حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

أنتوني جوتليب ت. 1450 هجري
24

حلم العقل: تاريخ الفلسفة من عصر اليونان إلى عصر النهضة

تصانيف

ويبدو أن الفكرة التي تكمن خلف هذا الحديث عن المزيج بين المحدود واللامحدود هي كالتالي: يخلق النظام والجمال عندما يفرض نوع من الحدود، أو التحديد، على المادة الخام اللامحدودة للكون. ومن الأمثلة الدنيوية على ذلك الطريقة التي يستخدم بها قالب الخبز لتكوين شكل محدد من قطعة عجين عديمة الشكل. وكما رآها الفيثاغوريون، تقوم النسب الموسيقية بتحديد النتائج المهمة لفرض النظام على الصوت عديم الشكل. ومثلما تؤدي النسب إلى إحداث التناغم الموسيقي من الضوضاء المتنافر، رأى الفيثاغوريون أن العديد من الأشياء الأخرى القيمة إنما هي أمثلة على التناغم أو تناسق الإيقاع كالجسد الصحي والروح الفاضلة والمجتمع العادل، وهي أمور رأوا فيها النسب الصحيحة أو المزيج الصحيح من العناصر. وفي كل حالة تعد النسبة أو المزيج المتناسق مثالا على إنشاء النظام أو الحدود. ويؤثر المفهوم المزدوج للمحدود واللامحدود على الأرقام عن طريق المفاهيم الحسابية الخاصة بالأعداد الزوجية والفردية؛ فاللامحدود يطابق الأعداد الزوجية (أو ربما يؤدي إلى تكوينها)، أما المحدود فله العلاقة نفسها ولكن مع الأعداد الفردية. وتتحد الأعداد الزوجية والفردية مكونة الرقم 1، بينما تكونت كل الأعداد الأخرى من الرقم 1.

وهكذا نحصل على وصفة الأرقام ومن ثم الوصفة الخاصة بكل الأشياء الأخرى التي تتكون من الأرقام بشكل ما. ولكن كيف جاءت الأرقام أصلا؟ قدم الفيثاغوريون تفسيرا لبداية الكون. في نسخة أناكسيماندر من تلك الرواية انفصلت بيضة أو بذرة بشكل ما عن المطلق غير المحدود، وظلت تنمو حتى صارت العالم الذي نعرفه الآن. وبالمثل تبدأ رواية الفيثاغوريين ببذرة، ولكن بذرتهم تنمو عن طريق امتصاص اللامحدود ومن ثم إعطاؤه شكلا أو حدودا. وكذلك نشأ كل شيء في العالم من كواكب وصخور وموسيقى وربما حتى البشر، نتيجة لهذا النمو الذي يقتات على المشيمة اللامحدودة عديمة الشكل. ويبدو أن هذا الامتصاص كان مقصودا بالمعنى الحرفي إلى حد ما، فيشار إلى اللامحدود في هذا السياق بالروح؛ أي الهواء أو النفس. وهكذا أصبح لدينا تفسير لتطور الكون تسيطر عليه صورة كائن حي ينمو ويتنفس ويستمد غذاءه من البيئة المحيطة به.

ولكن كيف يفترض بذلك التفسير البيولوجي الزائف أن يستمر في ظل وجود الأفكار الفيثاغورية الأكثر تجردا وتعقيدا حول الهندسة والأرقام؟ إن ثمة قولا بأن كل الأرقام يمكن أن تنشأ من الرقم 1 (على سبيل المثال بتكرار إضافة الرقم 1) أو أن المكعب يمكن اعتباره مكونا من نقاط وخطوط. ولكن هل بوسعنا الآن أن نفترض أن الرقم 1 قد نشأت عنه الأرقام الأخرى والتي بدورها أنجبت الخطوط التي أنجبت الأشكال الهندسية ... إلخ في لحظة محددة من تطور الكون؟ يبدو الأمر كما لو كانت بضع صفحات من بداية سفر التكوين قد فقدت واختلطت مع صفحات من كتاب الرياضيات للمرحلة الابتدائية.

وتلك هي النقطة التي يستحسن فيها التوقف عن الافتراض؛ إذ إن مصادر كل تلك التأملات حول الفيثاغوريين هزيلة وربما تكون فاسدة، وفي مرحلة ما يضطر المرء إلى الاعتراف بأنه لا يمكن الحصول على مزيد من المعلومات من هذه المصادر. وهنا تجدر الإشارة أيضا إلى أن الفيثاغوريين لم يكونوا رجالا خارقين تحرروا في خطوة واحدة من الأفكار البدائية لأسلافهم، بل كانوا لا يزالون يتبعون طرق علماء الطبيعة الأوائل الذين اهتموا كما رأينا بالروايات البسيطة لكيفية بدء كل ذلك، وكانوا يبذلون قصارى جهدهم للانتقال إلى أنواع أخرى من الأسئلة وخاصة الأسئلة الرياضية، ولكنهم لم يدركوا كيف يتخلصون تماما من الأساليب العتيقة في الحديث. •••

وكما رأينا سابقا، كان يفترض بالفيثاغوري الصالح أن يكرس كل وقته وجهده لدراسة الطبيعة، وخاصة علم الفلك والرياضيات والموسيقى، وهو ما يفترض أن يطهر روحه. ومن السهل الإعلان عن النوايا الحسنة في بداية الفصل الدراسي، ولكن ماذا حقق الفيثاغوريون في ذلك؟

ورغم قلة ما نعلمه عن مساهماتهم في الموسيقى (أو بشكل أكثر دقة في علم الأصوات الموسيقية) فهي معلومات مفيدة، تتكون من الملاحظات المشار إليها سابقا والتي أظهرت العلاقة بين النسب والمسافات الموسيقية المتناغمة ذات الأصوات العذبة، وهذا كل شيء. ورغم ذلك فقد انبهر بها مؤرخو العلوم في العصر الحديث، حيث يقال إن انشغال الفيثاغوريين بعلم الصوت هو «الحالة المهمة الوحيدة التي نملك فيها دليلا على انخراط الفلاسفة في البحث التجريبي» قبل أفلاطون. لكن الفكرة الموسيقية الأشهر لدى الفيثاغوريين - وهي إيمانهم ب «التناغم» أو «الموسيقى السماوية» - لم تكن لها إلا علاقة ضعيفة بالبحث التجريبي، بل إنها صورة تلخص بدقة تخيلهم عن الكون. وقد آمن الكثيرون بهذه الفكرة لأنها كانت تبدو فكرة جذابة. ويشهد على كثرة إيحاءاتها ظهورها في أعمال كل من أفلاطون وشيشرون وتشوسر وشكسبير وميلتون وبوب ودرايدن وآخرين. وقد وصفها أرسطو بشكل جيد في كتاباته، إلا أن الفكرة وصفت على النحو الأفضل على لسان لورنزو في مسرحية «تاجر البندقية» حين قال:

اجلسي يا جيسيكا وانظري كيف رصعت السماء،

بأجسام من الذهب البراق،

إنها من كوكب مهما صغر حجمه فلا ترينه إلا يغني أثناء حركته،

كالملاك الذي يبعث أنغامه،

صفحة غير معروفة