حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
وتتميز الأنواع المختلفة للشعر تبعا لمختلف الطرق التي تحدث بها المحاكاة، غير أنه لا يشرح لنا أبدا المقصود بالمحاكاة. وبطبيعة الحال فإن الفكرة مألوفة في ضوء نظرية المثل التي يمكن فيها أن يقال عن الجزئيات إنها تحاكي الكليات. ويبدو أن المحاكاة عند أرسطو تنطوي على استخدام وسائل مصطنعة من أجل إثارة مشاعر مشابهة للمشاعر الحقيقية، ويظهر لنا أن المناقشة بأسرها تدور وفي ذهن أرسطو فكرة الفن الدرامي، ما دام هذا هو الميدان الذي يطبق فيه مبدأ المحاكاة طريقة طبيعية تماما. ويزداد ذلك وضوحا حين ينتقل أرسطو إلى الحديث عن محاكاة الفعل البشري؛ فسلوك الناس يمكن أن يصور على أنحاء ثلاثة؛ فقد نصورهم على ما هم عليه بالضبط، أو قد نستهدف محاكاة شيء أعلى من مقاييس السلوك العادية، أو شيء أدنى منها. وعلى هذا النحو يمكننا أن نميز بين المأساة (التراجيديا) والملهاة (الكوميديا). ففي المأساة يصور البشر بطريقة أعظم مما هم عليه في الحياة، وإن لم تكن بعيدة عنا إلى الحد الذي يحول بينا وبين إبداء اهتمام متعاطف بأحوالهم. أما الملهاة فتصور الناس بطريقة أسوأ مما هم عليه؛ لأنها تؤكد الجانب المضحك في الحياة. فالعنصر الهزلي في شخصية الإنسان يعد نقصا، وإن لم يكن نقصا ضارا بوجه خاص. ولنلاحظ هنا نوعا من المزج بين القيم الفنية والقيم الأخلاقية، وهو ميل يرجع أصله إلى محاورة «الجمهورية» حيث يرتبط التقدير الفني بالمعايير الاجتماعية والأخلاقية ارتباطا وثيقا.
فالشر البحت لا يمكن أن تكون له قيمة جمالية، وهي نظرة قاصرة لا تعترف بكل المقاييس الأدبية الحديثة.
ويميز أرسطو بعد ذلك بين الشعر الذي يروي قصة، والشعر الذي يعرض حدثا، وهذا يؤدي إلى التمييز بين الملحمة والدراما.
فأصل الفن الدرامي يرجع إلى فنون الإلقاء المرتبطة بالطقوس الدينية. ومن الواضح أن المأساة اليونانية قد بدأت من أناشيد معينة كانت تلقى في الطقوس الأوروبية، بل إن من التفسيرات الممكنة للفظ ذاته أنه يشير إلى أغنية للماعز، وهو الحيوان الذي كان رمزا من رموز أورفيوس، والكلمة اليونانية التي تدل على الماعز هي
tragos ، كما أن تكملتها في كلمة «تراجيديا» وهي
ode
تعني أنشودة، ولقد كان للطقوس التراجيدية في أقدم صورها منشد يروي أشعارا، وجمهور يرد عليه، كما يحدث في الشعائر الدينية في أيامنا هذه إلى حد بعيد. ومن هذا الشكل تطورت فكرة الممثل الأول والجوقة (الكورس)، كما يبين أرسطو. أما الملهاة فقد نشأت عن الأعياد الديونيزية الصاخبة، كما يدل اسمها، الذي يعني أنشودة صاخبة.
وعلى حين أن الشعر الغنائي يستخدم وزنا واحدا طوال الوقت، فإن المأساة تستخدم أوزانا مختلفة في الأجزاء المختلفة، ولكن الأهم من ذلك أن إطار المشاهد في المأساة محدود. ولا يقدم إلينا أرسطو نظرية واضحة المعالم عن وحدة المكان والزمان والحدث، بل إن ما يقدمه أقرب إلى أن يكون حدودا عملية كامنة في نوعي التأليف، فلا بد أن تؤدى المسرحية في جلسة واحدة، وفي مكان محصور، على حين أن الملحمة يمكن أن تكون طويلة إلى غير حد، وتستخدم الخيال مسرحا لها. ويعرف أرسطو المأساة بأنها محاكاة الفعل البشري، وينبغي أن تكون فاضلة، مكتملة، ذات أبعاد معقولة، وأن تثير في المشاهد شعورين متعاطفين بالرهبة والشفقة، بحيث تتطهر نفسه بمثل هذه المشاعر.
وفيما يتعلق بالاكتمال يؤكد أرسطو أن المأساة يجب أن تكون لها بداية ووسط ونهاية. وقد يبدو لأول وهلة أن هذه العبارة لا تضيف إلى معلوماتنا الكثير، غير أن المقصود منها شيء معقول تماما؛ فلا بد أن تكون للمأساة نقطة بداية معقولة، وأن تتطور بطريقة منسقة، وتكون لها نتيجة حاسمة، أي إنها لا بد أن تكون مكتملة بمعنى أنها مكتفية بذاتها. وللحجم أهميته؛ لأن الذهن يتراخى إذا كانت المسرحية أطول مما ينبغي، أما إذا كان قصرها مفرطا، فإنها لا تثبت في الذهن.
والعلة الغائية للمأساة هي تنقية الروح عن طريق تطهير الانفعالات، وهذا هو معنى الكلمة اليونانية
صفحة غير معروفة