حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

أنتوني جوتليب ت. 1450 هجري
38

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

تصانيف

الذي يحوي كنوز الطبيعة بين دفتيه.

وكن في الأرض كجوبيتر في السماء؛

رب هذه العناصر ومصرفها.

بل إن الأسطورة ذكرت أن نهاية إمبيدوكليس كانت مثل نهاية فاوستوس تقريبا، فيقال إنه بعد أن تناول عشاءه مع بعض أتباعه قفز إلى داخل نيران بركان إتنا واختفى، تماما كما جرت الشياطين فاوستوس إلى نيران الجحيم في منتصف الليل. وقد بقيت هذه القصة وعاشت بفضل ديوجينيس لارتيوس وميلتون وماثيو أرنولد. لكن الحقيقة أن إمبيدوكليس توفي خلال نفيه بعيدا عن صقلية لأسباب سياسية وربما في مدينة بيلوبونيز . وما كان غنيا بالأحداث الغريبة حقا إنما هو حياته لا موته.

إمبيدوكليس.

ولد إمبيدوكليس حوالي عام 492ق.م. لأبوين شهيرين وكان ذا مظهر مميز؛ فقد كان يرتدي ثوبا أرجوانيا بحزام ذهبي وحذاء برونزيا وإكليل غار. ويبدو أن هذه الأزياء قد حققت هدفها المنشود حيث يقول:

كنت أسير وسط حفاوة الجميع مكللا بالتيجان والزهور، وكنت كلما دخلت مدينة ومررت على أهلها رجالا ونساء ألقى الترحيب والتكريم، وسار الآلاف منهم خلفي ...

واعترف إمبيدوكليس قبل هذا الحديث المفعم بالفخر والإعجاب مباشرة أنه «إله خالد ولم يعد إنسانا يموت ويفنى» وأن هؤلاء الذين لا يعرفون قدر تعاليمه ليسوا سوى «حمقى!» وقد تنتابنا الدهشة إذا أدركنا أن نشاطه السياسي في مدينة أكراجاس كرسه للدفاع المستميت عن فكرة إقامة الديمقراطية وتحقيقها في وجه نظام الحكم الاستبدادي، وهو الأمر الذي حدا بمن يحمل له الجميل من المواطنين أن يعرض منصب الملكية عليه اعترافا منهم بجهوده الناجحة في المطالبة بالمساواة. والحق أن كتاباته كانت متوافقة مع سياساته وإن بدت شخصيته مخالفة لذلك؛ فقد كتب بكل حماس عن ذلك العصر الذهبي الذي نعم فيه البشر جميعا بالعيش سويا، كما أن تعاليمه ومواعظه تقول إن الناس جميعا - وليس إمبيدوكليس ذو الحظ العظيم وحده - يستطيعون أن يستعيدوا هذه الحالة الإلهية التي كانوا عليها؛ ولذلك فقد كان من دعاة مذهب المساواة الروحانية. وقد غالى إمبيدوكليس في هذا الشأن كثيرا حتى قال إن جميع المخلوقات الحية بينها تشابه روحاني؛ فقد كان يؤمن بما آمن به الفيثاغوريون من أن الأرواح تفارق الجسد بعد الموت ويمكن أن تتناسخ مرة أخرى في أشكال النباتات أو الحيوانات أو البشر، حتى قال عن نفسه ذات مرة إنه كان «صبيا وفتاة ثم شجيرة وطائرا ثم سمكة من الأسماك المهاجرة.»

ولكن كيف لهذا الهذيان الفيثاغوري أن يتناسب مع النظرية الكيميائية الجدية التي أكسبته مكانته في التاريخ؟ كما كان الحال لدى فيثاغورس نجد ثمة ارتباطا بين أنشطة إمبيدوكليس العلمية وآرائه الدينية، حيث يرى الفيثاغوريون أن ثمة اتصالا بين الأمور الروحانية ومعرفة الطبيعة، وأنهم توصلوا إليه من خلال مفهوم «التأمل» لديهم، وهو عبارة عن تأمل سامي يعمل على تنقية الروح، ولكن هذا الاتصال يأخذ شكلا مباشرا بصورة أكبر عند إمبيدوكليس؛ فالأفكار الأورفية أو الفيثاغورية عن الروح وخلاصها والتي يتناولها إمبيدوكليس في قصيدة له بعنوان «سبل النقاء» أو بالأحرى في جزء منها يمكن اعتبارها تطبيقا للأفكار البشرية في قصيدته «العلمية» (أو ربما كانت جزءا من القصيدة نفسها) التي تسمى «عن الطبيعة». تمثل الدراما الإنسانية فصلا واحدا من المسرحية التي تؤديها العناصر في الكون، وطاقم التمثيل هو نفسه الموجود في قصيدتي «سبل النقاء» و«عن الطبيعة»؛ ولذلك فإن قوة الحب التي تقوم بجذب العناصر الكيميائية بعضها لبعض لتتجمع وتلتحم هي ذاتها القوة التي يشعر بها الناس في قلوبهم والتي تفسر سبب الانجذاب الجنسي، أما قوة الصراع، التي تقوم بإبعاد العناصر بعضها عن بعض، فهي المسئولة عن الانهيار الروحي للإنسان. •••

ولم يتبق من أعمال إمبيدوكليس سوى نحو 450 بيتا متفرقا من الشعر لم تضمها هاتان القصيدتان، وإنما وردت في طيات كتابات أخرى لكتاب آخرين. وما تبقى من كتاباته يفوق بكثير ما تبقى من كتابات أي مفكر آخر في ذلك العصر ويعكس كيف كانت كتاباته من أكثر الكتابات المستشهد بها آنذاك. وقد كان إمبيدوكليس آخر الفلاسفة اليونانيين الذين كتبوا بالشعر، وربما كان أمهرهم في قرض الشعر حيث سماه أرسطو «أبو الخطابة»، وكتاباته أسهل في فهمها من كتابات بارمنيدس.

صفحة غير معروفة