حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
Cynic »، وتقول الأسطورة إنه عاش في حوض، وإن الإسكندر جاء مرة ليزور هذا الرجل المشهور، فسأله أن يبدي أية رغبة وسوف يحققها له، فكان الجواب: «لا تحجب عني النور»، وقد بلغ من إعجاب الإسكندر به أنه رد قائلا: «لو لم أكن الإسكندر لكنت ديوجين».
وكان جوهر التعاليم الكلبية هو الانصراف عن المتع الدنيوية، والتركيز على الفضيلة بوصفها الشيء الوحيد الجدير بأن نمتلكه، ومن الواضح أن هذه إحدى الأفكار الموروثة عن مذهب سقراط، غير أنها تمثل رد فعل سلبيا إلى حد ما على أحداث العالم. صحيح أنه كلما ضعفت روابط المرء بالعالم قل احتمال إصابته بالأذى أو خيبة الأمل، غير أن مثل هذه المنابع لا يتوقع منها أن تلهم المرء أي شيء يزيد عن ذلك، ولقد تحول المذهب الكلبي بمضي الوقت إلى تراث قوي واسع الانتشار، وأصبح له في القرن الثالث ق.م. تأييد شعبي واسع في جميع أرجاء العالم الهلينستي. وبالطبع فإن كل ما يعنيه ذلك هو أن شكلا متدهورا من التعاليم الكلبية أصبح يعبر بصدق عن الأوضاع الأخلاقية للعصر، وكان ذلك نوعا من الموقف الانتهازي من الحياة، يغترف منها بكلتا يديه إن كان هناك ما يؤخذ، ولكنه لا يشكو في أوقات العسر، ويستمتع بالحياة حين يمكن الاستمتاع بها، ولكنه يقبل صرف الدهر بغير اكتراث. ومن هذا التطور للمذهب اكتسبت كلمة
cynical
معناها المذموم، غير أن الكلبية من حيث هي حركة فلسفية لم يكن فيها من الاستقلال والتلقائية ما يكفي لكي تستمر بذاتها، وإنما أدمج مضمونها الأخلاقي في المدرسة الرواقية، التي سنتحدث عنها بعد قليل.
وهناك نتاج آخر، مختلف إلى حد ما لفترة التدهور الفلسفي هذه، هو حركة الشكاك، وإذا كان اسم هذه الحركة مستمدا من مجرد الشك أو الارتياب، فإن المذهب بوصفه فلسفة يرتفع بالشك إلى مرتبة العقيدة الراسخة؛ فهو ينكر أن يكون في وسع أي شخص أن يعرف أي شيء معرفة يقينية، ولكن المشكلة بالطبع هي أن المرء يود أن يعرف من أين جاء الفيلسوف الشكاك بهذه المعلومة.
فكيف يعرف أن الأمر كذلك إذا كان موقفه ينكر صراحة إمكان المعرفة؟ إن هذا قد يصبح منطقيا بمجرد أن نحول طابع الشك في آرائنا إلى مبدأ، أما إذا كان الهدف من هذا الشك هو أن يذكرنا بفائدة الحذر، فإن هذا وضع صحي لا حرج عليه.
ولقد كان أول الفلاسفة الشكاك هو بيرون
من بلدة إليس
Ellis ، الذي طاف العالم مع جيوش الإسكندر، ولم تكن التعاليم الشكاكة شيئا جديدا؛ لأننا رأينا الفيثاغوريين والإيليين من قبل يثيرون الشكوك حول إمكان الثقة في الحواس، على حين أن السفسطائيين استحدثوا مفاهيم مماثلة اتخذوها أساسا لنسبيتهم الاجتماعية والأخلاقية، غير أن أحدا من هؤلاء المفكرين لم يجعل من الشك في ذاته قضية رئيسية، وعندما كان كتاب القرنين السابع عشر والثامن عشر يتحدثون عن الفلاسفة البيرونيين، كانوا يقصدون شكاكا من هذا النوع، أما بيرون نفسه فلا نكاد نعرف عنه شيئا، غير أن تلميذه تيمون
Timon
صفحة غير معروفة