في استمرارية الديمقراطية الهندية.»
8
وتزخر صفحات هذا الكتاب بتنبؤات تنذر بتفكك الهند الوشيك، أو وقوعها في بئر الفوضى أو الحكم السلطوي. دعوني أستشهد بنبوءة لا أكثر لزائر متعاطف هو الصحفي البريطاني دون تايلور، فعندما كتب تايلور عام 1969 - حين كانت الهند قد ظلت متحدة طوال عقدين من الزمان واجتازت أربعة انتخابات عامة - كان ما زال يفكر كالتالي:
يظل السؤال المهم هو: هل يمكن أن تبقى الهند وحدة واحدة، أم أنها ستتفكك؟ ... عندما يتطلع المرء إلى ذلك البلد بمساحته الشاسعة، وشعبه الذي يبلغ تعداده 524 مليون نسمة، واللغات الخمس عشرة الكبرى المستخدمة فيه، وأديانه المتنازعة، وأجناسه المتعددة، يبدو عسيرا على التصديق أن تتمكن دولة واحدة من أن تنشأ يوما في تلك الظروف.
بل إنه من العسير حتى أن يستوعب العقل حدود ذلك البلد بما يحويه من جبال الهيمالايا العظيمة، وسهل الجانج الهندي الفسيح الذي تحرقه الشمس وتجتاحه الأمطار الموسمية الضارية، والدلتا الشرقية الخضراء المغمورة بمياه الفيضان، والمدن العظيمة مثل كلكتا وبومباي ومدراس؛ فهي - في كثير من الأحيان - لا تبدو بلدا واحدا، إلا أن الهند تتمتع بصلابة تبدو ضمانا لبقائها، وفيها شيء لا يمكن وصفه إلا بالروح الهندية.
أظن أنه ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن مصير آسيا معلق ببقائها.
9
يتمنى القلب أن تبقى الهند، ولكن العقل قلق من ألا تبقى؛ فهي مكان مفرط التعقيد والإرباك، ويجوز للمرء أن يقول إنها بلد «غير» طبيعي.
صفحة غير معروفة