الأشخاص
الفصل الاول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الأشخاص
الفصل الاول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
حلم أغسطس
حلم أغسطس
تأليف
بيار كورناي
ترجمة
خليل مطران
مقدمة
بقلم نظير عبود «سنا» هي إحدى تراجيديات أربع بلغ بها الشاعر الفرنسي بيار كورناي (1606-1684) ذروة نتاجه المسرحى. والثلاث الأخر هي: السيد، وهوراس، وبوليوكت. ويضيف إليها بعض النقاد والباحثين تراجيديا خامسة: «بومبايوس»، وكوميديا: «الكذاب».
ومن أبرز ما يسترعي انتباه الدارسين أن نتاج كورناي شبيه بحياته، يبدأ بفتوة لاهية ماجنة، تحب الدعابة والمرح، فيصل إلى شباب متنبه، بعيد الطموح، يتلمس طريقه إلى المجد، حتى إذا بلغ نضج الرجولة، اهتدى إلى التعبير الأفضل عن نبوغه، فأعطى زبدة ما في قلبه وعقله، ثم راح ينحدر، مع توالي الأعوام، نحو الأفول، من غير أن ينقطع عن العطاء، كأنه أراد أن يكون نتاجه قنطرة توازي تماما قنطرة حياته.
وهكذا رأيناه يضع مسرحيته الأولى: «ميليت» - كوميديا - وهو في الثالثة والعشرين من العمر. وخلال سبعة أعوام وضع سبع مسرحيات، منها خمس كوميديات: الأرملة، ورواق القصر، والتابعة، والساحة الملكية، والوهم الهزلي، وتراجيديا: ميديه، وتراجيكوميديا: كليتندر.
وفي الثلاثين من العمر أطلق أولى روائعه الخالدة: السيد، وأتبعها بهوراس وسنا، وبومبايوس، والكذاب، ثم راح ينحدر مع: تابع الكذاب، ورودوغون، وتيودور، وهيراكليوس، واندروميد، ودون سانش، ونيكوميد، وبرناريت، وأوديب، والجزة الذهبية، وسرتوريوس، وصفونسب، وأوتون، واجيزيلاس، واتيلا، وتيت وبيرينيس، وبسيكيه، وبولشيري، حتى انتهى إلى سورينا ... وكانت هذه مؤسفة حقا، فانقطع عن التأليف المسرحي نهائيا، وانصرف إلى التأمل، ففاضت شاعريته ورعا وتقوى في: الاقتداء بيسوع المسيح، وأناشيد فرض الكهنة، ومدائح العذراء.
كورناي الرائد
يعتبر كورناي، على الرغم من هنات الفتوة والشيخوخة، رائد المسرح الكلاسيكي الفرنسي، وفجر العصر الذهبي المعروف باسم الملك «لويس الرابع عشر». وهذا ما أعلنه نده ومنافسه جان راسين يوم استقبله في الأكاديمية الفرنسية، إذ قال:
في أية حال كان المسرح الفرنسي حين بدأ كورناي يعمل! في أية فوضى! وأي انحراف عن القواعد!
كان مسرحنا خاليا من الذوق، خاليا من معرفة الجمالات المسرحية الحقيقية، فالمؤلفون كانوا أشد جهلا من المشاهدين، وكانت الموضوعات المطروحة، في أغلبيتها، مبالغات بعيدة عن المنطق والمعقول، لا أخلاق فيها، ولا خصائص مدروسة.. وكان الأداء أوفر فسادا من التمثيل، وكل ما كانت تتحلى به المسرحيات، معنى ومبنى: نكت لاذعة، وتلاعب بالألفاظ.
وبكلمة مختصرة، كانت قواعد الفن، والشرف، واللياقة كلها مرذولة ومنقوضة!
وهذه شهادة جديرة بالتدوين والحفظ.
عوامل وضع سنا
أجمع الباحثون على أن عوامل وضع «سنا» نوعان: أدبية وتاريخية.
فالعوامل الأدبية هي تلك التي نجمت عن «معركة السيد» فالنجاح المنقطع النظير الذي أحرزته هذه المسرحية أحدث في الأوساط الفكرية ما يشبه الإعصار، حتى أن الممثل موندوري الذي قام بدور «السيد» - رودريغ - كتب إلى بلزاك:
ليتك تأتي إلى باريس لترى هذه المسرحية التي سحرت المدينة. ازدحم الناس في القاعة حتى أصبحت الزوايا المخصصة للخدم أماكن مرموقة للأشراف.
وكتب الناقد بليسون:
يصعب وصف الترحيب الذي استقبلت به هذه المسرحية. فكل من رآها أراد رؤيتها من جديد، فما تعب أحد منها. وفى الأوساط والأندية كان التحدث عنها كل ما يقال ويسمع، وكان الجميع يحفظون شيئا من أبياتها عن ظهر قلب، وبوشر تعليمها للأولاد في أماكن عديدة من فرنسا، وانطلق مثل على الألسنة هو: «هذا جميل كالسيد».
ولم يكن إعجاب الملك أقل من إعجاب شعبه، فرفع كورناي وأباه إلى مرتبة الأشراف، مما أثار حفائظ الكتاب والشعراء، أمثال: ميريه، وسكوديري، وكلافريه، فاتهموا المؤلف بخرق «القواعد الكلاسيكية» ولا سيما وحدة الزمان والمكان، وادعوا أن القصة لا يمكن أن تحدث في أربع وعشرين ساعة، وأن حوادثها وقعت في أماكن عديدة.
وادعى ميريه أن كورناي «سرق» موضوعه من مسرحية اسبانية. فرد كورناي ردا رصينا لا يخلو من العنف قال فيه:
لست مدينا بشهرتي إلا لي وحدي، ولا أظن أن هناك منافسا لي لا أشرفه حين أعتبره ندا.
وتدخلت الأكاديمية فحسمت الخلاف بقولها:
إن في السيد جمالا نادرا ما يكون له مثيل، وهو من أجمل الشعر المعروف حتى الآن.
واعتقد بوالو، رئيس المدرسة الكلاسيكية ومشترعها الأول أن «سنا» مدينة بوضعها لمعركة «السيد» وصاغ هذه الفكرة في بيت من الشعر هو:
Au Cid Persécuté, Cinna doit sa naissance - إن سنا مدينة بولادتها لما عانت السيد من الاضطهاد.
أما العوامل التاريخية فهي أن حركة عصيان نشبت في منطقة نورمنديا عام 1639، فقمعها الوزير ريشليو قمعا داميا، ونفى اثنين وعشرين من قادتها. ولما كان كورناي نورمنديا، فقد اختار موضوع سنا الذي يمجد الحلم أملا أن يستدر عطف الكردينال الوزير على مواطنيه المنفيين، فتأثر ريشليو، وأثنى على الشاعر بلا تحفظ، ولكنه لم يلن، ولم يصفح عن المنفيين.
قيمة «سنا»
نجحت هذه المسرحية نجاحا يضارع نجاح سابقتيها: السيد وهوراس، فمثلت مائة وست وستين مرة، وأعرب النقاد عن إعجابهم بما فيها من:
تصوير الأخلاق والطباع تصويرا مدروسا، دقيقا، عميق الغور، يبرز المزايا الخلقية، والخفايا النفسانية ابرازا يزدان بروعة البيان، وسمو المناقب.
النقاش السياسي، وقد حذقه كورناي وأبدع فيه، وهو الذي نال جائزة في البلاغة والبيان والخطابة، إذ كان تلميذا، وأحرز إجازة الحقوق في الثامنة عشرة من عمره، فجاء نقاشه السياسي متسما بما فطر عليه من الفصاحة، وقوة الحجة، وسداد الرأي، وبعد النظر.
الإنشاء الزاخر بالقوة والإشراق، إن في رواية الحوادث، أو في الحوار، أو في عتاب الامبراطور، أو في رد فعل الندامة في نفس سنا.
وإذا كانت اميلي حبيبة سنا قد تميزت بقوة الارادة، والعجرفة وصلابة العود على مفهوم مخطئ للشرف، إلى جانب حب لاهب يقرب من الهيام، فإن أغسطس - وهو بطل المسرحية - يعطينا مثلا عن «حاكم» ينشد الكمال. فهو سيد نفسه، مسيطر على أعصابه، يكبت عواطفه في سبيل الحق، ويقدس الواجب إلى الحد الأقصى، ويتحلى بالحلم الذي يتجاوز كل تخم. وهذا ما نلمسه في عفوه عن سنا، ورغبته في التخلي عن السلطة، وندمه على قسوته السابقة، مما جعله أنبل وجه، ليس في مسرحيات كورناي فحسب، بل في مختلف مسارح العالم والتاريخ.
أما سنا، وهو شخصية ثانوية بالنسبة إلى أغسطس، فإنه ما نقم على سيده، والمحسن إليه، وولي نعمته إلا استرسالا منه في حب اميلي، فأقسم لها بقتل الامبراطور انتقاما لأبيها فأصبح أسير قسمه، وهذا مفهوم آخر مخطئ لمعنى الشرف.
وأدوار الأشخاص الآخرين ليست سوى تكملة لتوالي حوادث القصة.
مقارنة لا بد منها
بقيت مقارنة بين كورناي ونده راسين يفرضها هذا البحث للإلمام بناحية بالغة الأهمية من المسرح الكلاسيكي الفرنسي.
قيل أن كورناي وراسين رميا إلى تثقيف مشاهدي مسرحياتهما، وتهذيب أخلاقهم، فانتهج كل منهما سبيلا يختلف عن سبيل الآخر، إذ قدم لنا كورناي قدوات صالحة، ومثلا عليا، كأنه يقول لنا: افعلوا هكذا، انسجوا على هذا المنوال، بينما صور لنا راسين المثالب والعيوب، وحذرنا منها، كأنه يقول: اجتنبوا هذا لئلا تسقطوا.
فكان من الطبيعي أن يأتي مسرح كورناي صلبا، بطوليا، شامخ العنفوان، وأن يكون مسرح راسين عاطفيا تتوالى عليه نوبات من الضعف والألم والأنين، فإذا براسين أقرب إلى الإنسان وإلى الشعور الإنساني، وإذا بكورناي يحلق في ذرى يتصورها الخيال، وتعجز الارادة - مهما سمت - عن بلوغ رفعتها.
الأشخاص
اكتافيوس:
قيصر.
أغسطس:
امبراطور روما.
ليفيا:
الامبراطورة.
سنا:
ابن كريمة بومبيوس رئيس المؤتمرين بأغسطس.
مكسيم:
رئيس آخر للمؤتمرين.
اميليا:
كريمة تورانيوس الوصي على أغسطس والمنفي خلال مدة حكومة الثلاثة.
فلفيا:
أمينة أسرار اميليا.
بوليكليتس:
معتق أغسطس.
ايفاندر:
معتق سنا.
أوفورب:
معتق مكسيم. «تحدث وقائع هذه الرواية في روما»
الفصل الاول
المشهد الأول
اميليا :
اميليا: أيتها النزعات
1
التي تجيش في صدري وتستنفد صبري في سبيل انتقام جليل أثاره في نفسي موت أبي.
أيتها الحفائظ
2
التي تدفق بها حقدي، واحتضنها على غير هدى ألمي، فطغى بها على جماع
3
نفسي! مهلا علي لحظات أسترح قليلا وأتبين من خلال ما يغشاني حقيقة مغامرتي وما أرمي إليه. كلما رأيت أغسطس في عنفوان مجده، وأعدت إلى ذاكرتي ما كان منه في أول عهده بالملك من سفك دم أبي، كلما مثلت لي تلك الصورة الدامية التي أثارت أضغاني واجترحتها يد نقمته، استسلمت لحوافزك الملحة، وطابت نفسي لتقتيل ألف في واحد.
وفي أثناء هذا الغضب العادل أراني أحب سنا فوق بغضي لأغسطس، فأحس خمودا في حدتي المتأججة حين أذكر أني بتعقبي لعدوي أعرض حبيبي لسوء المغبة.
4
أجل يا سنا! إنني لأثور على نفسي عندما أتدبر المخاطر التي أدفعك إليها.
أنت لا تخشى شيئا في سبيل خدمتي، ولكنني فيما أسالك من هدر دم غيرك أخشى هدر دمك، وهيهات أن تقطف الرؤوس من تلك الذرى الشماء من غير أن تستنزل على قاطفها الزعازع والعواصف.
في الفوز ريب، وأما الخطر فلا ريب فيه، ورب صديق غير صدوق وشى بك، وباح بسرك. أو رب تدبير لم تحكمه، وفرصة لم تحسن انتهازها، أساءا منقلبك وصبا على رأسك الضربات التي كنت تريد أن تصبها على رأس عدوك.
قد تصرعه فيجرك في مصرعه، ومهما يوح إليك حبي من عظائم الأمور في سبيل رضاي، لن تأمن حين ترمي بعدوك من حالق أن يذهب بك في انحداره إلى مهواته.
آه! كف يا حبيبي عن هذه المغامرة المهلكة. فما انتقامي بانتقام إذا جر إلى الإيذاء بك. إن أقسى القلوب لهو الذي يرى السرور في أماني تفسدها مرارة الدموع.
وإن أوجع الأرزاء لهو أن نشتري موت عدو باستنزاف ما في عيوننا من العبرات.
ولكن أيسفح الدمع من ينتقم لأبيه؟
وهل من خسارة فادحة لا تهون في جانب الأخذ بثأره؟
إذا حملنا الحملة الصادقة على قاتله فأرديناه، أيحق لنا التفكير فيما يسومنا موته من عذاب؟
حسبك أيتها المخاوف الباطلة.
حسبك أيتها الرقة الزرية أن تشغلي قلبي بما يثبط عزيمتي!
وأنت أيها الحب الذي يبعث فضوله في قلبي هذه المخاوف، تشمر في خدمة واجبي ودع كفاحه، ففي الخضوع له مجدك وفى الفوز عليه عارك.
كن كريما وتسامح له في الغلبة عليك فكلما أعطيته أعطاك وأربى، وإن ينتصر لم يكن نصره إلا تاجا على هامتك.
المشهد الثاني
اميليا، فلفيا
اميليا :
أقسمت، يا فلفيا، ولا أزال أقسم أنني مهما أحببت سنا، بل مهما أحللته من قلبي محل العبادة، فلا وصال بيني وبينه إلا بعد هلاك أغسطس.
رأس هذا العاهل هو الثمن الذي يشتريني به. وما أسومه إلا الحكم الذي يقضي به علي الواجب.
فلفيا :
ذلك الحكم لا يقبل العذل لأن مصدره العدل. فلا جرم أنك بهذا العزم الجليل تؤيدين جدارتك بالانتساب إلى ذلك الدم الذي تطالبين بثأره. ولكن تجاوزي لي، وأعيريني سمعك مرة أخرى. إن هذه الحدة، وإن كان باعثها حقا يجب أن تلطف ... فيلوح لي أن أغسطس، بما يسدى به إليك من الأيادي كل يوم؛ كفر تكفيرا حسنا عن الآلام التي ابتلاك بها. وظاهر من آيات عطفه عليك أنه يحلك أعلى محل من الكرامة.
أليس أسعد المقربين إليه أولئك الذين يجثون على قدميك ويستشفعون بك لديه؟
اميليا :
كل هذه الحظوة لا ترد علي أبي، وكيفما نظروا إلي نظرهم إلى المتقلبة في النعمة المعتزة بالنفوذ، فإني على الدوام ابنة المطلوب الثأر لدمه.
ليس للمكرمات في كل حال من الأثر ما تظنين. فهي لمن يتلقاها من يد ممقوتة سبة وامتهان، واكرام العدو الحاقد يزيد في أسلحة خيانته ومكره.
يغدق علي آلاءه في كل يوم، ولكنه لا يفل حد شجاعتي! أنا اليوم كما كنت بالأمس. بل أشد مراسا، وأصلب عودا، فما يفعم به يدي من الصلات، أشتري به نفوس الرومانيين لمناوأته، ولو أنزلني منه منزلة ليفيا لقبلتها حتى اتخذ منها وسيلة للفتك به.
لا جناح على من ينتقم لأبيه، وإنما يبيع دمه من يلين جانبه لإحسان المسيء إليه.
فلفيا :
وما حاجتك لأن ترمي بالكنود
5
والجحود، وفي وسعك أن تحقدي من غير أن ينفجر حقدك؟
في الناس غيرك من لم ينس كيف أرسى أغسطس عرشه على القسوة والظلم. فكم في الرومان من باسل مقدام، وكم من همام ذائع الصيت، ذهبوا قرابين لجرائم طمعه، وتركوا لأولادهم من بعدهم ألما يدفعهم إلى الانتقام. إن آلافا منهم سيطرقون هذا الطريق. والذي يعيش حانقة عليه أمته لا يطول عيشه ... فخلي لتلك الأذرع الذود عنك وعنها ... ولا تعيني أغراضها بغير ما تضمرين لها من أماني الفوز.
اميليا :
كيف؟ أأمقته ولا أجد في أذاه؟
أأكل إلى المصادفات أن تتولى إهلاكه؟
وهل تقنع الواجبات الملحة بحقد مكنون وأمان عاجزة؟
أشتهي هلاكه، ولكن يشق علي أن يقتل في غير والدي. إنك إذن لترينني باكية عليه، لأن هلاكه بغير يدي يحرمني لذة الانتقام!
من الجبن أن يكل الإنسان مصالحه إلى غيره، فلنجمع إلى حلاوة الثأر لأهلينا مجدا نحرزه في معاقبة الطغاة، وليذع يومئذ في أرجاء ايطاليا: «ردت على روما حريتها بيد اميليا. لقد مس الغرام روحها، ودله قلبها، بيد أنها لم تجد بوصلها حتى جعلت ثمنه نجاة قومها».
فلفيا :
غرامك وما قدرت له من ثمن تقدمة مشؤومة، تقضي على حبيبك قضاء لا ريب فيه. فتبيني، يا اميليا، ما تعرضين له هواك. واذكري كم ارتطم أناس بهذه الصخرة ولا تعمهي
6
عن القضاء الذي سينزل به فهو لا محالة واقع.
اميليا :
اوه ... إنك لتعرفين كيف تصيبين موضع الحس مني. أفكر في المكاره التي أدفعه إليها، فأموت خوفا عليه من الموت، ويختلط علي عقلي، فأعارض نفسي بنفسي: أريد ولا أريد. أهم ولا أقدم، ثم يذعن شعوري بالواجب، وهو حائر بائر، منقاد لنزوات قلبي في عصيانه وتمرده.
هوادة يا صبابتي! رفهي عني قليلا، قد تشهدين من تصاريف الاتفاق كل حدث عظيم. على أنني لا أبالي وليس سنا بهالك حتما من جراء استهدافه للهلاك. ليحتم أغسطس بالجحافل والفيالق، وليحتط لنفسه ما يشاء، وليأمر وينه بما يشاء، إن من يحقر حياته يملك حياة أغسطس. كلما عظم الخطر حلت ثمرته.
الفضيلة تدفعنا إليه وما عقباه سوى المجد. وسواء أهلك أغسطس أم هلك سنا فلا مندوحة لي عن هذه التقدمة قربانا لوالدي ... بهذا وعدني سنا عندما عاهدته على الهوى. والضربة التي سيضربها هي وحدها التي تجعله جديرا بي، وقصارى الأمر: لقد سبق السيف العذل، فلا رجعى عما استقر عليه العزم. اليوم الاجتماع. واليوم الائتمار. واليوم يكون اختيار والساعة والمكان والذراع. فإذا مات سنا فإنني لمائتة بعده.
المشهد الثالث
سنا، اميليا، فلفيا
اميليا :
هذا هو قادم ... سنا ألم يروع اجتماعكم مروع من الخطر؟
وهل رأيت على وجوه أصدقائك دلائل الاستعداد لانجاز ما وعدوك به؟
سنا :
لم يتأت قط في ائتمار بطاغية أن يؤمل النجاح كما نأمله. ولم تتبين الحمية في قسم كما تبينت في القسم بقتله، ولم ير في متحالفين أحسن مما رؤي في أصحابي من اتفاق.
لقد أبدوا جميعا من النشاط للأمر والسرور به ما ألقى في روعي أن كلا منهم يخدم عشيقة له كما أخدم عشيقتي، وأظهروا كافة من شدة السخط ما أوهمني أن كلهم يثأر لأب له كما تثأرين لأبيك.
اميليا :
كنت أتوقع أن سنا في مثل هذه المهام يعرف كيف يختار الشجعان ولا يلقي بمصلحة اميليا ومصلحة الرومان في أيدي الأغرار والهمل.
7
سنا :
وددت لو أنك رأيت بنفسك الغيرة التي يقدم بها هؤلاء النفر على ذلك العمل العظيم. كان اسم قيصر أو أغسطس أو الامبراطور، كافيا وحده أن يلهب أعينهم بنار الغضب.
فما تنقضي لحظة حتى يعلو جباههم المتناقضان: اصفرار الاستفظاع، واحمرار الحقد. قلت خاطبا فيهم: «أيها الأحباب، دنا اليوم السعيد الذي سيختم بالحسنى أغراضنا الكريمة.
لقد وضعت الآلهة في أيدينا حظ روما، وناطت سلامتها بهلاك رجل، إن جاز أن يسمى برجل من خلا من الإنسانية، فكان نمرا لا يروى إلا باستنزاف جميع الدم الروماني! ففي سبيل سفكه كم دبر من مكيدة وكم تحول من حزب إلى آخر، ومن عصبة إلى عصبة، فهو تارة صديق لانطونيوس، وطورا عدو له لا حد لوقاحته ولا لقسوته».
وبعد قولي هذا مضيت في سرد طويل للرزايا
8
التي عاناها آباؤنا ونحن في الصغر، فجددت بهذه الذكريات الأحقاد، وأذكيت الأضغان، وأججت في قلوبهم الشوق إلى الاقتصاص منه.
وأمعنت فعرضت أمامهم صورا لتلك الوقائع المبكية التي كانت فيها روما تمزق احشاءها بيديها، فكانت العقاب تقاتل العقاب في كل مكان، وكتائبنا تتسلح لتقضي بسلاحها على حريتها، وخيرة الأجناد وأشجع الرؤساء لا يرون المجد كل المجد إلا في النزول إلى مصاف العبيد. ويضيفون إلى دنس قيودهم عار التطلع إلى سلك العالم وراءهم في سلسلة من الأسار.
9
وزاد في الطامة أن التهيام بالشرف المرذول في تسويد طاغية على الخافقين، حبب إلى جميعهم إثم الخيانة والغدر، فكان الرومان على الرومان، والأقارب على الأقارب، يتطاحنون لا لشيء سوى اختيار الباغي إثر الباغي.
وأضفت إلى هذه الصور أروع وصف لوفاقهم الأثيم، البعيد عن الرحمة، الذي جاء نحسا على أهل الخير، وعلى الأغنياء، وعلى أشياخ الندوة، والذي جمعت فيه الجرائم باسم حكومة الثلاثة.
على أنه أعجزني اتخاذ أشد الألوان سوادا لوصف تاريخهم الحفيل بالفواجع، فاجترأت بأن صورتهم لهم ثملين نصرا، نازفين من التقتيل في الميادين العامة. وكشفت لهم عن روما غريقة في دماء أبنائها وقد سفكت مهج أناس منهم وجدل
10
غيرهم في محاريب آلهتهم حماة دورهم. أغري الشرير منهم بالأجر فتمادى في إجرامه، وذبحت الزوج زوجها في سرير منامه، واحتمل الولد رأس أبيه في يده وهو يتصبب دما، وانبرى يطلب كراءه. كل ذلك ذكرته على أنه رسم ناقص للفظائع الرهيبة التي يقوم عليها أمنهم وسلامهم المريب ...
أأعد لك من أسماء أولئك الأعاظم الذين وصفت مناياهم لشحذ العزائم أم أعد أولئك المغضوب عليهم الذين كانوا أنصاف آلهة فنحروا حتى في صدور الهياكل؟
ولكن من لي بأن أبين بالحق ... كيف أثارت هذه الصور، على نقصها وقلة اتقانها، عقول جميع المؤتمرين فكانوا ينتفضون حنقا واحتداما ورغبة في الفتك. فلم أضع الفرصة السانحة. ولاح لي أن غضبهم استل منهم كل خوف وحرضهم على كل مغامرة. فمضيت في الخطاب وقلت لهم في كلام وجيز: «كانت المظالم والمغارم، وكان فقدان أموالنا وحريتنا، وتخريب حقولنا ومدائننا، وكان النفي والحروب الأهلية، كل تلك كانت الدرج المخضب بالدماء الذي صعد عليه أغسطس للاستواء في العرش ورمينا بالقوانين الجائرة. ولكن في وسعنا أن نغير هذه الحال المنكودة ما دام هو الباقي وحده من الطغاة الثلاثة. وقد حرم نفسه النصير بقضائه على ضريبيه
11
الخبيثين ليحكم وحده، فإذا ما هلك فلا مولى علينا ولا منتقم له منا. وبعثت روما ببعث حريتها. وحق لنا أن نسمى بالرومانيين يوم نحطم بأيدينا النير الذي يرهقها ...
النهزة سانحة لننتهزها غدا ...
سيذهب إلى الكابيتول لتقريب القربان، فليكن هو الضحية. ولنقم هناك ميزان العدل للناس بمشهد من الآلهة ...
لن يحيط به غير جنودنا. ومن يدي سيتناول البخور والجام.
12
فأريد أن تكون الإشارة الخنجر أغمده في صدره بهذه اليد عوضا عن البخور ... وستريكم الضربة القاتلة أني سليل بومبيوس العظيم. ثم أروني بعد ذلك أنتم كيف تحفظون الذكرى لأجدادكم الأمجاد.
فما انتهيت من خطابي حتى جد كل واحد منهم، بالقسم النبيل، نذر الأمانة والوفاء..
راقهم اختيار الفرصة، ولكن تطلع كل منهم إلى شرف الضربة الأولى التي آثرت بها نفسي، ثم دال العقل من سورة الحمية فجرى الاتفاق على أن يستوثق مكسيم ونصف الجند من حراسة الباب، وأن يتبعني النصف الآخر متأهبا لأول إشارة تبدر مني.
هذا ما انتهينا إليه يا اميليا الحسناء، وغدا سأكون موضع حقد الناس أو عطفهم. فإما أن أنعت بالقاتل الأثيم أو بالمنقذ، وإما أن ألقب باسم قيصر والأمير أو باسم المختلس. فإذا أحرزنا الفوز على الطاغية نلنا الفخار، وإذا فشلنا بؤنا بالشنار.
13
الشعب لا ضابط له بإزاء الطغاة، إذا كرههم موتى عبدهم أحياء. إما أنا فسواء علي ألان لي جانب الآلهة أم جفا، وسواء علي أدفعني إلى المجد أم أسلمتني إلى القصاص، وسواء علي أكانت روما لي أم كانت علي. ففي بذل حياتي لمرضاتك سأستسهل كل صعب وأحمد كل مغبة.
اميليا :
لا تخش عاقبة تلوث ذكراك. فالحسن والسيئ سيان في سبيل مجدك، والتواء الحظ في مثل مرامك قد يهدف للخطر حياتك ولكنه لا يضير
14
شرفك.
انظر إلى ما حل ببروتس وبكاسيوس! هل طمس بهاء اسميهما المتلألئين؟ وهل مات ذكرهما، وهل أصابت المنايا من أمانيهما العظيمة ما أصابته من شخصيهما؟ أما يعدان إلى اليوم آخر الأبطال من الرومانيين، لم تفتأ ذكراهما كريمة على روما بقدر ما أصبحت ذكرى قيصر من أبغض الذكريات إليها؟ ولئن كان من فاز عليهما تسنم غارب الحكم، لقد أسي الناس عليهما، ولقد ظلوا يرجون أن يخلفهما أبطال من طرازهما.
ترسم خطاهما، وأطع داعي الشرف، ولكن لا تدع الحيطة لحياتك. اذكر الحب الصادق الذي أشعل قلبينا، ولا تنس أنك تحرز جزائين: المجد، واميليا، وأن قلبك لي، وأنني مشوقة إلى إيابك، وأن حياتك أعز رغائبي، وأن أجلي مرتبط بأجلك.
ولكن أي طارئ جاء بايفندر إلينا الساعة؟
المشهد الرابع
سنا، اميليا، ايفاندر، فلفيا
ايفاندر :
أيها المولى! قيصر يدعو بك وبمكسيم معا.
سنا :
وبمكسيم معي؟ ... أعلى يقين أنت مما تقول يا ايفاندر؟
ايفاندر :
بوليكليتس لا يزال في انتظارك، وكان يزمع المجيء بنفسه للبحث عنك معي لو لم احتل حيلة لمنعه. وقد نبأتك نبأه مخافة طارئ مفاجئ ... إنه يتعجل جد عجلة.
اميليا :
أيطلب رئيسي المؤامرة؟ كليكما في آن واحد!.. لقد كشف أمركما.
سنا :
رحماك.. ظني خيرا.
اميليا :
آه يا سنا فقدتك!
أبى الآلهة إلا أن يولوا علينا مستبدا. فقدروا أن يكون بين أصدقائك بعض الخونة ... لا شك عندي في أن أغسطس علم بالمكيدة. كيف؟ أيطلب الاثنين معا ويطلبهما عقب الاجتماع؟
سنا :
لا يسعني مكاتمتك أن الأمر أدهشني. ولكن أغسطس كثيرا ما يدعوني إليه، ومكسيم مثلي من خلصائه وثقاته. وقد يكون تشاؤمنا هذا عن غير حكمة.
اميليا :
أقلل من اللباقة في مخادعة نفسك يا سنا ولا تمض بمصائبي إلى أقصى حدودها. أرغب إليك، وقد أصبحت لا تستطيع أن تنتقم لي، أن تربأ بنفسك وتنجو برأسك من هذا الخطر القاتل ... اتق أغسطس في حدته، واجتنب شواظ
15
غضبه! حسبي ما سفحت من الدمع على موت أبي، فلا تزد برحائي
16
برزء جديد، ولا تبلغ بي الحال إلى بكاء حبيبي.
سنا :
ما هذا؟ ألرهبة موهومة.. أخون مصلحتك وأخون قضية أمتي؟ أأتهم نفسي بالجبن وأحجم حيث ينبغي الإقدام؟ ماذا يفعل اصدقاؤنا إذا نالت منك خيبة الأمل؟
اميليا :
بل إلى ما تصير أنت إذا كان السر قد أفشي؟
سنا :
إذا كانت هناك نفوس سافلة خانتني، ففضيلتي لن تخونني وسترينها متألقة على شفا
17
الهاوية، متوجة بالفخار، ساخرة من القصاص، تدع أغسطس غيورا من الدم الذي هدره، هيابا وجلا مني، وقد ضحى
18
ظلي. ستزداد الشبهة في بقدر إبطائي. الوداع.
وطني النفس على شجاعتها وإبائها، ولئن قدر لي أن أتلقى ضربة القدر لأموتن سعيدا وتاعسا: سعيدا بأن أضعت حياتي في خدمتك، وتاعسا لأني مت ولم اضطلع بتلك الخدمة.
اميليا :
نعم.. اذهب ولا تستمع لصوتي الذي يستبقيك. أخذ الاضطراب يذهب عني والعقل يثوب إلي ... اغفر لغرامي هذا الضعف المهين ...
سنا أعرف أن الفرار متعذر لو أردت الفرار، ولا ريب في أن أغسطس قد أخذ عليك سبيله إن كان قد أدرك سر المؤامرة. فألقه إذن. ألقه في مكانه بتلك الجرأة الباسلة الخليقة بحبنا، الشفافة عن كرامة أصلك. مت إذا حق الموت وطنيا رومانيا وتوج غرضك النبيل بميتة نبيلة، ولا تخش بعدك شيئا يمسك بي في الحياة فرداك
19
يحمل روحي إلي روحك وما يصيب قلبك من طعنات يصيب قلبي ...
سنا :
آه ... دعيني إذا ما مت أحيا فيك، وأذني إذا قضيت أن أرجو منك الانتقام لمحبك ولأبيك معا. لا خشية عليك، فما أحد من أصدقائي يعلم بغرضك ولا بما وعدتني به، لقد تحدثت إليهم في مصائب الرومانيين كافة وكتمت عنهم المأساة التي انبتت أحقادنا حذر أن تمس حميتي مصلحتك فينكشف مكنون حبنا وهو أصدق من أن يذاع له سر، فإن كان هناك مطلع على خفي أمره فإنه لا يتعدى ايفاندر ووصيفتك فلفيا.
اميليا: سأذهب إذن إلى ليفيا وأنا أقل رعبا وقلقا، فقد بقى لي، والخطر حائق بك، ان أتذرع لخلاصك بنفوذها ونفوذي ولكن إذا لم تجد مودتي في نجاتك فلا ترج مني بقاء بعدك.
لقد جعلت قسمتي منوطة بقسمتك. فإما بقاؤك وإما اللحاق بك.
سنا :
كوني، رحمة بي، أقل قسوة على نفسك!
اميليا :
اذهب ولا تفكر في شيء سوى أني أهواك.
الفصل الثاني
المشهد الأول
أغسطس، سنا، مكسيم، فريق من البطانة
أغسطس :
ليخرج كل، ولا يدخل أحد. وابق أنت يا سنا. وأنت يا مكسيم. (يخرج الجميع ما عدا سنا ومكسيم)
أغسطس :
هذا السلطان المطلق على البر والبحر، وهذه الولاية العليا التي لي على العالم، وهذه العظمة التي لا حد لها، وهذا المكان الأسمى الذي سامني قدما ما سامني من العناء وسفك الدماء، بل كل ما يخطف بصر المتملق المملول من رواء سعادتي العظمى ليس إلا من تلك المباهج التي تبهر ببهارجها ، ثم لا تلبث أن تمج بعد احتيازها والتمتع بها.
لقد يعاف المطمع حين يدرك. وتعقب الرغبة فيه الرغبة عنه، ولما كانت النفس، ما دام بها رمق، لا تنتهي من أمنية إلا إلى أمنية، فهي ترجع إلى نفسها وقد ضاق في وجهها الفضاء، فتتطلع بعد السمو وبلوغ القمة إلى الانحدار والنزول.
تمنيت الامبراطورية. فأوتيتها. ولكني لم أكن أعرفها وقت التمني، فما وجدت في احتيازها من المسرات إلا الهم المقض، والقلق المستمر، وما ألفيت غير جماهير الأعداء في الخفاء، وغير الموت في كل خطوة، فلا لذة إلا يتخالجها ازعاج، ولا راحة أبد الآبدين.
سبقني سلا إلى هذا السلطان الأسنى، وتمتع به أبي قيصر العظيم، فنظر إليه كل منهما بعين مختلفة: تخلى عنه أحدهما، واحتفظ به الآخر. فمات أولهما وكان جافيا همجيا، ميتة مطمئنة، مات محبوبا كما يموت الوطني الخير في وسط بلده. وقتل الثاني، وكان حليما كريم الطبع، مراقا دمه في مجلس الندوة. فهذان مثلان حديثان ما كان أخلقني بأن اتخذهما عبرة لي، لو كانت العبرة وحدها تكفي ليبدل الإنسان من خطة سيره تبعا لها.
أحد هذين المثلين يغريني بأن أحذو حذو صاحبه، والثاني يخيفني. غير أن المثل كثيرا ما يكون مرآة خادعة، وليس أمر القدر الذي يبلبل منا الأفكار بمكتوب حتما في شؤون الماضي. فقد يعثر المرء حينما أقلبت عثرة غيره، ويهلك واحد بما كان فيه حياة الآخر.
هذا أيها الصديقان الصفيان ما أهمني وشغل بالي. إن مكانكما مني مكان أغريبا ومسينا. فلحل المسألة التي باحثتهما فيها من قبل، خذا على نفسي السلطان الذي كان لهما. ولا تحفلا بهذه العظمة السامية التي يستنكرها الرومانيون، ويثقل وقرها علي. عاملاني معاملة الصديق لا معاملة المليك، فروما وأغسطس والدولة بين أيديكما. ولكما أن تضعا أوروبا وآسيا وافريقية تحت نظام ملكي أو جمهوري. سيكون رأيكما السنة التي استنها. فعلى ما تقضيان به أكون إما امبراطورا وإما فردا من أفراد المواطنين.
سنا :
إني على ما يذهلني من هذه المباغتة، وعلى قلة كفايتي في هذه الشؤون، أطيع أمر مولاي بلا ملق، وأطرح جانبا تلك التجلة التي تحول دون مكافحتي لرأي يظهر أنك تنزع إليه، فأقول قولا صادرا عن نفس تغار على مجدك أنك ستدنس صفحتك بلطخة شديدة الحلك
1
إذا تركت فؤادك عرضة لأمثال هذه الوساوس، ومضيت فيها إلى استنكار جميع أعمالك.
لا ينبغى للمرء أن يصدف عن عظمة شرعية، وله أن يستبقي من غير ندم، ما أحرزه بغير جرم. وكلما كانت القنية التي يرام النزول عنها نبيلة عظيمة، كان التخلي عنها مثارا للشبهات في طريقة احرازها. فلا تصم، يا مولاي، فضائلك النادرة التي رفعتك إلى الأريكة بمثل هذه المبادرة الشائنة.
نلت الملك بحق، ولم تغير في سبيله نظام الدولة بالقسر والعدوان. صارت روما إلى حكمك بالحرب، والحرب هي التي أدانت العالم لروما. جيوشك افتتحتها، وليس كل الفاتحين بطغاة وإن كانوا غاضبين. فمن أخضع منهم الولايات لسلطانه وحكم بالعدل، كان عليها الأمير العدل. ذلك ما فعله قيصر. فإما وأنت اليوم بين تقبيح ذكراه أو احتذاء مثاله، فإن أنت أنحيت على السلطان الأعلى باللائمة فقد حكمت ببغي قيصر، وبررت مقتله فبقي عليك ارتقاب الآلهة، في الدم الذي سفكته للانتقام له والحلول محله.
لا تخش يا مولاي عثرات جده، فأيامك أولى بكلاءة
2
ربك.
لقد ائتمروا بك عشر مرات، فباؤوا بالفشل، وطالما كادوا لك كيدا فلم يزيدوك إلا منعة، يضمر أناس لك الشر حينا بعد حين، ولكن لا ينفذه أحد. أمامك قتلة ولكن ليس فيهم مثل بروتس.
3
وقصارى القول أنه إذا لم يكن محيص عن توقع تلك العقبى السيئة، فأجمل بك أن تقضي وأنت سيد الدنيا.
هذا ما جسرت على قوله في موجز من اللفظ، وعندي أن القليل الذي أوردته هو رأي مكسيم.
مكسيم :
نعم! أسلم بأن أغسطس على حق في الاحتفاظ بالامبراطورية التي إنما رفعته إليها فضيلته ففتحها واحتازها احتيازا شرعيا بدمه والمجازفة برأسه. أما كونه لا يستطيع إلا بتسويد صفحته أن يتخلى عن العبء الذي ناء به عاتقه أو يتهم قيصر بالطغيان ويستصوب قتله فهذا ما أستنكره.
روما لك يا مولاي والامبراطورية مقتناك وكل حر التصرف فيما ملك، له الخيار أن يستبقي وأن يذر، أفتحرم، وأنت الامبراطور، ما يستطيعه عامة الناس؟ أو تصبح، وأنت الضابط لكل شيء، عبدا للعلياء التي سموت إليها؟ ...
إملك العظمة يا مولاي دون أن تملكك، وسدها ولا تدع لها سيادة عليك وأر الدنيا من أعلى ذراها أن جماع ما تشمل عليه دون قدرك.
انبتتك روماك فيما مضى وها أنت ذا تريد أن تهب لها كل قدرتك. غير أن سنا يغلو ويرى الذنب الأكبر فيما تجود به على البلد الذي ولدت فيه فيسمي حب الوطن دما. أتلحق إذن الفضيلة العليا وصمة بالمجد؟ فما أجدرها باحتقارنا إذا كان ثمنها العار ...
أشتهي المصارحة في هذا المقام بأن عملا منك هذا جماله وجلاله يعود على روما بأكثر مما نلت منها، ولكن أمن الجريمة التي لا تغتفر أن يكون الشكران فوق الإحسان؟..
اتبع يا مولاي، اتبع ما توحي به إليك الآلهة. فمجدك يتضاعف بقدر ما تطيب نفسك عن الامبراطورية، وذكرك عند الخلف يزكو بالتنحي عنها أكثر مما يزكو ببلوغها. إن التوفيق قد يؤدي إلى ذروة العلياء ولكن الزهد في تلك المكانة السامية يتطلب فضيلة هي كل الفضيلة. وقليل في الكرام من يربح الصولجان ثم يعف عن حلاوة الحكم ...
تدبر من جهة أخرى أنك تحكم، في روما. ومهما أطلقت عليك فيها بطانتك من الأسماء فالملكية ممقوتة، ولقب الامبرطور الذي يستتر وراءه لقب الملك لا يقل عنه مقتا.
كل سيد عند القوم طاغية، وكل خادم رقيق له وكل محب له خائن، وكل من يطيقه رعديد
4
فنخوب القلب مهيض الجانب، وكل وسيلة للخلاص من الطاغية فضيلة.
ولقد نهضت لك الأدلة الناصعة على صدق هذا يا مولاي إذ ائتمروا بك عشر مرات بلا جدوى. ولعله غير بعيد أن تنفجر الحادية عشرة، وأن يكون هذا الطائف
5
الذي ألم بك فأزعجك انذارا خفيا أرسلته اليك الآلهة. وما من وسيلة لها بعده في حفظ حياتك ...
لا تعرض نفسك بعد اليوم لهذه المحن الرائعة وإذا كان من المستحيل موت المرء وهو سيد العالم فأجمل الميتات لا تعصم من الوصمات ذكرى من يستطيع العيش والتزيد من المجد.
سنا :
إذا كان حب الوطن ينبغي أن يقدم هنا على كل ما عداه فنفع الوطن هو الأولى بأن نتوخاه. وتلك الحرية التي يجلونها إجلالا، ليست في عرف روما إلا زعما في غير مزعم، ضررها أكبر من نفعها. ولا تعود على البلاد من الخير والبركة بمثل ما يعود به عليها أمير صالح يوزع المناصب بالنظام والعقل ويعاقب أو يثيب
6
عن بصيرة وعدل، يتصرف بالحكمة في كل شيء تصرف المالك الشرعي ولا يتعجل في الأمور اتقاء خلف يعاجل به.
أما إذا ساد الشعب فلا عمل من غير تخبط. ولا نصفة هناك يرجع إليها فتباع الرتب بيعا لأشره القوم إليها. وتجعل أزمة السلطة في يد أشدهم فتنة. ويضل صغار الحكام الذين إنما يولون لعام واحد إذ يرون سلطتهم موقوتة بوقت صغير، فيضيعون ثمرات الأغراض الجليلة تفاديا من تركها لمن يأتي بعدهم. وإذ كان نصيبهم من الدنيا التي يصيبونها قليلا، فإنهم يمدون الأيدي إلى حقول الناس يحصدون منها ما طاب لهم، آمنين غضبة غاضب، واثقين بقرب المغفرة، لأن كلا يأمل أن يعامل يوما بمثل هذه المعاملة. فشر الحكومات حكومة الشعب.
أغسطس :
ولكنها وحدها هي التي تروق القوم في روما. فقد ارتضع أبناؤها بغض الملوك عن لبان أمهاتهم منذ خمسمائة سنة ويصعب انتزاع هذا البغض من قلوبهم بعد تأصله.
مكسيم :
نعم يا مولاي. إن روما ماضية في علتها، وشعبها يألف هذه العلة ويأبى البرء - ملاكه بيد العادة لا بيد العقل. وهذا الضلال القديم الذي يريد سنا محوه هو ضلال محمود المغبة فتن به القوم ويدين به سنا نفسه. هو الذي أخضع لروما العالم بأسره، ومشاها مئة مرة على هام الملوك، هو الذي أفعم خزائنها بالمجلوب من نهب الولايات فما عسى أن يسديه خير الأمراء إلى هذا الشعب وراء ما ذكرت؟
وأجرؤ أن أقول، يا مولاي، إن الحكومة لا تصيب حظا واحدا في جميع الأصقاع. فلكل شعب حكومة على وفق طبيعته لا يغيرها مغير إلا وهو في حكم الذي ألحق بها سبة ومعرة.
7
جرت سنة الله في العالم بالاختلاف والتباين لحكمة وعدل. فمكدونيا تحت الملكية، وسائر اليونان يحبون الحرية العامة، والفرتيون والفرس يرغبون في الحكام المطاعون. وما يصلح للرومان إلا حكومة القنصلية.
سنا :
حقا إن الله بحكمته الشاملة قد اختص كل شعب بمزية مختلفة. ولكن من الحق أيضا أن هذه السنة تتغير بتغير الزمان والمكان.
أخذت روما من الملوك منعتها وكيانها، ومن القناصل مجدها وسلطانها، وهى تتلقى الآن من مناقبك التي تفردت بها نهاية الرخاء وغاية الازدهار. ففي عهدك لم تبق الدولة نهبا للجيوش وقد اقفلت بيديك أبواب يانوس
8
ولم يقع هذا قبلك إلا مرتين: مرة في عهد القناصل ومرة في عهد الثاني من ملوك روما.
9
مكسيم :
وإن ما تحدثه الآلهة من تغيير في أحوال الدول لا يريق دما ولا يعقب سوءا.
سنا :
من أحكام الآلهة التي لا تبديل لها أننا نؤدي ثمنا غاليا لما يولونا من الخيرات. فنفي التركينيين خضب أرضنا بالدم، وقيام قناصلنا الأولين سامنا الحروب.
مكسيم :
إذن فجدك بومبيوس قد ناهض إرادة الآلهة عندما جاهد في سبيل حريتنا!
سنا :
لو أن الآلهة لم ترد أن تفقد روما حريتها لذادت عن هذه الحرية بيدي بومبيوس. ولكنها شاءت موته ليكون أثرا جليلا مؤبدا لذلك التغيير الخطير إذ كانت مدينة لروح ذلك العبقري بهذا المجد وهو أن تذهب بعد وفاته بحرية روما.
مضى على هذه المدينة ردح من الدهر واسم الحرية لم يبق منه إلا بريقه في عينيها. وإن عظمة روما نفسها لتحرمها التمتع بالحرية. فروما منذ رأت نفسها سيدة الخافقين، وغصت خزائنها بالأموال المجبية إليها، وأخرجت من أحشائها المتمخضة بوقعات الحروب أفرادا أقوى من الملوك فعالا ومجدا، أصبح كبراؤها يطلبون العلياء بشراء الأصوات في الانتخابات، ويباهون برشوتهم لساداتهم، فيمشي هؤلاء في الأصفاد الذهبية متلقين الأوامر ممن يظنون أنهم يصدرونها إليهم. وكلا الفريقين في تحاسد. تجري الأمور بينهما بالسعايات التي تحولها المطامع إلى عصابات فتاكة. فلهذه العلل غار سلا من ماريوس، وغار قيصر من جدي، وغار ماركوس انطونيوس منك. أفتنفع الحرية والحال كما ذكرت إلا في اذكاء لظى الحروب الأهلية عندما تقع الفوضى المقوضة لأركان العالم: فلا يريد هذا سيدا ولا يريد ذاك نظيرا؟
مولاي، لا بد، لإنقاذ روما، من اتحادها في قبضة رئيس صالح يطيعه الجميع، فإذا أردت تعزيزها فانتزع منها ذرائع الانقسام.
لم يتنح سلا عن المكانة التي غصبها إلا ليفتح المجال أمام قيصر وبومبيوس.
ولو أنه أقر سلطانه في أسرته لما أرتنا عوادي الأيام من المصائب ما أرتنا. ثم ماذا فعل الذي قتل أباه قيصر العظيم، سوى أنه أثار عليك انطوان باتفاقه مع لبيد، وهما لم يكونا ليدمرا روما بسواعد الرومان لو أن قيصر ترك الامبراطورية بين يديك..
إذا تركت هذه الامبراطورية عادت الرزايا التي لم تكد تتنفس منها الصعداء، وشبت فيها، يا مولاي، حرب جديدة تؤدي بما بقي فيها من ذماء.
ليهزك حب البلاد، ولتأخذك عليها الشفقة. إن روما جاثية تتضرع إليك بفمي، تدبر ما سمتها من غالي الثمن لتسنم منصبك. وما أعني أنها تستكثره عليك، فقد عوضت أكبر عوض عن الكوارث التي عانتها. ولكنها تخشى بحق أن تؤدي بك الغيرة على سعادتها مع النصب
10
من قيادتها، إلى أن ترد عليها وديعة لا تستطيع هي حفظها. فإذا كان لا بد لها من شراء سيد آخر، وتحتم أن تؤثر مصلحتك على مصلحتها. وأن تدخل اليأس على نفسها بهذه المحن المتعبة، فإنني لا أجسد على المصارحة هنا بما أجسر أن أتصوره من مستقبلها. فاحتفظ بنفسك، يا مولاي، واترك لها سيدها الذي بدأ طالع سعدها في الظهور على عهده. وزد لها في تحقيق الخير الشامل. فاختر لك وارثا جديرا بأن يخلفك.
أغسطس :
لقد جنحت إلى نصحك فحسبنا حوارا. ولئن تكن راحتي غاية ما أتمنى، لراحة روما أحب إلي. ومهما قدر أن ينزل بي من الخطوب الجسام فإني مطمئن إلى بذل النفس لإنقاذ روما.
لا مطمع لقلبي بعد اليوم في سكون البال وسأنتصح بنصحك يا سنا فأبقى على الامبراطورية. ولكنني احتفظ بها وأشركك في الأمر.
أرى جليا أن قلبيكما أخلصا لي الولاء وأن كليكما فيما أدلى به من رأي لم يرع إلا شأن الدولة وشأني. وحبكما لنا هو الذي أثار ما سمعت من حوار. وسأجزل لكل منكما العطاء.
مكسيم! جعلتك عاملي على صقلية فاذهب وصرف أحكامي في هذا الصقع الخصيب، واعلم أنك تتولاه من أجلي وأنني أتحمل تبعة ما تفعل.
وأنت يا سنا، أعطيك اميليا زوجا، ولست تجهل أنها عندي في منزلة جوليا.
11
فإذا كان نحس الطالع والضرورة القاهرة قد أحوجاني إلى القسوة في معاملة أبيها، فالآلاء التي أغدقتها عليها بعد ذلك لا بد أن تكون قد لطفت مرارة مصابها. فاذهب إليها من قبلي وجد في كسب رضاها فأنت لها كفء وسيسرها ما تعرضه عليها من أمنيتك. إنصرفا بخير وسأخبر ليفيا بالأمر.
المشهد الثاني
سنا، مكسيم
مكسيم :
ما مرامك بعد هذه الخطب الرنانة؟
سنا :
هو الذي كان وسيكون أبدا.
مكسيم :
رئيس مؤامرة يتملق الباغي.
سنا :
رئيس مؤامرة لا يريد أن يرى الطاغية بلا عقاب.
مكسيم :
أريد أن أرى روما حرة.
سنا :
وستتبين أنني أريد معك تحريرها والانتقام لها. أيرى أوكتافيوس إذن أن غليله قد ارتوى، وأنه مضى في النهب فلم يعف عن الهياكل، وأنه أزهق أرواحنا قربانا له، وأنه ملأ الأرجاء تفظيعا، وأفعم روما بأشلاء القتلى، ثم يحاول بعد ذلك التخلص من الجريمة بإظهاره شيئا من الندم! أإذا ما استمعت لنا الآلهة وهمت بالاقتصاص منه على يدنا يضمن له رأسه الجبن الذي دعاه إلى الإنابة؟ لشد ما يكون في أمثال هذا الترك من مغريات تحفز غيره إلى اقتفاء أثره في أمن من العقاب.
لننتقم لأبناء بلدنا، ولنجعل موته عبرة لمن تحدثه نفسه بالتاج بعده، ولنصن الشعب من التعرض لبغي البغاة بعد اليوم، فلو أنه عاقب سلا لفل من عزيمة قيصر.
مكسيم :
ولكن مقتل قيصر الذي رأيته عدلا قد اتخذه أغسطس حجة لمظالمه. انخدع بروتوس يوم أراد تحريرنا. ولو لم يقتص من قيصر ما تمادى أغسطس في جرأته.
سنا :
إن غلطة كاسيوس ومخاوفه المفرطة هي التي عادت بالدولة إلى معاناة البغي وأحكام الاستبداد، ولكننا لن نرى أمثال هذه الحوادث عندما تنقاد روما لزعماء من أهل البصيرة وصحة النظر.
مكسيم :
ما نزال بعدين عن أن نتبين هل يكون تصرفنا أحكم من تصرف أولئك الزعماء. على أنه ليس في شيء من سداد الرأي أن نأبى السعادة في أمن ونطلبها تحت خطر الموت.
سنا :
وأقل مما ذكرته سداد رأي توهمنا أننا نشفي العلة من غير أن نستأصل جرثومتها. فاستعمال اللطف في هذه المداواة إنما هو ترك الجرح يلتئم بعد إفراغ السم فيه.
مكسيم :
تريد الشفاء داميا وتجعله أمرا مريبا.
سنا :
وأنت تريده هينا وتجعله معرة؟
12
مكسيم :
ليس في الافتكاك من الأصفاد ما يحمر له المرء خجلا.
سنا :
ويكون الافتكاك جبنا إذا لم يكن بعمل توحيه البسالة.
مكسيم :
ما برحت الحرية على كل حال محبوبة. وهي لروما خير لا يقوم ...
سنا :
ربما لا يكون الخير ذا قيمة عند روما إذا صدر عن يد تعبت من ارهاقها الحرية أشرف قلبا من أن تفرح بأنها فضيلة يهيبها الباغي الطاغي بعد أن سامها الخسف
13
والامتهان، وكل من أدرك معنى المجد وأخلص النصرة له شديد المقت للمستبد فلا يقبل على هداياه وصلاته.
مكسيم :
إذن اميليا عندك شيء بغيض.
سنا :
أخذها من يد أغسطس عار علي. أما إذا انتقمت لروما وما عانت من آلام فإني اقتحم في طلبها حتى السعير.
14
أجل! وأنني متى أصبحت بعد مقتله جديرا بها، وضعت يدى الدامية في يدها، وتزوجت منها على رفاته. ولتكن هدايا الطاغية يومئذ ثمن هلاكه.
مكسيم :
ولكن، أيها الصديق، ما الذي يدلك على الفوز برضاها يوم تجيئها مخضبا بدم من هو عندها بمنزلة أبيها؟ لا أظنك من الرجال الذين يعمدون الى الإكراه.
سنا :
في هذا القصر، يا صديقي، قد يسترقون السمع، ولعلنا شططنا باسترسالنا في الحوار. والمكان لا يؤمن على سرنا فلنخرج لأتدبر معك أيسر الوسائل لبلوغ مأربنا.
الفصل الثالث
المشهد الأول
مكسيم، أوفورب
مكسيم :
لقد باح لي بكل شيء . كلاهما محب وحبيب. هو يهيم باميليا وهى هائمة به. ولكن لا مطمع له فيها إذا لم ينتقم لأبيها، فهو في سبيل الفوز بها ورطنا في الائتمار.
أوفورب :
إذن، فلا يدهشني هذا الجهد الذي يبذله في إكراه أغسطس على الاحتفاظ بالسلطان. ولو نزل قيصر عن أريكته لانحلت العصبة وانقلب المتآمرون أصدقاء له.
مكسيم :
إنهم لا يبقون ولا يذرون في خدمتهم شهوة رجل يعمل لنفسه وهو يوري
1
بالعمل لروما، وكان من مصابي المنقطع النظير أن أنخدع فأتوهم أنني أخدم روما وما أخدم إلا منافسي في هوى اميليا.
أوفورب :
أأنت منافسه في هواها؟
مكسيم :
نعم. أحب التي يحبها. وطالما بالغت في كتمان شغفي بها، رجاء أن أوفق إلى عمل مجيد أكسبها به قبل أن أبوح بغرامي المكنون، ولكني ما لبثت أن رأيته ينتزعها مني بيدي. ففي قضاء وطره بواري
2
وأنا معينه على هذا الوطر. أدني له الفوز وفيه حتفي، وأعيره ساعدي لينحرني به. فما أشد تلك الصداقة نقمة علي.
أوفروب :
المخرج ميسور: اعمل لنفسك وتحاش الضربة القاضية بترك ممالأته على مأربه، وباتهام منافسك لتربح عشيقتك. بذلك تنقذ حياة أغسطس، فلا يأبى عليك الزواج من اميليا.
مكسيم :
ماذا؟ أأخون صديقي؟
أوفورب :
الحب يبيح كل شيء. والعاشق الصادق لا يعرف له أصدقاء، بل من العدل أن يخان الخائن الذي يغدر بسيده في سبيل هواه. انس الصداقة كما نسي هو الحسنات.
مكسيم :
الاقتداء بالمجرمين يجب اجتنابه.
أوفورب :
كل عمل جائز في درء ذلك الغرض السيئ. وليس مجرما من يعاقب مجرما.
مكسيم :
جريمة تحصل بها روما على حريتها!
أوفورب :
خف كل شيء من نفس ملئت جبنا كتلك النفس - ليست مصلحة البلاد هي التي تحتثها - لا - ولا المجد هو الذي يذكي شجاعتها. إن هي إلا مصلحة سنا وما كان أثبته في الولاء لقيصر لو أنه لم يمسسه العشق. وبعد، فهو كفور بالنعمة، ليس من الكرم في شيء ...
أتخالك اطلعت على ما في قرارة نفسه؟
إنه أخفى عليك، وراء ستار القضية العامة، غرامه المتأجج. ففي وسعه أن يخفي أيضا وراء هذه الصبابة نيران مطامعه الخبيثة. ولربما حدثته نفسه، بعد موت أكتافيوس لا بتحرير روما، بل باستعبادها! ولا يبعد أن يكون قد احتسبك منذ الساعة أحد التبع أو أنه على هلاكك يبني صروح آماله.
مكسيم :
ولكن كيف أتهمه من غير أن أذكر الآخرين؟ إن المصيبة تحل يومئذ بالجميع فنغدر أقبح الغدر بأولئك الذين انضموا إلينا ولا أمنية لهم إلا الخير للوطن. هيهات أن أجد عونا من نفسي على مثل هذه الفعلة الدنيئة فيموت الأبرياء بجريرة واحد، إنني أجسر على إتيان كل أمر للإيقاع به ولكنني أخاف عليهم كل أمر.
أوفورب :
لقد تعب أغسطس من كثرة البطش، وسئم الفتك والتعذيب! فهو في مثل هذا الشأن إذا اقتص من الزعماء يعفو عن الشركاء، ثم إذا كنت لا تزال تخشى غضبه على الآخرين، فتكلم باسمهم جميعا ساعة ابلاغه الخبر.
مكسيم :
أرانا في حوار لا يجدي، فمن الجنون أن أرى في نكال
3
سنا ما يدني إلي اميليا، وليس مقتل من تحبه وتؤثره على غيره هو الذي يروق في عينيها الجميلتين: وأنا قليل الاعتقاد أن أغسطس يعطينها. فالذي أريده إنما هو استمالة قلبها لا احتياز شخصها. ولا سبيل إلى هذا بغير التحبب إليها. وهل أتحبب إليها بإساءات ثلاث أؤذيها بها: خيانتي لحبيبها، وتقضي ما أبرمت لانتقامها، وحقني الدم الذي تشتهي أن يراق؟
أي أمل يبقى لي بعد هذا في أن تصبو
4
إلي؟
أوفورب :
في الحق إني أرى الأمر جد عسير، ولكن المخادعة فيه قد تفيدك. فانظر في حيلة تجوز عليها، أو دع التدبير للزمن وهو خير مدبر.
مكسيم :
ولكن لو عمد سنا إلى تخفيف جرمه فذكر اميليا شريكته ولو حدث أن أغسطس عاقبها كما يعاقبه، فهل في وسعي أن أطلب إليه، جزاء على بلاغي أن يمنحني تلك الفتاة التي دفعتنا إلى الائتمار بحياته.
أوفورب :
لك أن تقيم في وجهي من شتات الصعاب ما لا يذلل إلا بمعجزات. ولكني على ذلك آمل بفضل الإمعان في التفكير ...
مكسيم :
إليك عني الآن، وسألحق بك عما قليل ... سنا قادم وأريد أن أستوفي منه شيئا يعينني فيما بعد على عمل أنويه.
المشهد الثاني
سنا، مكسيم
مكسيم :
أراك مفكرا.
سنا :
لا لغير سبب.
مكسيم :
هل لي أن أعرف ما يشغلك؟
سنا :
اميليا وقيصر كلاهما يرهقني. هذا بإفراطه في الإحسان إلي، وتلك بإفراطها في غلظة الكبد. ألا ليت الآلهة قدرت لقيصر أن يستزيد حبها له أو ينقص من حبه لي، وليت آلاءه
5
تقع من المليحة التي سبتني موقعها مني فتزيل حنقها كما أزالت حنقي. أشعر في قرارة قلبي بالندم اللذاع حين أتمثل كل حسناته تجاه عيني.
ذلك العطف التام الذي أجزيه عنه بالجحود يكاد في كل لحظة يقتلني أسفا. وإني لأتخيل على الدوام صورته وهو يضع في أيدينا سلطانه المطلق، ويستمع لمشورتنا ويطرئها ويقول: «سأستبقي الامبراطورية أخذا برأيك، يا سنا، ولكني لا أستبقيها إلا ولك حصة فيها» أفي صدر هذا الرجل أستطيع إغماد الخنجر؟
آه! لا! ولو.. ولكنني، وا أسفاه، أعبد اميليا، وقد أقسمت أيمانا مغلظة على مقته، فكراهتها له تبغضه إلي، وأراني من الناحيتين أسيء إلى مجدي وإلى الآلهة. فأنا مرتكب ما ينكره ديني، أو قاتل ولي نعمتي. إني في الحالين لغادر.
مكسيم :
لم يتبين فيك قبل الآن هذا التردد. وكنت ثابتا على ما انتويت ولم يكن في ضميرك من وخز ولا في نفسك من ندم.
سنا :
لا يحس المرء ذلك إلا عند اقتراب الساعة ولا تتضح له أمثال هذه الجرائم إلا إذا انبسطت يده للعمل. تكون النفس مأخوذة بغرضها فتتعلق على غير هدى بأول فكرة. ولكن إذا حقت الحاقة فأي عقل لا يضطرب، بل أي عقل لا يرزح. وأظن بروتوس نفسه، مهما قيل في تمداحه، قد أراد العدول غير مرة عما تصدى له، وأنه قبل أن يضرب ضربته قد ساوره من ألم الضمير ما ساور وخامره من الندم ما خامر.
مكسيم :
كانت اريحتيه أعظم من أن يتردد، ولم تهم يده بالكنود
6
وكان متحمسا في الإيقاع بالطاغية على قدر ما أصاب من خيره وجنى من ثمرات وده. ولما كنت تحذو حذوه فافعل فعله. واترك وخز الضمير لما هو أجل وأعظم. أليس الأجدر بك أن تلوم نفسك على تلك النصائح المشوبة بالجبن التي نصحت بها أغسطس اليوم، فحالت دون تجدد سعادتنا ببلوغنا الحرية؟ أنت وحدك انتزعتها منا اليوم. ولو امتدت بها قبلا يد قيصر لتقبلها بروتوس ولم يأبه لسبب خفيف من انتقام أو حب يرد به البلاد إلى الحرمان فلا تستمع لصوت طاغ يحبك ويريد أن يشركك في سلطانه الأعلى، ولكن استمع لروما تصيح بك: «اعد إلي، اعد إلي، يا سنا، ما فوتني إياه بنصحك لأغسطس! وإذا كنت منذ هنيهة قد آثرت علي عشيقتك فلا تؤثر علي الباغي الذي يظلمني».
سنا :
أيها الصديق لا تتماد في انحائك باللائمة على نفس شقية، تتناول بالجبن غرضا كريما. اعرف ذنبي إلى ابناء وطني. وعما قليل سأرد عليهم ما سلبتهم، ولكني افتقر للمودة القديمة، وهي على شفا
7
الزوال، ألا تموت من غير أن تحرك شفقتي.
واتركني، رحماك، انتظر اميليا مسترسلا ما شئت في كآبتي، إن كدري يشق عليك، ولكن الاضطراب الذي أخذ مني مأخذه يتطلب الخلوة، فهي التي تسكن ما يجيش بالصدر من أمثال هذه الأكدار.
مكسيم :
أراك تريد أن تتحدث إلى فاتنتك بكرم أوكتافيوس وبعجزك. وأن الحديث بين العشاق لا يكون إلا سرا، فالوداع وسأذهب وأكون أمينا كتوما.
المشهد الثالث
سنا وحده
سنا :
سم بأكرم مما سميت ذلك السلطان المجيد، سلطان النزعة الشريفة التي توحيها إلي الفضيلة، والتي يحول بها الشرف دون الضربة العاجلة يحفزني إليها جحودي وجبني، بل امض في تسميتها بالضعف لأنها نزعة تدفعه إلى نهاية الوهن
8
أمام العشيقة فتبقي على حب كان ينبغي أن تخمد جذوته،
9
ولا تجسر، إن هي كافحته، أن تتغلب عليه.
ليت شعري بأي رأي آخذ، وإلى أية ناحية أوجه عزيمتي؟ ما أشق الذلة على النفس الأبية!
كيفما كانت الثمرة التي أرجو جنيها من بهجة الحب، أو لذة الانتقام، أو مجد تحرير بلادي، فليست بكافية في إغرائي واستهوائي، والسبيل إليها هي الخيانة. فإذا كان لا بد، دون تلك الثمرة ، من طعن خاصرة أمير كريم، يعلي مقداري على رخص مقداري، ويوليني نهاية الفخر، ويسدي إلي سوابغ
10
النعم، ولا يرجع في حكمه وسلطانه إلى غير نصحي، فيا للإساءة! يا لخيانة لا يقترفها رجل! لتدم أبدا عبودية روما وليهلك هواي، وليمت أملي، ذلك خير من أن تقترف يدي هذه الجريمة النكراء!
كيف لا!! ألم يعرض علي كل ما اشتهيت مما حركتني الصبابة إلى شرائه بدمه؟ أفأقتله لأتمتع بعطيته؟ أفأسلبه ما يريد أن يهبني؟ ولكنني مقيد بك أيها القسم الجريء! يا لحقد اميليا! يا لذكرى أبيها! لقد رهنت لكما ضميري وقلبي وذراعي. فلست بمستطيع فكاكا إلا إذا حللتني من اليمين. عليك، يا اميليا، أن تدبري ما ينبغي أن أفعله، عليك أن تمنحي العفو لأغسطس.
إرادتك هي المسيطرة على مصيره. وهي التي تجعل في يدي حياته ومماته! أيتها الآلهة! خلقتها معبودة مثلك، فاجعليها مستجيبة لتوسلاتي كما تستجيبين، وأعينيني على إمالتها إلى رغبتي ما دمت لا أستطيع الخلاص من سلطانها.
أراها مقبلة، هذه المحبوبة التي لا ترحم.
المشهد الرابع
اميليا، سنا، فلفيا
اميليا :
حمدا للآلهة، يا سنا، كان خوفي لغير ما موجب إذ لم يخنك أحد من أصدقائك، ولم يكن في الأمر ما يدعو إلى وساطتي في شأنك. لقد قص أكتافيوس الخبر على ليفيا في حضرتي فرد به علي روحي.
سنا :
أتستنكرين ما جرى؟ وهل ترين أن تؤخري عني التمتع بالعطية التي جاد بها علي؟
اميليا :
الأمر في يدك.
سنا :
بل في يدك أنت.
اميليا :
أنا على عهدي، وقلبي هو قلبي، وليس الجود بي على سنا بجود، بل هو تقدمة ماله إليه.
سنا :
في طاقتك مع ذلك ... يا للآلهة ... أأجسر على القول؟
اميليا :
ما الذي في طاقتي؟ وماذا تخشى؟
سنا :
إنني أرتجف وأتنفس الصعداء. وأرى أنه لو كانت لقلبينا رغبة واحدة لم تكن بي حاجة إلى ذكر السبب في زفراتي، أجدني عن يقين مخطئا رضاك، فلا أجسر على القول، ولا أصبر على السكوت.
اميليا :
لقد أثرت بي الشجون، فتكلم!
سنا :
طاعتك واجبة. سأتكلم. وإذن سأنطق بما لا يحظيني عندك، وسأبوء
11
منك بالمقت. إنني أحبك، يا اميليا. ولتصعقني السماء إذا لم يكن في هذا الحب كل ما أصبو إليه من مسرات العيش، وإذا لم يكن هواي من التأجج بحيث يبلغ نهاية ما يرجوه محبوب كريم من قلب عظيم. ولكن تبيني بأي ثمن تهبين لي فؤادك ... فإنك من حيث تريدين لي السعادة تلبسيني ثوب العار ... إن إحسان أغسطس ...
اميليا :
كفى، كفى! ... فهمت مرادك. تبينت ندمك وأمانيك المضطربة، وأرى أن آلاء الطاغية قد أنستك وعودك، فخمدت نيرانك، ووهت أقسامك لدى ملاطفاته، واجترأ عقلك في سذاجته أن يتصور أغسطس، وهو القادر على كل شيء، قادرا أيضا على إعطائك إياي. فأنت تطلبني من يده لا من نفسي، ولكن لا يدر في خلدك أنني أكون بذلك ملك يمينك.
قد يستطيع أغسطس أن يزلزل الأرض تحت قدميه وأن يخلع ملكا عن عرشه، واهبا بلاده لغيره، وأن يخضب وجه البر والبحر بدماء المغضوب عليهم، وأن يغير نظام الدنيا على ما يشتهي، أما قلب اميليا فما له عليه من سلطان!
سنا :
لهذا لا أطلب هذا القلب إلا إليك، ولا أريده إلا منك. إنني عند ظنك بوفائي، وضميري طاهر كما تعلمين، والشفقة التي أشعر بها لا تجعلني ناكثا بالعهد، حانثا باليمين. فلقد أخلصت الطاعة لك في كل ما تجنحين إليه وعقدت العزم على قضاء مأربك بما يجاوز الأيمان التي أقسمتها. ولقد كان في مقدرتي، كما تدرين، من غير حنث ولا إجرام أن أفوت عليك تلك الضحية العظيمة: إذ لو أن قيصر تخلى عن السلطان لأفسد علينا كل حجة نحتج بها لقتله، ولانتقضت المؤامرة، ولأخفقت مطالبك وطاش سهم حقدك. ولكني وحدي أذهبت عن نفسه الروع، وأقنعته بالبقاء على الملك وتوجته بيدي لأقدمه لك قربانا.
اميليا :
لتقدمه لي قربانا، أيها الخائن، وتريد أن أكون أنا التي أرد يدك عنه، وأن يعيش إذن، وأن أحبه، وأن أكون الغنيمة لمن أبقى عليه، والثمن للنصح الذي أمسك به في الحكم.
سنا :
لا تسرفي في اتهامي بعدما قدمت من خدمتك، فلولاي ما بقى لك من سلطان على حياته. ومع إحسانه إلي قد وكلت مصيره إلى ما يقضي به الحب. فإما أجهزت عليه وإما مننت عليه بالبقاء، وما دمت قد وفيت بنذوري الأولى في طاعتك، فاعرفي لي هذاالصنيع بعض الشيء، واسمحي لي أن أزيل عنك سخطا غير جدير بك، واعطفك عليه مثل عطفه عليك.
إن النفس الكريمة التي تهتدي بهدى الفضيلة تفر من عار الكنود والخيانة، وتمقت الغدر، ولو أنال السعادة، ولا ترضى بخير الدنيا إذا كان جزاؤه بذل الشرف.
اميليا :
ولكنني أرى في هذا العار مجدا لي. ما أنبل الغدر إذا رمي به الطاغي! ومتى أريد انقاذ قوم من عثرات الجد التاعس كان أشد القلوب كنودا أعظمها كرما.
سنا :
تحدثين من الفضائل ما يشاء لك الحقد!
اميليا :
أخلق من الفضائل ما هو خليق بالمرأة الرومانية.
سنا :
إن القلب الروماني الأصيل ...
اميليا :
هو الذي يجترئ على كل شيء في اختطاف حياة مرذولة تستعبده. وإنه ليفر من عار العبودية فراره من الموت أو أكثر.
سنا :
العبودية مع أوكتافيوس عبودية مشرفة. ولطالما رأينا ملوكا جاثين لدينا يلتمسون مثل عبوديتنا للاعتزاز بها والاستظهار - فأوكتافيوس قد خفض لنا كبرياء تيجانهم، وأدان لسيادتنا عزة سلطانهم، وأخذ منهم الإتاوات
12
التي تغنينا، وخلع عليهم النير الذي خلعه عنا.
اميليا :
إن الطمع المزري الذي خامر نفسك قد خدعها إذ أوهمها أنك لم تصبح شيئا مذكورا إلا بعد أن أنزلت منزلة أكبر من منزلة هؤلاء الملوك.
تعلم أن ليس في طرفي الأرض من يستطيع أن يزعم أنه عدل للوطني الروماني.
لقد جر انطونيوس على نفسه أحقادنا وأضغاننا حين تدنس بحب ملكة. وذاك أتال الملك العظيم الذي شاب في الارجوان، كان لقبه معتق الشعب الروماني. فلما دانت آسيا بأسرها لحكمه المطلق، كان أقل اعتزازا بعرشه منه بلقب الروماني.
اذكر، يا سنا، محتدك
13
وصن شرفه، وخذ عن الروماني الكرم، واعلم أن الآلهة لم تخلق غيره ليسود ويعيش غير مسود.
سنا :
طالما أرتنا الآلهة في أمثال هذه المؤامرات أنها تسخط على القتلة، وتعاقب كل كنود، وأنها إذا رفعت عرشا لم تبال كيد الكائدين له وانتقمت ممن تسقطه، وأنها أبدا في جانب الذين آتتهم الملك. فالضربة التي يقتلون بها يطول معها أمد انتزاف الدم. وإذا صح عزمها على أخذهم بجرائرهم لم تعاقبهم بأيدينا، بل أرسلت عليهم الصواعق.
اميليا :
قل إنك أنت أيضا تنزع إلى جانبهم، وأنك تكل إلى الصاعقة عقاب الطغاة ... لن أخاطبك في شيء من هذا. اذهب واخدم الطاغية، ونط زمام نفسك بنزعاته الواهية وهديء بالك المتردد بنسيانك النبعة التي جئت منها، والجائزة التي كنت ترجوها. سأعرف كيف أنتقم لبلدي ووالدي وإني غير مستعيرة يدك للأخذ بثأري.
ولعمري لكان لي فخر قتله من زمن مضى لو أن الحب لم يمسك بذراعي إلى الساعة. فالحب هو الذي استعبدني وجعلني أعنى بحياتي في سبيلك، كنت أستطيع ان أهاجم الطاغية وحدي، فأودي به ويودي بي احراسه، ولكنني لو فعلت لحرمتك يومئذ أسيرة ائتمرت بأمر هواك وعاشت من أجلك وحدك.
على أنني أردت الاحتفاظ بنفسي لك، وتهيئة السبب لجعلك جديرا بي. فلم يجدني الأمران فتيلا. إعفي عني، أيتها الآلهة العظيمة، إذا كنت قد خدعت بتوهمي أنني أهوى حفيدا لبومبيوس، وإذا غرتني الظواهر الخلابة ووقع اختياري على عبد مكانه، ولكنني أحبك كيف كنت. وإذا ما سمتك، دون وصالي، أن تخون مولاك، فألف غيرك لو استطاعوا بهذا الثمن أن يحظوا حظوتك عندي لتنافسوا في قبول شرطي. ولكن اطمئن فلا سبيل لغيرك إلي. عش أنت لطاغيتك المحبب ولأمت أنا لك. سأعجل عليه وأجلي مرتهن بأجله.
ولما كان جبنك لم يجعلك أهلا لي فتعال يومئذ وانظرني غريقة في دمه ودمي، أموت ولا يصحبني إلا فضيلتي، وأقول لك عند احتضاري في نفس راضية: «لا تتهم سوء طالعي لأنك أنت مسببه» ثم أنزل القبر الذي قضيت علي به يتبعني المجد الذي كان معدا لك. أموت وقد هدمت صرح السلطان المطلق وكنت أعيش لك لو أنك أردت لي العيش!
سنا :
أما وهذه إرادتك، فلا بد من إرضائك. لا بد من تحرير روما، ولا بد من الثأر للأب، ولا بد من ضرب الطاغي ضربات عادلة. ولكن اعلمي أن أغسطس أقل منك استبدادا.
إذا كان قد انتزع منا ما شاء من أملاكنا وأرواحنا ونسائنا، فإنه لم يبغ إلى اليوم على أرواحنا.
أما الجبروت الذي تتبسط فيه محاسنك بلا رحمة، فلا مرد لحكمه حتى في الألباب وحتى في المشيئات.
تسومينني طيب النفس بما يسلبني الشرف، وتبغضين إلي ما يدين به ضميري، وتحملينني على إراقة دم حقيق أن أفديه بدمي ألف ألف مرة ... ذلك مرادك. فلبيك سأعمد إلى تحقيقه لساعتي إيفاء لما تقدم به وعدي. غير أن يدي سترتد إلى صدري بالخنجر فتقتل حبيبك قربانا لرفات ذلك الأمير الكريم، وكفارة عن جريمتي التي سأقترفها بكرهي وبهذين العملين المتصلين سأستعيد شرفي منذ أفقده! الوداع! ...
المشهد الخامس
اميليا، فلفيا
فلفيا :
لقد ألقيت بنفسه في اليأس!
اميليا :
ليخل من حبي، وليمض إلى واجبه!
فلفيا :
سيطيعك ببذل حياته. أراك تبكين!
اميليا :
وا أسفاه! أسرعي وراءه يا فلفيا، وإن كنت لي مسعفة، أيتها الحبيبة، فانتزعي منه العزم على قتل نفسه ... قولي له ...
فلفيا :
أقول له أنك تعفين عن حياة أغسطس كرامة له؟
اميليا :
آه تحكمين على ضغينتي حكما جد ظالم!
فلفيا :
وماذا أقول إذن؟
اميليا :
قولي له أن ينجز ويبرئ ذمته. وليختر بعد ذلك بين الموت وبيني.
الفصل الرابع
المشهد الأول
أغسطس، أوفورب، بوليكليتس، احراس
أغسطس :
كل ما قلته لي، يا أوفورب، يصعب تصديقه.
أوفورب :
إن القصة نفسها، يا مولاي، مروعة، فلا يكاد العقل يتصور مثل هذه الحماقة. ولمجرد التفكير فيها يرعد النفس استنكارا.
أغسطس :
ماذا! أحب الأصدقاء إلي ماذا! سنا؟
ماذا! ... مكسيم؟.. الاثنان اللذان شرفتهما بعطف سام وفتحت لهما قلبي واخترتهما لأهم المناصب وأنبلها؟
أبعد أن أضع في أيديهما سلطاني، يأتمر كلاهما بي لقتلي. أدرك مكسيم خطأه فأوفد إلي من ينبهني وكشف عن قلب متأثر بالندم الصحيح. ولكن سنا! ...
أوفورب :
سنا وحده متشبث بعتوه، متمرد على إحسانك، وهو وحده الذي ما زال يقاوم فعل الندم العادل في قلوب المؤتمرين، فيجد في تثبيث عزائمهم المزعزعة على ما يختلط فيها من خوف وأسف.
أغسطس :
هو وحده يشجعهم وهو وحده يغريهم!
يا لأغدر من أقلت
1
الأرض! يا لخيانة دبرت في جوف زبانية
2
نارية، يا للضربة الأليمة من يد محبوبة!
خنتني يا سنا!
اسمع يا بوليكليتس (يسر إليه كلاما في أذنه) .
بوليكليتس :
أوامرك، يا مولاي، ستنفذ كلها.
أغسطس :
وليذهب إيراست أيضا فيحضر مكسيم لينال العفو عن ذنبه.
أوفورب :
رأى، يا مولاي، جرمه عظيما فأبى إلا الاقتصاص من نفسه، وعاد من القصر زائغ العين، وحشي النظرة، ملئ الصدر بالزفرات، يمقت الحياة ويستقبح تلك المؤامرة المذمومة التي أفضى إلي بجلية أمرها كما أخبرتك بها، وأوصاني بأن أحذرك شرها ثم قال: «إني أقضي بنفسي على نفسي، فلست أجهل ما أستحق». وعلى أثر قوله هذا وثب فجأة إلى نهر التبر فحال الماء الغزير المتدفع، وسواد الليل بيني وبين معرفة الخاتمة من فاجعته.
أغسطس :
هلك المسكين بما اشتد عليه من وخز الضمير. وتوارى عن عفوي، ما من ذنب إلي لا يمحوه الاستغفار. فأما وقد زهد في مغفرتي، فاذهب واقض ما بقي، واجعلهم يعنون بحفظ هذا الشاهد الصادق في مكان أمين.
المشهد الثاني
أغسطس :
أيتها الآلهة! من ترين بعد اليوم أستودعه أسرار نفسي. وأكل إليه العناية بحياتي؟ خذي السلطان الذي منحتنيه إذا كان يعطيني رعايا ويحرمني الأصدقاء. استرديه إذا كان حظ من يلي ذلك السؤدد الأعلى أن تكافأ حسناته بالأحقاد والأضغان، وإذا كان قضاؤك الشديد يجري على الملوك بأن يحبوا الذين تدفعين بهم إلى إهلاكهم؟ من قدر على كل شيء وجب عليه أن يحذر كل شيء.
ثب إلى نفسك يا أوكتافيوس وكف عن الشكوى. ما هذا؟ أتريد أن يستبقوك وأنت لم تبق على أحد؟ تذكر أنهار الدم التي غمست فيها ذراعك: فكم احمرت بها ساحات مكدونيا، وكم تدفق منها في هزيمة انطونيوس!
وكم انهمر في هزيمة سكتوس! ثم عد بنظر الفكر إلى مدينة بيروزة غارقة في مهج أبنائها جميعا، ولا تنس المجازر الأخر المتعددة. وما عقبت به عليها أحكامك الجائرة من الصور الدامية ! إذ تكون أنت فيها جلاد أهلك فتغمد المدية في صدر الوصي عليك، وبعد كل ما قدمت تجرؤ على اتهام القدر بالظلم عندما ترى الأقربين إليك يهيئون السلاح ليقتصوا منك حاذين حذوك في العمل على بوارك، منتهكين حرمة الحقوق التي لم ترعها أنت من قبل. لخيانتهم عدل والسماء قد أذنت بها. خل عن عليائك بمثل ما أخذتها وأردد دمك الغادر إلى الغدر، وتلق ضيم أهل الكنود بعد أن كنت كنودا. ولكن أتند
3
عني سلامة الرأي وأنا أحوج ما أكون إليها.
أي سنا!.. ما تلك الثورة الحمقاء التي تضعني موضع الاتهام وتغتفر لك وزرك، وأنت الذي اضطررتني بخيانتك إلى استبقاء الحكم لتعاقبني عليه وتعاملني معاملة مجرم، على أن الذنب لك. تقيم من التداعي عرشا غير شرعي، لتعود فتحطمه، وتبدي غيرة وقحة تستر بها جريرتك، فتحول دون سلامة الدولة لقضاء مأربك، وإن هو إلا هلاكى.
هل يسعنى إرغام نفسي على نسيان كل هذا؟ أأتركك تعيش في راحة بعد أن أخفتني؟ كلا. كلا! خيانة مني لنفسي أن أفكر في هذا. والمتسامح في العفو إنما يحرص على نفسه، فلأعاقبن القاتل ولأنزلن البلاء في شركائه! ولكن ماذا؟ أدم في كل يوم؟ أقصاص في اثر قصاص؟ لقد تعبت قسوتي، وليست تستطيع الوقوف عند حد!
اعمل على أن يخشوني، فلا أصل إلا إلى استفزازهم. إن في روما لثعبانا كثير الذراري يلتمس حتفي: فمن الرأس الذي يقطع ينبت ألف رأس. وإراقة دماء ألف من المؤتمرين تزيد أيامي لعنة ولا تزيدني تمكينا.
يا أوكتافيوس! لا تنتظر بعد اليوم طعنة من بروتوس جديد. مت واختلس منه مجد إسقاطك ... مت ... فما تبذل للعيش إلا جهدا عقيما يعتوره الجبن، ما دام جم غفير من سراة القلوب يتمنون موتك، وما دام جميع من حوت روما من شباب نبلاء يعملون فوجا بعد فوج على ثبورك،
4
مت ما دامت علتك تأبى الشفاء، ثم مت ما دام محتوما أن تفقد كل شيء وأن تموت.
إن الحياة يسير أمرها، والقليل الذي بقي لك منها لا يساوي أن تؤدي فيه ثمنا جد مشؤوم.
مت ولكن لا يكن تركك الحياة بغير رواء ساطع.
اطفئ مشعلها في دم الكنود! واذبح قربانا لنفسك الذاهبة هذا الخائن! جعل وطره قتل ولي نعمته، فلا تقض له وطرا
5
إلا حين تذيقه نكال جرمه، فلنمت معا. ولأورثه حسرة أن يرى مصرعي ولا يتمتع به.
بل لنتمتع نحن بقتله، وإذا أبغضتنا روما فلننتصر على بغضائها.
أيها الرومانيون! أيها الانتقام! أيها السلطان المطلق! أيها العراك الشديد، في قلب مبلبل لا يفتأ ينقض ما يبرم، أشيروا على الأمير الشقي بشيء ... أي السبيلين أتبع وأيهما أتجنب؟ دعوني أهلك أو دعوني أملك.
المشهد الثالث
أغسطس، ليفيا
أغسطس :
خانوني، يا سيدتي، واليد التي شرعت لقتلي ذكت صبري تحت أثقال الغموم. سنا، سنا الخائن! ...
ليفيا :
أنبأني أوفورب بكل شيء، فعلاني الاصفرار مائة مرة، يا مولاي، من سوء ما سمعت. ولكن أتصغي لنصيحة امرأة؟
أغسطس :
وا أسفاه! أي نصح أستطيع أن أنتصح به الآن؟
ليفيا :
لم تعقب قسوتك إلى الآن، يا مولاي، ثمرة ما. ولكنها أحدثت كثيرا من الضجيج. وما من أحد يرتدع لما حل بغيره من المثلات. إن سالفيديانوس بنكبته أثار لبيدس وأعقبه مورينا ثم جرى مجراه شيبيو ولم يحدث يومهما الأغبر خوفا يفل من عزب
6
اينياس في غضبه. واينياس قد حل محل سنا اليوم.
وصارت الحال إلى أن النكرات التي هي في أحط الطبقات اشرأبت إلى تشريف أسمائها بأمثال هذه المرامي العظيمة. فجرب إذن في سنا ما يستطيعه الحلم بعد إذ لم يجدك ما أنزلته بأولئك الأوقاح من قصاص.
إجعل عقابه في خجله واستخزائه، ولذ بأنفع الأمور في مثل هذا الموقف، فقد يحفظ قصاصه هذا البلد الثائر، وقد يخدم شهرتك العفو عنه فيرتد الذين تجرح صدورهم شدتك إلى التأثر بجودتك وسماحتك.
أغسطس :
لنملك قلوبهم كافة بترك هذه الامبراطورية التي جعلتنا مرذولين يؤتمر بنا. كثر ما استشرت في هذا الترك أخذا بآرائك، فلا تكلميني فيه بعد، فقد مللت ولن أستشير أحدا. كفى عن الزفرات يا روما ابتغاء حريتك، سأحطم بيدي الأصفاد التي كبلتك بها، وأرد عليك الدولة بعد أن احتزتها، أهدأ بالا وأعظم شأنا منها يوم أخذتها، فإذا أردت السخط علي فاسخطي منذ الساعة بغير رياء، وإذا أحببتني فأحبيني بلا خوف. سئمت السطوة كما سئمها سلا، فمطمعي سعادته بعد ما أحرز من قوة وشرف.
ليفيا :
لطالما أغراك مثل سلا. ولكن احذر أن تلقى غير ما لقيه. فالسعادة الفذة التي حاطت حياته، لو تكررت وسهل على كل واحد نيلها، ما كانت سعادة.
أغسطس :
لئن كان سلا يسموني بما لا مطمع لي في إدراكه، ولئن كنت على غير هدى في التطلع إلى الفوز بما فاز به، لإباحة دمي لمن يريد أن يريقه هي الرأي. بعد طول العاصفة، يجب اللياذ بمرفإ، ولست أرى غير مأمنين ... الراحة أو الموت.
ليفيا :
ما خطبك؟ أتصدف عن ثمرة تلك الفعال الجسام؟
أغسطس :
وما بك؟ أتريدين الاحتفاظ بما يثير علي كل تلك الأضغان؟
ليفيا :
لقد شططت يا مولاي إلى الحد الأقصى، وهذا يأس لا كرم.
أغسطس :
إن ملكا يضطر صاحبه إلى ملاطفة اليد الخائنة لمظهر من مظاهر الضعف لا من مظاهر الفضيلة.
ليفيا :
بل هو تملك منك لنفسك، وبه يتسنى لك، عن خيار، أن تمارس من الفضيلة ما هو جدير بالملوك.
أغسطس :
وعدتني بنصائح امرأة، وصدقت وعدك، يا سيدتي، بما أدليت به. إنني، بعد أن صرعت كثيرا من أعدائي، وبعد عشرين من السنين في الحكم، لا أجهل مكامن القوى منه، وأعلم، في مثل حالتنا، ما واجبات الأمير بمختلف نظمها. التآمر يجرح الشعب، ومجرد التفكير فيه جريمة في حق الدولة وإهانة للمملكة بأسرها. فإما أن ينتقم لها الأمير، وإما أن يترك الإمارة.
ليفيا :
لا تثق كل الثقة بما تمنيك شهوتك.
أغسطس :
أقلي أنت من الضعف أو من الطمع.
ليفيا :
لا تجابه بمثل هذا السوء حسن النصيحة.
أغسطس :
السماء توحي إلي ما ينبغي أن أفعل. الوداع! إننا نضيع الوقت.
ليفيا :
لست أتركك، أو يبلغ حبي منك، يا مولاي، ما أشير به عليك.
أغسطس :
حب العظمة هو الذي يدعوك إلى اللجاجة.
ليفيا :
أنا أحب شخصك لا مكانتك. (على انفراد)
يريد أن يفلت، فلأتبعه ولأمكن من نفسه الإقتناع بأن العفو يؤيد سلطانه وبأن السماحة أجمل مزية في العالمين يمتاز بها الملك الأصيل.
المشهد الرابع
اميليا، فلفيا
اميليا :
من أين جاءني هذا الفرج؟ وما لي أراني، بغير اختياري، أتذوق الراحة كلها في غير أوانها؟ طلب قيصر سنا. فلم يصعد قلبي الزفرات، ولم تجد عيني بالعبرات، كإنما هجس في خاطري هاجس، إن الأمور ستجري على ما يرضيني. أمن هاجسي سمعت هذا القول يا ترى أم منك يا فلفيا.
فلفيا :
لقد استوثقت منه بأن يستمسك بحياته، وأردت المجئ به إليك ألين عريكة وأسلس مقادة، ليبذل جهدا آخر في تسكين غضبك، فبينا أهنئ نفسي إذ وفد بوليكليتس الذي تعرفين إنه ترجمان أغسطس، وفد بلا تبع ولا ضجة، واستصحبه توا إلى القصر.
زعموا أن أغسطس في اضطراب عظيم لم يعرف أحد سببه، واختلفت التأويلات في هذا الشأن. ولكنها اتفقت على أن أمرا عظيما أهمه، وأنه استدعى سنا ليستشيره فيه. ولكن الذي حرت في معرفته هو أن رجلين مجهولين قبضا على ايفاندر، وأن أوفورب أيضا قد احتجز ولم يعرف أحد السبب، ولغطوا في سيده بما لم أدره فعزوا إليه اليأس الشديد، وذكروا الماء ونهر التبر وأمسكوا عن البقية.
اميليا :
ما أكثر بواعث الخشية ودواعي اليأس! على أن قلبي الحزين يأبى بث ما به، وكأن الآلهة، كلما طرأ أمر، تبعث فيه شعورا مخالفا لما ينبغي أن يشعر به. لقد أخذتنى منذ حين رهبة موهومة، والآن أجدني غير آبهة لها، وحقي أن أشفق منها.
طوعا لك أيتها الآلهة العليا! نعمك التي أحمدها لا ترضى لي بخدش الشرف، وقد أكرمتني عن التأوه والتنهد والاستعبار، لتشدي أزر فضيلتي في قراع المصائب. تريدين لي أن أموت على شجاعتي الكبرى التي دفعت بي إلى ذلك المطلب العظيم، وسأموت مذعنة لما أردت، وفي الموقف الذي جعلتني فيه.
يا حرية روما! يا روح أبي! لقد قمت، من جهتي، بكل ما أستطيعه. فألبت على الطاغية أصدقاءه، واجترأت في سبيلكما على أكثر مما هو من شأني. فإذا فاتني الغرض لم ينتقص فوته مجدي. وإذا لم أحظ بالانتقام لكما لحقت بكما، ومت يسطع من جوانبي دخان الغضب العادل المتقد، ميتة نبيلة جديرة بكما وبدم الأبطال العظام الذين أنبتوني.
المشهد الخامس
مكسيم، اميليا، فلفيا
اميليا :
هذا أنت يا مكسيم، وقد قالوا إنك مت؟
مكسيم :
خدع أوفورب أغسطس بهذا النبإ الكاذب، إذ رأى نفسه مقبوضا عليه، وقد انكشف سر المؤامرة. فلفق نبأ هلاكي ليقيني الهلاك.
اميليا :
وماذا يقولون عن سنا؟
مكسيم :
إنه أسف شديد الأسف عندما رأى أن قيصر على علم بكل شيء، فحاول الإنكار والتنصل من معرفته، فلم يجده، لأن ايفاندر كان قد باح بكل شيء، ملتمسا بذلك المعذرة لسيده. وبأمر من أغسطس جاؤوا للقبض عليك.
اميليا :
إن من تلقى الأمر قد أبطأ في انفاذه. أنا متأهبة لاتباعه عادمة الصبر في انتظاره.
مكسيم :
هو في انتظارك عندي.
اميليا :
عندك؟
مكسيم :
تستغربين الأمر، ولكن اعلمي أن الآلهة راضية عنك، فالذي ينتظرك هو أحد المتآمرين وسيفر معنا. فلنبادر قبل أن يتعقبونا. وعلى الشاطئ سفينة مهيأة لسفرنا.
اميليا :
أتعرفني يا مكسيم؟ أتدري من أنا؟
مكسيم :
افعل في مصلحة سنا ما أستطيعه، وأحاول في هذا المصاب الجلل أن أنقذ أجمل شطر تخلف منه. فلننج يا اميليا ولنبق على حياتنا، حتى إذا ما عاد إلينا الخطر انتقمنا له.
اميليا :
سنا في مصابه من أولئك الذين يجب اتباعهم على الأثر، والذين لا يثأر لهم خوف استطالة الحياة بعدهم، فمن تسول له نفسه الفرار بعد سنا ليس جديرا بالحياة التي يجد في حفظها.
مكسيم :
أي يأس أعمى يحملك على هذه الحماقات؟ يا للآلهة من فرط الضعف في هذه النفس القوية.
إن هذا القلب الكريم لتهي عزيمته دون الكفاح فيستسلم عند أول عثرة.
إستعيدي، إستعيدي تلك الفضيلة السامية أو افتحي عينيك واعرفي مكسيم، إنك لترين فيه سنا الثاني وقد ردت الآلهة به عليك الحبيب الذي فقدته، وإذ إن المودة لم تجعل منهما إلا نفسا واحدة، فأحبي في هذا الودود ذلك الذي كنت تحبين، إنه لكفيل بأن يهواك مثل هواه ...
اميليا :
أتجترئ على حبي ولا تجترئ على الموت؟ لقد شططت في دعواك! ومهما يكن من هذه الدعوى، فلا أقل من أن تجعل نفسك أهلا لمن تطلب. أكفف عن فرار كفرار الجبان من موت مجيد، أو عن تقديم قلب لي نزلت به إلى حضيض التسفل.
إفعل ما يغصب إعجابي بفضيلتك التامة، فإن لم أستطع حبك أسيت عليك! أظهر من الروماني الأصيل آخر بأسه، واربح عبراتي إذا عداك قلبي.
يا عجبا! أتظن أن محبتك لسنا واهتمامك بأمره ينحصران في تملق عشيقته؟
تعلم، تعلم مني الواجب في مثل ما نحن فيه، وأورد لي المثل أو أقبل فخذه عني.
مكسيم :
إن ألمك الصادق لجد شديد.
اميليا :
وإن ألمك لمملوء بلطف الحيلة لما تشتهي. كنت تكلمني الساعة في رجعة للأيام سعيدة، وتشره إلى الحب في فورة أحزانك.
مكسيم :
هذا الحب أمره عجب! فما يكاد يولد حتى يبلغ أشده، وإنما أحب فيك حبيبك وصديقي وبالقوة نفسها التي كانت مشبوبة فيه للغرام.
اميليا :
مكسيم! لقد عدوت في حديثك ما لا يعدوه الرجل الحصيف، أدهشني النذير بهلاكي ولكنه لم يذهب بلبي. كما أن يأسي النبيل لم يعمني. ففضيلتي بجماع قواها تفعل فعلها غير تاركة للجزع مأخذا عليها، وبكرهي أن أرى أكثر مما كنت أريد رؤيته.
مكسيم :
ترين ماذا؟ هل اشتبهت في غدر مني؟
اميليا :
نعم، أنت غادر. أقولها وأنت أردت أن أقولها، إن أمر فرارنا مدبر تدبيرا، أظهر من أن لا يعلق به الريب ولا يشتق منه جبنك.
لقد كانت معجزات الآلهة تتكاثر علينا، لو أزالت العقبات التي تعوقه ولم تنط بك شيئا من أسباب إزالتها، أهرب دوني فغرامك هنا ليس إلا فضولا.
مكسيم :
آه! لقد أسرفت لي في القول.
اميليا :
وما أضمره أبلغ! لا تخش أن أنهال عليك باللواذع المهينة، ولكن لا تظن أنك تموه علي الأباطيل وتحملني على الحنث فإن يكن حقا أن اشتباهي فيك يشق عليك، فتعال مت معى لتبرئ نفسك.
مكسيم :
عيشي، يا اميليا الجميلة، وائذني لعبد ...
اميليا :
لن أستمع لك إلا في حضرة أوكتافيوس. هلمي يا فلفيا هلمي!
المشهد السادس
مكسيم :
يائس، متخبط، جدير بأشد من هذا الاطراح القاسي لو كان مستطاعا. فماذا تفعل يا مكسيم؟ أو ما هو القصاص الذي تعده فضيلتك لريائك الذي لم يثمر؟ لا غرور ولا اغترار بعد الآن.
اميليا، في موتها، ستفضح كل شيء، ومن المقصلة
7
التي تفيض عليها روحها سيطل مجدها وإلى جانبه عارك. وسيترك موتها للخلف أسوأ أحدوثة عن مكرك وغدرك. فقد جمعت في يوم واحد، عداك فيه الصواب، خياناتك لملكك، وصديقك، وهواك! وانتهكت كثيرا من الحرمات في يوم واحد، وقدمت عاشقين قربانا للطاغية، فلم تجن من كل هذا إلا الشنار
8
والغيظ والحنق، يشعلها في نفسك وخز من الضمير لا يجدي!
أي أوفورب! أهذا فعل نصحك المملوء جبنا؟
ليت شعري، ماذا كان ينتظر من أمثالك؟ لا يكون المعتق إلا عبدا غادرا، تتغير حاله ونفسه لا تتغير.
أما نفسك فلا تزال في العبودية لم تستطع في الحرية أن تقبس قبسا من الكرم. حملتني على صيانة سلطان جائر وعلى إتيان ما يكذب شرف أصلي، وقاومك قلبي فجعلت تكافحه حتى لوث خداعك فضيلته، فأضاع علي الحياة وأفقدني المجد. أنا الجدير بكل هذا لأنني صدقتك، ستبيح الآلهة لي أن أسفك دمك بمرأى من الحبيبين. ويومئذ أجترئ فأؤكد أن دمي، وإن حمل أثر جرمي تقدمة لهما، لا يخلو من النقاء، إذ أكون قد بطشت بك عدلا، وغسلت بدمك جريمة الاستماع لك والركون إليك.
الفصل الخامس
المشهد الأول
أغسطس، سنا
أغسطس :
خذ مقعدا يا سنا، خذ، والزم قبل كل شيء حد الأمر الذي آمرك به. أعر سمعك حديثي، ولا تبلبلني، ولا تقطع علي القول بكلمة أو صرخة! قيد لسانك. وإذا شق عليك، مع موقع القول منك، ذلك السكوت إلى مدى طويل، ففي وسعك أن تجيبني بعده بما يبدو لك، هذا، لا سواه ما أرغب فيه إليك، فامتثله.
سنا :
إني مطيعك يا مولاي.
أغسطس :
تذكر وعدك بالاستماع صامتا وسأنجز وعدي. ولدت يا سنا ينميك آباء كانوا أعداء أبي وأعدائي.
في معسكرهم كان مولدك. ولما دخلت بعد موتهم في حيز سلطاني، كان حقدهم متأصلا في قلبك، فسلح ذراعك لقتالي. كنت عدوي ولما تخلق. وكنت كذلك بعد أن عرفتني ولم تكذب نزعتك يوما ما. ذلك الدم الذي رمى بك في الحزب المناوئ لي، بل صدقته أعمالك بقدر ما استطعت، على أنني لم أنتقم لنفسي إلا بالإبقاء على حياتك، واتخذتك أسيرا لأغمرك بالآلاء، فكان قصري سجنك، وعطفي عليك قيدك، ورددت عليك في البدء عقارك. أغنيتك بأسلاب انطونيوس. وتعلم أني ما تركت بعد ذلك فرصة إلا أغدقت فيها النعم عليك إغداقا، فما طلبت إلي من مناصب منحتك إياه في الساعة، ولم أسمك عناء، حتى لقد آثرتك على الذين كان آباؤهم في الصفوف الأولى من جيشي، وعلى الذين اشتروا الامبراطورية بدمائهم، وحفظوا إلي النسمة التي أتنسمها. فكان، بإيجاز القول، تصرفي في جانبك تصرفا يثير في قلوب الغالبين الغيرة من سعادة المغلوبين. فلما أرادت الآلهة بعد إقبالها أن تريني بعض الادبار وقبضت إليها ميسين، أحللتك محله، وجعلتك بعد حادثه الأليم أوفى أمين إلي، وفي اليوم الذي اضطربت فيه نفسي، وحدثتني بالتخلي عن سلطاني المطلق لم أستنصح غير مكسيم وغيرك، وعولت على رأيك دون رأيه، ثم قلدتك لساعتي منة من أعظم المنن، فأعطيتك اميليا وهي مناط أماني ايطاليا بأسرها، جعلتها من حبي ومن عنايتي بحيث، لو توجتك ملكا، لكان الجود عليك بالتاج أقل من الجود بها. تتذكر ذلك يا سنا! وليست كل هذه المآثر ولا كل هذه المفاخر مما ينسى على عجل. أما الذي لا يتصوره عقل، يا سنا، فهو أن تذكر كل هذا، وتريد قتلي.
سنا :
أنا يا مولاي؟ أنا؟ أتكون نفسي من الخيانة بحيث يخطر مثل هذا الفرض السافل؟ ...
أغسطس :
أراك تسيء إنجاز وعدك. اجلس. لم أقل بعد ما أريد. برئ نفسك فيما بعد إن استطعت. والآن استمع وكن أوفى بعهدك.
تريد أن تقتلني غدا، في الكابيتول، وقت القربان، وأن تضربني بيدك الضربة القاضية عوضا عن تقديم البخور، فتكون الضربة العلامة، ويكون نصف رجالك قد احتلوا الباب، والنصف الآخر وراءك لشد أزرك!
أعلى علم صحيح أنا أم في شكوك فاسدة؟.. أأسرد لك أسماء أولئك القتلة جميعا؟ بروكول، غلابريون، فرجينيان، روتيل، مارسل، بلوت، ليناس، بومبون، البان، ايسيل، ثم مكسيم الذي آثرته بمودتي بعدك، والآخرون أدنى من أن يشرفوا بالذكر، فهم قبضة من رجال ضيعتهم الديون والجرائم، وأرهقتهم قوانيني وأوامري الشرعية فيئسوا من التخلص منها، فلا عيش لهم ما لم يهدم كل شيء، وينقلب كل نظام.
تسكت الآن، ويلزمك الصمت استخزاؤك أكثر من طاعتك ... ماذا كان غرضك وما مدعاك؟ أهو بعد أن تصرعني تحت قدميك في الهيكل، تحرير بلدك من الحكم الملكي، فإن لم يفتني إدراك سياستك التي بسطتها منذ هنيهة، فلا سلام لهذا البلد إلا بأن يتولاه من يقبض على جميع الأمر بيده، ليحفظ كل شيء! ولو أن بغية الحرية هي التي استفزتك للأمر الذي انتويته
1
لما منعتني من رد هذه الحرية على أهلها، بل لتقبلتها مني باسم الدولة من غير أن تعمل على سلبها مني بالقتل.
إذن ما كان غرضك؟ أهو الاستئثار بالأمر مكاني في الدولة؟ لشد الخطب الذي يهدد مصيرها إذا كانت السبيل إلى ارتقائك العرش وإصدارك القوانين لا يعترضها في روما من عائق سواي، ولشد ما يرثى لتعس روما يوم تكون أظهر من فيها بعدي، فلا يقع عبء الامبراطورية الثقيل إلا في يدك وقد قضيت نحبي.
تعلم أن تعرف نفسك، وانزل في أغوار سريرتك، يمجدونك في روما ويتملقونك ويحبونك، وكل يخشاك، وكل يرجوك. نجمك في علو، وتقدر على كل ما تشاء، ولكنني لو تركتك ومحض شأنك لعثرت عثرة يرق لك من جرائها حتى الذين لا تعرف قلوبهم الرحمة، أتجترئ أن تكذبني؟ قل لي ما مقدارك، واسرد على سمعي فضائلك ومجيد أفعالك، وصف مزاياك النادرة التي رقت في عيني من أجلها، واذكر لي ما الذي رفعك عن صف العامة.
عطفي عليك هو سبب مجدك، ومنه استمددت حولك وطولك، فهو وحده الذي سما بك وهو الذي يؤيدك، ثم هو الذي يعبدون، لا شخصك، ما لك من أيد وكلمة مسموعة إلا بقدر ما يفيضه عليك ذلك العطف مني.
ويكفي لتدهورك منذ اليوم أن أقبض اليد التي أنصرك بها. غير أني أرغب في مجاراتك، وأنزل عند أمنيتك. أحكم من بعدي إن استطعت الحكم. ولكن أتجترئ على الظن بأن أمثال سرفليان وكوس وميتلوس وبولس وفابيان، وأضرابهم الكثر من الأبطال الشجعان الذين تحدروا من أصلاب أبطال شجعان يتخلون لك عن الاعتزاز بأصولهم الرفيعة ويتسامحون في أن تصبح ملكا عليهم؟ قل! تكلم! آن أوانك.
سنا :
أنا في خبال وذهول، لا غضبك ولا الموت يرهبني. أراهم قد غدروا بي وأنا أفكر وأبحث عن الغادر، فلا أهتدي إليه. لكن حسبي انصرافا بكل نفسي إلى تبين من الذي أفشى سري، أيها المولى، أنا روماني ومن دم بومبيوس. وقد ذبح الأب والولدان غدرا. فموت قيصر في الانتقام لهم قليل.
هذا هو السبب الأوحد والأسمى في غرضي النبيه، وما دامت الخيانة قد عرضتني لنقمتك، فلا ترقب مني ندما دنيئا. ولا أسفا عقيما. ولا زفرات مخجلة. الحظ مقبل عليك. مدبر عني، واعلم ما فعلت وما عليك أن تفعل. اضرب مثلا للخلف وإن موتي لأمنا لك.
أغسطس :
انت تتحداني يا سنا. وتتصنع التعالي، وتؤيد جرمك بتجنب الاعتذار. فلننظر هل يستمر ثباتك على هذا إلى النهاية. أنت تعرف ما حق عليك، وترى أنني واقف على كنه أمرك، فأصدر حكمك على نفسك بنفسك. واختر لك ما تؤثر من قصاص.
المشهد الثاني
ليفيا، أغسطس، سنا، اميليا، فلفيا
ليفيا :
لم تعرف بعد كل المشتركين في المؤامرة. إن اميليا في جملتهم وها هي حاضرة يا مولاي.
سنا :
هي بنفسها ... يا للآلهة!
أغسطس :
وأنت أيضا، يا ابنتي؟
اميليا :
نعم! ما فعله، فعله في سبيل رضاي. فأنا، يا مولاي، كنت السبب وكنت الجزاء.
أغسطس :
وي! أهو الحب الذي لم أغرسه في قلبك إلا اليوم، يطوح بك إلى طلب الموت من أجله؟ لشد ما استسلم فؤادك لهذه الوثبات، فغلوت مسرعة في هوى حبيب أعطيتك إياه.
اميليا :
هذا الحب الذي عرضني لغضبك، لم يكن الأثر العاجل لما أردته من الجمع بيننا، بل كانت ناره مشبوبة في قلبينا من غير أمرك، وبقيت سرا مكتوما منذ أربع سنوات أو تزيد. ولكن مهما يكن من حبي له وحبه لي، فأقوى ما ارتبطنا به هو الحقد الكامن لك. فلم أدع لسنا من أمل في الظفر بي إلا إذا انتقم لأبي، أنا التي أبت عليه إلا أن يقسم لينتقمن لي، فأقسم وبحث عن أصدقاء يناصرونه، ولكن الآلهة خيبت الأمل الذي منيت النفس به.
فجئت يا مولاي للتضحية، لا توخيا لإنقاذ حياته بإلقائي على نفسي تبعة الجريمة، بل لأن موتي عدل بعد ائتماري. ولا عذر لي في الجناية على الدولة. إن موتي في حضرته، واللحاق بأبي هو الذي جاء بي وهو كل ما أتمنى.
أغسطس :
إلى متى أيتها الآلهة، وعلام ترمينني في داري بسهامك الصائبة؟ لقد طردت جوليا من كنفي لسرفها في أهوائها، وآثرت اميليا بودي، فما رأيت هذه إلا مثل تلك، غير جديرة بالمكانة التي بوأتها إياها، ثلمت إحداهما شرفي وتعطشت الأخرى إلى دمي، واتخذت كل منهما هواها مرشدا ... فجوليا فاجرة، واميليا تبغي قتل ولي نعمتها!
أي بنيتي!.. أهذا جزاء حسناتي؟
اميليا :
حسنات أبي إليك كان لها مثل هذا الأثر.
أغسطس :
تذكري بأي حب كلأتك
2
في نشأتك.
اميليا :
لقد كلأ هو أيضا نشأتك بمثل هذا الحنان، وكان وصيا عليك، فأوردته حتفه، وأريتني بنفسك طريق الإجرام، فما اختلفت جريرتي عن جريرتك إلا بأن طمعك أدى بك إلى ذبح أبي، أما الغضب العادل الذي اكتوت به نفسي فهو الذي حفزني إلى ابتغاء قتلك لأثأر لدمه البريء.
ليفيا :
كفى، يا اميليا! لقد افرطت، فامسكي وتدبري، إنه وفى حسنات أبيك الجزاء الأوفى، وكان موت أبيك الذي تشعل ذكراه سخطك، جريمة من أوكتافيوس لا من الامبراطور. على أن كل جرائم الدولة التي تقترف في سبيل التاج تعفينا منها الآلهة حين تمنحنا التاج، ثم تضع الامبراطور موضع التقديس. فإذا الماضي عدل وإذا المستقبل غفران. من قدر على الوصول لا يعد مذنبا. ومهما فعل ويفعل، فهو المحترم المصون. أيامنا ذمة له علينا، وبين يديه أرواحنا، ولا حق لنا على صاحب السلطان.
اميليا :
لهذا رميت في الكلام الذي سمعته إلى إحفاظه لا إلى الدفاع عن نفسي.
فعاقب إذن يا مولاي محاسني الأثيمة التي جعلت مقربيك كفارا بالنعمة. اختم أيامي الأليمة، تضمن أيامك. اغويت سنا وسأغوي كثيرا غيره. وليكونن كيدي لك أشد، ولتكونن حياتك أدنى إلى الخطر يوم أصبح مطالبة بثأر الحب وثأر الدم في آن.
سنا :
تقولين أنك أغويتني وتسومينني فوق ذلك أن أتحمل جناية التي أعبدها على سمعتي وشرفي؟ لا. يا مولاي! والحقيقة أولى بأن تقال: لقد أضمرت هذا الغرض قبل أن أهواها. ولما وجدتها لا تذعن لرغباتي الطاهرة، ظننتها تذعن لغيرها من العوامل، فجعلت أحدثها عن أبيها وعن قسوتك، ثم قدمت لها ذراعي للانتقام بعد أن قدمت قلبى للهوى.
أدركت أن الإنتقام شهي لفؤاد المرأة، فهاجمتها من ناحيته وملكت فؤادها. كانت تهملني لضعف شأني، ولكنها لم تستطع أن تهمل الساعد الذي يثأر لها، فما ائتمرت إلا باحتيالي عليها. وأنا وحدي الفاعل وليست هي إلا شريكة.
اميليا :
سنا! ما هذا الذي اجترأت على قوله؟ أمن الحب لي أن تجردني من الشرف وأنا في موقف الردى؟
سنا :
موتي ولكن لا تلوثي مجدي بموتك.
اميليا :
إذا صدقك قيصر وقعت الوصمة على شرفي.
سنا :
وإذا ما رددت إلى نفسك كل ما في الميتة الكريمة من فخار فماذا يحل بشرفي؟
اميليا :
حسن! خذ من ذلك الشرف نصيبك ودع لي نصيبي، وإنما إضعاف هذا إضعاف لذاك. المجد، واللذة، والعار، والهموم، ينبغي أن تكون مشاعا بين أهل الحب الصحيح.
إن روحينا، أيها المولى، رومانيتان. فلما اتحدت رغباتنا اتحدت أحقادنا. وعلمنا الحنق الشديد لموت أهلينا ما يجب علينا في وقت واحد، فتلاقى قلبانا على ذلك الغرض الأسنى بعد أن دبره عقلانا. فكلانا يرجو شرف الميتة المجيدة. وإذ كنت قد أزمعت أن تجمع بيننا فلا تفرقنا اليوم.
أغسطس :
نعم سأجمع بينكما، أيها الكنودان الخائنان، فأنتما أشد عدوانا لي من انطونيوس ولبيدس ... سأجمع بينكما كما أردتما، وسأروي الغليل الذي يضطرم فيكما فإذا عرف العالم ما كان مني ومنكما أدهشه القصاص كما أدهشته الجريمة.
المشهد الثالث
أغسطس، ليفيا، سنا، مكسيم، اميليا، فلفيا
أغسطس :
عادت الآلهة إلى الرضى عني، فانتزعت لي حسناتها الجديدة مكسيم من غور الامواه. أدن، أيها الصديق الصدوق الأوحد.
مكسيم :
أقلل من التكريم، أيها المولى، لنفس مجرمة.
أغسطس :
لا تعد إلى ذكر الجريمة بعد ندمك. وبعد أن عرفت كيف تدرأ عني الخطر، فأنا مدين لك بالحياة وبالامبراطورية.
مكسيم :
تبين من أعدائك من هو شرهم! فلئن كنت، أيها المولى، لا تزال حيا على منصة الحكم، لأنت مدين بذلك لغيظي وغيرتي الغرامية. لم يأخذني فيما فعلت تأنيب من الضمير، بل أردت أن أهلك منافسي، فكشفت عن مؤامرته. وأوهمك أوفورب أنني غرقت مخافة أن ترسل في طلبي ... وانتويت أن أخدع اميليا وأروعها وأنتزعها من ايطاليا، ظانا أني أقنعها بهذا الاختطاف مع التلويح بأمل العودة للأخذ بثأر حبيبها، ولكنها لم تؤخذ بهذا الطعم الخسيس ولم تزدد فضيلتها إلا تمكنا على ما أصليتها من حرب. قرأت ما جال في قرارة نفسي وأنت تعرف ما جرى بعد ذلك، فذكري له لغو وفضول. ثم إنك ترى ما لقي ريائي وجبني من سوء المغبة، فإن صح أن تكافئ ما دللت عليه بشيء من العفو، فأهلك أوفورب في عذاب مبين ثم اقتلني بمرأى من هذين الحبيبين.
لقد خنت صديقي، وعشيقتي، وسيدي، ومجدي، وبلدي، برأي هذا الخائن، وأحسبني قد حظيت بنهاية السعادة إذا استطعت معاقبة نفسي بعد أن أعاقبه.
أغسطس :
أما كفى أيتها الآلهة؟ وهل لا يزال تجاه القدر أحد من أسرتي يغريه بإيذائي؟ ليستنجد علي بالجحيم كل من نوى بي السوء منهم.
إني سيد نفسي كما أنا سيد العالم.
أنا السيد وأريد أن أكونه!
فيا أيتها القرون، ويا أيتها السير، احفظي إلى الأبد انتصاري الأخير.
اليوم أتغلب على أعدل غضبة تفضي إليك أحدوثتها!
لنكن صديقين يا سنا!
أنا الذي أدعوك إلى المصافاة. وهبت لك الحياة إذ أنت عدوي، وعلى ما كان من خبث ما أضمرت لي وشرته، أهب لك الحياة أيضا وأنت عامد إلى قتلي!
لنبدأها معركة تدل بخاتمتها على من كان فيها خيرنا كرا وفرا.
تخون نعمي، وأزيدها لك مضاعفة!
لقد غمرتك بها وأريد أن أغرقك فيها.
هذا الجمال اميليا وهبته لك.
وأزيدك فأمنحك القنصيلة للسنة المقبلة!
احبي يا ابنتي سنا في هذا المنصب الرفيع، وأثري فيه الأرجوان على حمرة دمي، وتعلمي من المثل الذي أضربه كيف تملكين غضبك.
رددت زوجك فرددت عليك أبا وخيرا منه.
اميليا :
وأنا ألقي بالسلاح، أيها المولى، لدى هذه السماحة السامية، وأهتدي إلى الصواب في نورها الساطع وأعترف بجرمي الذي كنت أظنه عدلا وأشعر في نفسي ندما قويا لم تكن تشعرني إياه رهبة القصاص.
ويناجيني قلبي بأنه نازل على حكم تلك الإنابة.
لقد أرادت الآلهة لك المكان الأسمى، والدليل، يا مولاي، أجده في نفسي فأجرؤ، ولي الفخر، أن أجلو سريرتي في بهاء مأثرتك هذه. وأقول لك: ما دامت الآلهة قد غيرت ما بقلبي، فهي ستغير ما بالدولة. يموت حقدي، وكنت أظنه أبديا. بل مات الساعة وأصبح قلبي وليا وفيا. سأستفظع، منذ اليوم ذلك الحقد، وستحل محل بغضائي حميتي الصادقة في خدمتك.
سنا :
مولاي! ماذا أقول بعد أن لقيت ذنوبنا حسن الثواب بدلا من العقاب؟ يا للفضيلة المنقطعة النظير، يا للحلم الذي زاد حكمك عدلا، وإثمي وقرا!
أغسطس :
لا تؤخر زمن نسياني لذلك الإثم. وليعف كل منكما معي عن مكسيم. خاننا جميعا. ولكن إجرامه حفظ لكما البراءة ورد علي أصدقائي. (إلى مكسيم)
عد إلى منزلتك السابقة، وليعد إليك نفوذك وعلو شأنك. ولينل أوفورب العفو منكم أنتم الثلاثة أيضا، وليتم غدا زواج سنا من اميليا. فإذا كنت ما زلت تحبها فكفى بهذا القران عقابا لك.
مكسيم :
لا اعتراض على هذا الزواج. إنه كل العدل. ولقد تولاني يا مولاي من فرط حسناتك استخزاء
3
نزع مني الغيرة على الدرة التي أفقدتنيها.
سنا :
أما وقد ردت الفضيلة إلى قلبي، فاسمح لي أن أرصد لخدمتك ذمة خفرت بها غدرا وجبنا . لقد رسا ولائي الآن رسوا لا يزلزله سقوط السماء على الأرض، فليمدد في أيامك العلي المصرف للمقادير، وليأخذ من أعمارنا لإطالة عمرك، وليفقدني في سبيلك أكثر مما جدت به علي مائة مرة، فأسعد بهذا سعادة يحسدني عليها كل حي.
ليفيا :
ليس هذا كل ما في الأمر يا مولاي، إن قبسا سماويا ينير نفسي بشعاع نبوي، فاستمع لما تقوله لك الآلهة بفمي: ذلك أنها قد قضت لك بالسعادة والتوفيق على الدهر، ولم يبق بعد الذي فعلته شيء تخشاه. فكل سيستظل بسلطانك من غير شكوى وسينقلب أشد القوم تمردا إلى الطاعة فلا يرون المجد إلا في الموت وهم من رعاياك.
ستنتفي كل لبانة غادرة وستزول كل شهوة كافرة، فلا يعترض مجرى حياتك الهنيئة شيء منها.
ليس بعد اليوم من قتلة ولا مؤتمرين، لما أوتيت من نعمة السيادة على القلوب، وسيهز الفرح العظيم روما، فتضع في يديك امبراطورية العالم. وستعلمها فضائلك الملكية إن سعادتها هي في استظلاها بسلطانك، وإذانها تحررت من خطل قديم، فلا يكون لها من أرب بعد الآن في غير الملكية. فهي قد شرعت تهيء لك المعابد والهياكل، وأخذت الآلهة تعد لك المكانة بين الخالدين. وسيجعلك الخلف في كل مكان قدوة المقتدين من الأمراء والأكرمين.
أغسطس :
أتقبل هذه البشريات، وأرجو أن تتفضل عليك الآلهة دواما بالإلهام.
ضاعفوا غدا القرابين نقربها للآلهة في أيمن الطوالع! ونادوا في مؤتمريكم بأن أغسطس قد عرف كل شيء وأنه أبى إلا التجاوز والنسيان!
صفحة غير معروفة