الأشخاص
الفصل الاول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الأشخاص
الفصل الاول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
صفحة غير معروفة
الفصل الرابع
الفصل الخامس
حلم أغسطس
حلم أغسطس
تأليف
بيار كورناي
ترجمة
خليل مطران
مقدمة
بقلم نظير عبود «سنا» هي إحدى تراجيديات أربع بلغ بها الشاعر الفرنسي بيار كورناي (1606-1684) ذروة نتاجه المسرحى. والثلاث الأخر هي: السيد، وهوراس، وبوليوكت. ويضيف إليها بعض النقاد والباحثين تراجيديا خامسة: «بومبايوس»، وكوميديا: «الكذاب».
صفحة غير معروفة
ومن أبرز ما يسترعي انتباه الدارسين أن نتاج كورناي شبيه بحياته، يبدأ بفتوة لاهية ماجنة، تحب الدعابة والمرح، فيصل إلى شباب متنبه، بعيد الطموح، يتلمس طريقه إلى المجد، حتى إذا بلغ نضج الرجولة، اهتدى إلى التعبير الأفضل عن نبوغه، فأعطى زبدة ما في قلبه وعقله، ثم راح ينحدر، مع توالي الأعوام، نحو الأفول، من غير أن ينقطع عن العطاء، كأنه أراد أن يكون نتاجه قنطرة توازي تماما قنطرة حياته.
وهكذا رأيناه يضع مسرحيته الأولى: «ميليت» - كوميديا - وهو في الثالثة والعشرين من العمر. وخلال سبعة أعوام وضع سبع مسرحيات، منها خمس كوميديات: الأرملة، ورواق القصر، والتابعة، والساحة الملكية، والوهم الهزلي، وتراجيديا: ميديه، وتراجيكوميديا: كليتندر.
وفي الثلاثين من العمر أطلق أولى روائعه الخالدة: السيد، وأتبعها بهوراس وسنا، وبومبايوس، والكذاب، ثم راح ينحدر مع: تابع الكذاب، ورودوغون، وتيودور، وهيراكليوس، واندروميد، ودون سانش، ونيكوميد، وبرناريت، وأوديب، والجزة الذهبية، وسرتوريوس، وصفونسب، وأوتون، واجيزيلاس، واتيلا، وتيت وبيرينيس، وبسيكيه، وبولشيري، حتى انتهى إلى سورينا ... وكانت هذه مؤسفة حقا، فانقطع عن التأليف المسرحي نهائيا، وانصرف إلى التأمل، ففاضت شاعريته ورعا وتقوى في: الاقتداء بيسوع المسيح، وأناشيد فرض الكهنة، ومدائح العذراء.
كورناي الرائد
يعتبر كورناي، على الرغم من هنات الفتوة والشيخوخة، رائد المسرح الكلاسيكي الفرنسي، وفجر العصر الذهبي المعروف باسم الملك «لويس الرابع عشر». وهذا ما أعلنه نده ومنافسه جان راسين يوم استقبله في الأكاديمية الفرنسية، إذ قال:
في أية حال كان المسرح الفرنسي حين بدأ كورناي يعمل! في أية فوضى! وأي انحراف عن القواعد!
كان مسرحنا خاليا من الذوق، خاليا من معرفة الجمالات المسرحية الحقيقية، فالمؤلفون كانوا أشد جهلا من المشاهدين، وكانت الموضوعات المطروحة، في أغلبيتها، مبالغات بعيدة عن المنطق والمعقول، لا أخلاق فيها، ولا خصائص مدروسة.. وكان الأداء أوفر فسادا من التمثيل، وكل ما كانت تتحلى به المسرحيات، معنى ومبنى: نكت لاذعة، وتلاعب بالألفاظ.
وبكلمة مختصرة، كانت قواعد الفن، والشرف، واللياقة كلها مرذولة ومنقوضة!
وهذه شهادة جديرة بالتدوين والحفظ.
عوامل وضع سنا
صفحة غير معروفة
أجمع الباحثون على أن عوامل وضع «سنا» نوعان: أدبية وتاريخية.
فالعوامل الأدبية هي تلك التي نجمت عن «معركة السيد» فالنجاح المنقطع النظير الذي أحرزته هذه المسرحية أحدث في الأوساط الفكرية ما يشبه الإعصار، حتى أن الممثل موندوري الذي قام بدور «السيد» - رودريغ - كتب إلى بلزاك:
ليتك تأتي إلى باريس لترى هذه المسرحية التي سحرت المدينة. ازدحم الناس في القاعة حتى أصبحت الزوايا المخصصة للخدم أماكن مرموقة للأشراف.
وكتب الناقد بليسون:
يصعب وصف الترحيب الذي استقبلت به هذه المسرحية. فكل من رآها أراد رؤيتها من جديد، فما تعب أحد منها. وفى الأوساط والأندية كان التحدث عنها كل ما يقال ويسمع، وكان الجميع يحفظون شيئا من أبياتها عن ظهر قلب، وبوشر تعليمها للأولاد في أماكن عديدة من فرنسا، وانطلق مثل على الألسنة هو: «هذا جميل كالسيد».
ولم يكن إعجاب الملك أقل من إعجاب شعبه، فرفع كورناي وأباه إلى مرتبة الأشراف، مما أثار حفائظ الكتاب والشعراء، أمثال: ميريه، وسكوديري، وكلافريه، فاتهموا المؤلف بخرق «القواعد الكلاسيكية» ولا سيما وحدة الزمان والمكان، وادعوا أن القصة لا يمكن أن تحدث في أربع وعشرين ساعة، وأن حوادثها وقعت في أماكن عديدة.
وادعى ميريه أن كورناي «سرق» موضوعه من مسرحية اسبانية. فرد كورناي ردا رصينا لا يخلو من العنف قال فيه:
لست مدينا بشهرتي إلا لي وحدي، ولا أظن أن هناك منافسا لي لا أشرفه حين أعتبره ندا.
وتدخلت الأكاديمية فحسمت الخلاف بقولها:
إن في السيد جمالا نادرا ما يكون له مثيل، وهو من أجمل الشعر المعروف حتى الآن.
صفحة غير معروفة
واعتقد بوالو، رئيس المدرسة الكلاسيكية ومشترعها الأول أن «سنا» مدينة بوضعها لمعركة «السيد» وصاغ هذه الفكرة في بيت من الشعر هو:
Au Cid Persécuté, Cinna doit sa naissance - إن سنا مدينة بولادتها لما عانت السيد من الاضطهاد.
أما العوامل التاريخية فهي أن حركة عصيان نشبت في منطقة نورمنديا عام 1639، فقمعها الوزير ريشليو قمعا داميا، ونفى اثنين وعشرين من قادتها. ولما كان كورناي نورمنديا، فقد اختار موضوع سنا الذي يمجد الحلم أملا أن يستدر عطف الكردينال الوزير على مواطنيه المنفيين، فتأثر ريشليو، وأثنى على الشاعر بلا تحفظ، ولكنه لم يلن، ولم يصفح عن المنفيين.
قيمة «سنا»
نجحت هذه المسرحية نجاحا يضارع نجاح سابقتيها: السيد وهوراس، فمثلت مائة وست وستين مرة، وأعرب النقاد عن إعجابهم بما فيها من:
تصوير الأخلاق والطباع تصويرا مدروسا، دقيقا، عميق الغور، يبرز المزايا الخلقية، والخفايا النفسانية ابرازا يزدان بروعة البيان، وسمو المناقب.
النقاش السياسي، وقد حذقه كورناي وأبدع فيه، وهو الذي نال جائزة في البلاغة والبيان والخطابة، إذ كان تلميذا، وأحرز إجازة الحقوق في الثامنة عشرة من عمره، فجاء نقاشه السياسي متسما بما فطر عليه من الفصاحة، وقوة الحجة، وسداد الرأي، وبعد النظر.
الإنشاء الزاخر بالقوة والإشراق، إن في رواية الحوادث، أو في الحوار، أو في عتاب الامبراطور، أو في رد فعل الندامة في نفس سنا.
وإذا كانت اميلي حبيبة سنا قد تميزت بقوة الارادة، والعجرفة وصلابة العود على مفهوم مخطئ للشرف، إلى جانب حب لاهب يقرب من الهيام، فإن أغسطس - وهو بطل المسرحية - يعطينا مثلا عن «حاكم» ينشد الكمال. فهو سيد نفسه، مسيطر على أعصابه، يكبت عواطفه في سبيل الحق، ويقدس الواجب إلى الحد الأقصى، ويتحلى بالحلم الذي يتجاوز كل تخم. وهذا ما نلمسه في عفوه عن سنا، ورغبته في التخلي عن السلطة، وندمه على قسوته السابقة، مما جعله أنبل وجه، ليس في مسرحيات كورناي فحسب، بل في مختلف مسارح العالم والتاريخ.
أما سنا، وهو شخصية ثانوية بالنسبة إلى أغسطس، فإنه ما نقم على سيده، والمحسن إليه، وولي نعمته إلا استرسالا منه في حب اميلي، فأقسم لها بقتل الامبراطور انتقاما لأبيها فأصبح أسير قسمه، وهذا مفهوم آخر مخطئ لمعنى الشرف.
صفحة غير معروفة
وأدوار الأشخاص الآخرين ليست سوى تكملة لتوالي حوادث القصة.
مقارنة لا بد منها
بقيت مقارنة بين كورناي ونده راسين يفرضها هذا البحث للإلمام بناحية بالغة الأهمية من المسرح الكلاسيكي الفرنسي.
قيل أن كورناي وراسين رميا إلى تثقيف مشاهدي مسرحياتهما، وتهذيب أخلاقهم، فانتهج كل منهما سبيلا يختلف عن سبيل الآخر، إذ قدم لنا كورناي قدوات صالحة، ومثلا عليا، كأنه يقول لنا: افعلوا هكذا، انسجوا على هذا المنوال، بينما صور لنا راسين المثالب والعيوب، وحذرنا منها، كأنه يقول: اجتنبوا هذا لئلا تسقطوا.
فكان من الطبيعي أن يأتي مسرح كورناي صلبا، بطوليا، شامخ العنفوان، وأن يكون مسرح راسين عاطفيا تتوالى عليه نوبات من الضعف والألم والأنين، فإذا براسين أقرب إلى الإنسان وإلى الشعور الإنساني، وإذا بكورناي يحلق في ذرى يتصورها الخيال، وتعجز الارادة - مهما سمت - عن بلوغ رفعتها.
الأشخاص
اكتافيوس:
قيصر.
أغسطس:
امبراطور روما.
صفحة غير معروفة
ليفيا:
الامبراطورة.
سنا:
ابن كريمة بومبيوس رئيس المؤتمرين بأغسطس.
مكسيم:
رئيس آخر للمؤتمرين.
اميليا:
كريمة تورانيوس الوصي على أغسطس والمنفي خلال مدة حكومة الثلاثة.
فلفيا:
أمينة أسرار اميليا.
صفحة غير معروفة
بوليكليتس:
معتق أغسطس.
ايفاندر:
معتق سنا.
أوفورب:
معتق مكسيم. «تحدث وقائع هذه الرواية في روما»
الفصل الاول
المشهد الأول
اميليا :
اميليا: أيتها النزعات
صفحة غير معروفة
1
التي تجيش في صدري وتستنفد صبري في سبيل انتقام جليل أثاره في نفسي موت أبي.
أيتها الحفائظ
2
التي تدفق بها حقدي، واحتضنها على غير هدى ألمي، فطغى بها على جماع
3
نفسي! مهلا علي لحظات أسترح قليلا وأتبين من خلال ما يغشاني حقيقة مغامرتي وما أرمي إليه. كلما رأيت أغسطس في عنفوان مجده، وأعدت إلى ذاكرتي ما كان منه في أول عهده بالملك من سفك دم أبي، كلما مثلت لي تلك الصورة الدامية التي أثارت أضغاني واجترحتها يد نقمته، استسلمت لحوافزك الملحة، وطابت نفسي لتقتيل ألف في واحد.
وفي أثناء هذا الغضب العادل أراني أحب سنا فوق بغضي لأغسطس، فأحس خمودا في حدتي المتأججة حين أذكر أني بتعقبي لعدوي أعرض حبيبي لسوء المغبة.
4
أجل يا سنا! إنني لأثور على نفسي عندما أتدبر المخاطر التي أدفعك إليها.
صفحة غير معروفة
أنت لا تخشى شيئا في سبيل خدمتي، ولكنني فيما أسالك من هدر دم غيرك أخشى هدر دمك، وهيهات أن تقطف الرؤوس من تلك الذرى الشماء من غير أن تستنزل على قاطفها الزعازع والعواصف.
في الفوز ريب، وأما الخطر فلا ريب فيه، ورب صديق غير صدوق وشى بك، وباح بسرك. أو رب تدبير لم تحكمه، وفرصة لم تحسن انتهازها، أساءا منقلبك وصبا على رأسك الضربات التي كنت تريد أن تصبها على رأس عدوك.
قد تصرعه فيجرك في مصرعه، ومهما يوح إليك حبي من عظائم الأمور في سبيل رضاي، لن تأمن حين ترمي بعدوك من حالق أن يذهب بك في انحداره إلى مهواته.
آه! كف يا حبيبي عن هذه المغامرة المهلكة. فما انتقامي بانتقام إذا جر إلى الإيذاء بك. إن أقسى القلوب لهو الذي يرى السرور في أماني تفسدها مرارة الدموع.
وإن أوجع الأرزاء لهو أن نشتري موت عدو باستنزاف ما في عيوننا من العبرات.
ولكن أيسفح الدمع من ينتقم لأبيه؟
وهل من خسارة فادحة لا تهون في جانب الأخذ بثأره؟
إذا حملنا الحملة الصادقة على قاتله فأرديناه، أيحق لنا التفكير فيما يسومنا موته من عذاب؟
حسبك أيتها المخاوف الباطلة.
حسبك أيتها الرقة الزرية أن تشغلي قلبي بما يثبط عزيمتي!
صفحة غير معروفة
وأنت أيها الحب الذي يبعث فضوله في قلبي هذه المخاوف، تشمر في خدمة واجبي ودع كفاحه، ففي الخضوع له مجدك وفى الفوز عليه عارك.
كن كريما وتسامح له في الغلبة عليك فكلما أعطيته أعطاك وأربى، وإن ينتصر لم يكن نصره إلا تاجا على هامتك.
المشهد الثاني
اميليا، فلفيا
اميليا :
أقسمت، يا فلفيا، ولا أزال أقسم أنني مهما أحببت سنا، بل مهما أحللته من قلبي محل العبادة، فلا وصال بيني وبينه إلا بعد هلاك أغسطس.
رأس هذا العاهل هو الثمن الذي يشتريني به. وما أسومه إلا الحكم الذي يقضي به علي الواجب.
فلفيا :
ذلك الحكم لا يقبل العذل لأن مصدره العدل. فلا جرم أنك بهذا العزم الجليل تؤيدين جدارتك بالانتساب إلى ذلك الدم الذي تطالبين بثأره. ولكن تجاوزي لي، وأعيريني سمعك مرة أخرى. إن هذه الحدة، وإن كان باعثها حقا يجب أن تلطف ... فيلوح لي أن أغسطس، بما يسدى به إليك من الأيادي كل يوم؛ كفر تكفيرا حسنا عن الآلام التي ابتلاك بها. وظاهر من آيات عطفه عليك أنه يحلك أعلى محل من الكرامة.
أليس أسعد المقربين إليه أولئك الذين يجثون على قدميك ويستشفعون بك لديه؟
صفحة غير معروفة
اميليا :
كل هذه الحظوة لا ترد علي أبي، وكيفما نظروا إلي نظرهم إلى المتقلبة في النعمة المعتزة بالنفوذ، فإني على الدوام ابنة المطلوب الثأر لدمه.
ليس للمكرمات في كل حال من الأثر ما تظنين. فهي لمن يتلقاها من يد ممقوتة سبة وامتهان، واكرام العدو الحاقد يزيد في أسلحة خيانته ومكره.
يغدق علي آلاءه في كل يوم، ولكنه لا يفل حد شجاعتي! أنا اليوم كما كنت بالأمس. بل أشد مراسا، وأصلب عودا، فما يفعم به يدي من الصلات، أشتري به نفوس الرومانيين لمناوأته، ولو أنزلني منه منزلة ليفيا لقبلتها حتى اتخذ منها وسيلة للفتك به.
لا جناح على من ينتقم لأبيه، وإنما يبيع دمه من يلين جانبه لإحسان المسيء إليه.
فلفيا :
وما حاجتك لأن ترمي بالكنود
5
والجحود، وفي وسعك أن تحقدي من غير أن ينفجر حقدك؟
في الناس غيرك من لم ينس كيف أرسى أغسطس عرشه على القسوة والظلم. فكم في الرومان من باسل مقدام، وكم من همام ذائع الصيت، ذهبوا قرابين لجرائم طمعه، وتركوا لأولادهم من بعدهم ألما يدفعهم إلى الانتقام. إن آلافا منهم سيطرقون هذا الطريق. والذي يعيش حانقة عليه أمته لا يطول عيشه ... فخلي لتلك الأذرع الذود عنك وعنها ... ولا تعيني أغراضها بغير ما تضمرين لها من أماني الفوز.
صفحة غير معروفة
اميليا :
كيف؟ أأمقته ولا أجد في أذاه؟
أأكل إلى المصادفات أن تتولى إهلاكه؟
وهل تقنع الواجبات الملحة بحقد مكنون وأمان عاجزة؟
أشتهي هلاكه، ولكن يشق علي أن يقتل في غير والدي. إنك إذن لترينني باكية عليه، لأن هلاكه بغير يدي يحرمني لذة الانتقام!
من الجبن أن يكل الإنسان مصالحه إلى غيره، فلنجمع إلى حلاوة الثأر لأهلينا مجدا نحرزه في معاقبة الطغاة، وليذع يومئذ في أرجاء ايطاليا: «ردت على روما حريتها بيد اميليا. لقد مس الغرام روحها، ودله قلبها، بيد أنها لم تجد بوصلها حتى جعلت ثمنه نجاة قومها».
فلفيا :
غرامك وما قدرت له من ثمن تقدمة مشؤومة، تقضي على حبيبك قضاء لا ريب فيه. فتبيني، يا اميليا، ما تعرضين له هواك. واذكري كم ارتطم أناس بهذه الصخرة ولا تعمهي
6
عن القضاء الذي سينزل به فهو لا محالة واقع.
صفحة غير معروفة
اميليا :
اوه ... إنك لتعرفين كيف تصيبين موضع الحس مني. أفكر في المكاره التي أدفعه إليها، فأموت خوفا عليه من الموت، ويختلط علي عقلي، فأعارض نفسي بنفسي: أريد ولا أريد. أهم ولا أقدم، ثم يذعن شعوري بالواجب، وهو حائر بائر، منقاد لنزوات قلبي في عصيانه وتمرده.
هوادة يا صبابتي! رفهي عني قليلا، قد تشهدين من تصاريف الاتفاق كل حدث عظيم. على أنني لا أبالي وليس سنا بهالك حتما من جراء استهدافه للهلاك. ليحتم أغسطس بالجحافل والفيالق، وليحتط لنفسه ما يشاء، وليأمر وينه بما يشاء، إن من يحقر حياته يملك حياة أغسطس. كلما عظم الخطر حلت ثمرته.
الفضيلة تدفعنا إليه وما عقباه سوى المجد. وسواء أهلك أغسطس أم هلك سنا فلا مندوحة لي عن هذه التقدمة قربانا لوالدي ... بهذا وعدني سنا عندما عاهدته على الهوى. والضربة التي سيضربها هي وحدها التي تجعله جديرا بي، وقصارى الأمر: لقد سبق السيف العذل، فلا رجعى عما استقر عليه العزم. اليوم الاجتماع. واليوم الائتمار. واليوم يكون اختيار والساعة والمكان والذراع. فإذا مات سنا فإنني لمائتة بعده.
المشهد الثالث
سنا، اميليا، فلفيا
اميليا :
هذا هو قادم ... سنا ألم يروع اجتماعكم مروع من الخطر؟
وهل رأيت على وجوه أصدقائك دلائل الاستعداد لانجاز ما وعدوك به؟
سنا :
صفحة غير معروفة
لم يتأت قط في ائتمار بطاغية أن يؤمل النجاح كما نأمله. ولم تتبين الحمية في قسم كما تبينت في القسم بقتله، ولم ير في متحالفين أحسن مما رؤي في أصحابي من اتفاق.
لقد أبدوا جميعا من النشاط للأمر والسرور به ما ألقى في روعي أن كلا منهم يخدم عشيقة له كما أخدم عشيقتي، وأظهروا كافة من شدة السخط ما أوهمني أن كلهم يثأر لأب له كما تثأرين لأبيك.
اميليا :
كنت أتوقع أن سنا في مثل هذه المهام يعرف كيف يختار الشجعان ولا يلقي بمصلحة اميليا ومصلحة الرومان في أيدي الأغرار والهمل.
7
سنا :
وددت لو أنك رأيت بنفسك الغيرة التي يقدم بها هؤلاء النفر على ذلك العمل العظيم. كان اسم قيصر أو أغسطس أو الامبراطور، كافيا وحده أن يلهب أعينهم بنار الغضب.
فما تنقضي لحظة حتى يعلو جباههم المتناقضان: اصفرار الاستفظاع، واحمرار الحقد. قلت خاطبا فيهم: «أيها الأحباب، دنا اليوم السعيد الذي سيختم بالحسنى أغراضنا الكريمة.
لقد وضعت الآلهة في أيدينا حظ روما، وناطت سلامتها بهلاك رجل، إن جاز أن يسمى برجل من خلا من الإنسانية، فكان نمرا لا يروى إلا باستنزاف جميع الدم الروماني! ففي سبيل سفكه كم دبر من مكيدة وكم تحول من حزب إلى آخر، ومن عصبة إلى عصبة، فهو تارة صديق لانطونيوس، وطورا عدو له لا حد لوقاحته ولا لقسوته».
وبعد قولي هذا مضيت في سرد طويل للرزايا
صفحة غير معروفة
8
التي عاناها آباؤنا ونحن في الصغر، فجددت بهذه الذكريات الأحقاد، وأذكيت الأضغان، وأججت في قلوبهم الشوق إلى الاقتصاص منه.
وأمعنت فعرضت أمامهم صورا لتلك الوقائع المبكية التي كانت فيها روما تمزق احشاءها بيديها، فكانت العقاب تقاتل العقاب في كل مكان، وكتائبنا تتسلح لتقضي بسلاحها على حريتها، وخيرة الأجناد وأشجع الرؤساء لا يرون المجد كل المجد إلا في النزول إلى مصاف العبيد. ويضيفون إلى دنس قيودهم عار التطلع إلى سلك العالم وراءهم في سلسلة من الأسار.
9
وزاد في الطامة أن التهيام بالشرف المرذول في تسويد طاغية على الخافقين، حبب إلى جميعهم إثم الخيانة والغدر، فكان الرومان على الرومان، والأقارب على الأقارب، يتطاحنون لا لشيء سوى اختيار الباغي إثر الباغي.
وأضفت إلى هذه الصور أروع وصف لوفاقهم الأثيم، البعيد عن الرحمة، الذي جاء نحسا على أهل الخير، وعلى الأغنياء، وعلى أشياخ الندوة، والذي جمعت فيه الجرائم باسم حكومة الثلاثة.
على أنه أعجزني اتخاذ أشد الألوان سوادا لوصف تاريخهم الحفيل بالفواجع، فاجترأت بأن صورتهم لهم ثملين نصرا، نازفين من التقتيل في الميادين العامة. وكشفت لهم عن روما غريقة في دماء أبنائها وقد سفكت مهج أناس منهم وجدل
10
غيرهم في محاريب آلهتهم حماة دورهم. أغري الشرير منهم بالأجر فتمادى في إجرامه، وذبحت الزوج زوجها في سرير منامه، واحتمل الولد رأس أبيه في يده وهو يتصبب دما، وانبرى يطلب كراءه. كل ذلك ذكرته على أنه رسم ناقص للفظائع الرهيبة التي يقوم عليها أمنهم وسلامهم المريب ...
أأعد لك من أسماء أولئك الأعاظم الذين وصفت مناياهم لشحذ العزائم أم أعد أولئك المغضوب عليهم الذين كانوا أنصاف آلهة فنحروا حتى في صدور الهياكل؟
صفحة غير معروفة
ولكن من لي بأن أبين بالحق ... كيف أثارت هذه الصور، على نقصها وقلة اتقانها، عقول جميع المؤتمرين فكانوا ينتفضون حنقا واحتداما ورغبة في الفتك. فلم أضع الفرصة السانحة. ولاح لي أن غضبهم استل منهم كل خوف وحرضهم على كل مغامرة. فمضيت في الخطاب وقلت لهم في كلام وجيز: «كانت المظالم والمغارم، وكان فقدان أموالنا وحريتنا، وتخريب حقولنا ومدائننا، وكان النفي والحروب الأهلية، كل تلك كانت الدرج المخضب بالدماء الذي صعد عليه أغسطس للاستواء في العرش ورمينا بالقوانين الجائرة. ولكن في وسعنا أن نغير هذه الحال المنكودة ما دام هو الباقي وحده من الطغاة الثلاثة. وقد حرم نفسه النصير بقضائه على ضريبيه
11
الخبيثين ليحكم وحده، فإذا ما هلك فلا مولى علينا ولا منتقم له منا. وبعثت روما ببعث حريتها. وحق لنا أن نسمى بالرومانيين يوم نحطم بأيدينا النير الذي يرهقها ...
النهزة سانحة لننتهزها غدا ...
سيذهب إلى الكابيتول لتقريب القربان، فليكن هو الضحية. ولنقم هناك ميزان العدل للناس بمشهد من الآلهة ...
لن يحيط به غير جنودنا. ومن يدي سيتناول البخور والجام.
12
فأريد أن تكون الإشارة الخنجر أغمده في صدره بهذه اليد عوضا عن البخور ... وستريكم الضربة القاتلة أني سليل بومبيوس العظيم. ثم أروني بعد ذلك أنتم كيف تحفظون الذكرى لأجدادكم الأمجاد.
فما انتهيت من خطابي حتى جد كل واحد منهم، بالقسم النبيل، نذر الأمانة والوفاء..
راقهم اختيار الفرصة، ولكن تطلع كل منهم إلى شرف الضربة الأولى التي آثرت بها نفسي، ثم دال العقل من سورة الحمية فجرى الاتفاق على أن يستوثق مكسيم ونصف الجند من حراسة الباب، وأن يتبعني النصف الآخر متأهبا لأول إشارة تبدر مني.
صفحة غير معروفة
هذا ما انتهينا إليه يا اميليا الحسناء، وغدا سأكون موضع حقد الناس أو عطفهم. فإما أن أنعت بالقاتل الأثيم أو بالمنقذ، وإما أن ألقب باسم قيصر والأمير أو باسم المختلس. فإذا أحرزنا الفوز على الطاغية نلنا الفخار، وإذا فشلنا بؤنا بالشنار.
13
الشعب لا ضابط له بإزاء الطغاة، إذا كرههم موتى عبدهم أحياء. إما أنا فسواء علي ألان لي جانب الآلهة أم جفا، وسواء علي أدفعني إلى المجد أم أسلمتني إلى القصاص، وسواء علي أكانت روما لي أم كانت علي. ففي بذل حياتي لمرضاتك سأستسهل كل صعب وأحمد كل مغبة.
اميليا :
لا تخش عاقبة تلوث ذكراك. فالحسن والسيئ سيان في سبيل مجدك، والتواء الحظ في مثل مرامك قد يهدف للخطر حياتك ولكنه لا يضير
14
شرفك.
انظر إلى ما حل ببروتس وبكاسيوس! هل طمس بهاء اسميهما المتلألئين؟ وهل مات ذكرهما، وهل أصابت المنايا من أمانيهما العظيمة ما أصابته من شخصيهما؟ أما يعدان إلى اليوم آخر الأبطال من الرومانيين، لم تفتأ ذكراهما كريمة على روما بقدر ما أصبحت ذكرى قيصر من أبغض الذكريات إليها؟ ولئن كان من فاز عليهما تسنم غارب الحكم، لقد أسي الناس عليهما، ولقد ظلوا يرجون أن يخلفهما أبطال من طرازهما.
ترسم خطاهما، وأطع داعي الشرف، ولكن لا تدع الحيطة لحياتك. اذكر الحب الصادق الذي أشعل قلبينا، ولا تنس أنك تحرز جزائين: المجد، واميليا، وأن قلبك لي، وأنني مشوقة إلى إيابك، وأن حياتك أعز رغائبي، وأن أجلي مرتبط بأجلك.
ولكن أي طارئ جاء بايفندر إلينا الساعة؟
صفحة غير معروفة
المشهد الرابع
سنا، اميليا، ايفاندر، فلفيا
ايفاندر :
أيها المولى! قيصر يدعو بك وبمكسيم معا.
سنا :
وبمكسيم معي؟ ... أعلى يقين أنت مما تقول يا ايفاندر؟
ايفاندر :
بوليكليتس لا يزال في انتظارك، وكان يزمع المجيء بنفسه للبحث عنك معي لو لم احتل حيلة لمنعه. وقد نبأتك نبأه مخافة طارئ مفاجئ ... إنه يتعجل جد عجلة.
اميليا :
أيطلب رئيسي المؤامرة؟ كليكما في آن واحد!.. لقد كشف أمركما.
صفحة غير معروفة
سنا :
رحماك.. ظني خيرا.
اميليا :
آه يا سنا فقدتك!
أبى الآلهة إلا أن يولوا علينا مستبدا. فقدروا أن يكون بين أصدقائك بعض الخونة ... لا شك عندي في أن أغسطس علم بالمكيدة. كيف؟ أيطلب الاثنين معا ويطلبهما عقب الاجتماع؟
سنا :
لا يسعني مكاتمتك أن الأمر أدهشني. ولكن أغسطس كثيرا ما يدعوني إليه، ومكسيم مثلي من خلصائه وثقاته. وقد يكون تشاؤمنا هذا عن غير حكمة.
اميليا :
أقلل من اللباقة في مخادعة نفسك يا سنا ولا تمض بمصائبي إلى أقصى حدودها. أرغب إليك، وقد أصبحت لا تستطيع أن تنتقم لي، أن تربأ بنفسك وتنجو برأسك من هذا الخطر القاتل ... اتق أغسطس في حدته، واجتنب شواظ
15
صفحة غير معروفة