حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
ولسنا في حاجة إلى أن نقول الكثير عن السببين المادي والصوري. فنحن لم نعد نتحدث عنهما بوصفهما أسبابا أو عللا، وإنما هما شرطان ضروريان في موقف سببي، بمعنى أنه لا بد من وجودهما لكي يحدث أي شيء على الإطلاق. أما العلة الفاعلة والعلة الغائية فهما تستحقان شيئا من التعليق؛ فالعلة الفاعلة هي ما يطلق عليه في المصطلح الحديث اسم العلة أو السبب فحسب، فالحجر يسقط من سلم؛ لأن شيئا ما أو شخصا ما قد دفعه، وهذا هو النوع الوحيد من السببية المعترف به في العلم الفيزيائي؛ فالاتجاه العام في العلم يحاول إيجاد تفسيرات على أساس العلل الفاعلة . أما فكرة العلة الغائية فلا يعترف بها اليوم في الفيزياء، وإن كان المصطلح الفيزيائي يحوي آثارا من فكرة الغائية، فهناك تعبيرات مثل الجذب والتنافر، والبحث عن المركز، وما شابهها، هي بقايا للمفاهيم الغائية، وهي تذكرنا بأن نظرية أرسطو في السببية ظلت لا تناقش حتى ما يقرب من ثلاثمائة وخمسين عاما من عصرنا الحالي. والمشكلة التي تنطوي عليها العلة الغائية تشبه إلى حد بعيد ذلك الخطر الذي نتعرض له حين نستخدم فكرة الإمكان أو الوجود بالقوة، كما أوضحنا من قبل. فأقول إن الحجر قد سقط؛ لأن لديه ميلا إلى السقوط يعني في الواقع عدم تقديم أي تفسير على الإطلاق، ولكننا نلاحظ في هذه الحالة أيضا أن هناك مناسبات معينة يحقق فيها استخدام المصطلح الغائي أهدافا معقولة؛ ففي ميدان الأخلاق مثلا لن يكون من الخطأ أن نشير إلى هدف ما على أنه سبب لسلوك أو فعل من نوع معين. وهذا يصدق على ميدان الفاعلية الإنسانية بوجه عام. فتوقع أحداث مستقبلية في الوقت الحاضر يمكن أن يكون دافعا لأفعالنا، كما يصدق هذا على الحيوانات أيضا، بل إن هناك حالات قد يشعر المرء فيها بالميل إلى استخدام هذه الطريقة في الكلام في حالة النباتات بدورها. فمن الواضح إذن أن الغائية ليست تعبيرا باطلا حين يكون موضوعنا متعلقا بمشكلات بيولوجية أو اجتماعية.
ولقد كانت اهتمامات أرسطو بالبيولوجيا هي التي أوحت إليه بفكرة العلل الغائية. وفي هذا الصدد يتضح أن الغائية والإمكان أو الوجود بالقوة يسيران جنبا إلى جنب. فعالم البيولوجيا يتساءل كيف تؤدي البذرة إلى ظهور نبات أو حيوان مكتمل النمو. ولو استخدم لغة أرسطو لقال إن البذرة تحتوي بالقوة على الشجرة، وإن ما يجعلها شجرة هو ميل لديها إلى أن تحقق ذاتها، هذه الطريقة في الكلام هي بالطبع نموذج للاستخدام السيئ لهاتين الفكرتين، ويمكن القول بوجه عام إنه كلما تطور العلم، حلت محل التفسيرات الغائية تعليلات تستخدم الأسباب الفاعلة. وحتى علم النفس ذاته يسير في هذا الاتجاه، فالتحليل النفسي أيا كانت مزاياه أو عيوبه ، يحاول تفسير السلوك عن طريق ما حدث من قبل، بدلا من تفسيره عن طريق ما يمكن أن يحدث فيما بعد.
إن المصدر النهائي الذي تستمد منه النظرة الغائية قوتها هو ذلك النظام الذي تكشف عنه مظاهر البيئة الطبيعية المحيطة بنا؛ ذلك لأن الضرورة السببية التي ترتبط بالسببية الفاعلة، تبدو قوة عمياء لا يقدم إلينا مسارها تفسيرا لهذا النظام. أما الغائية فتبدو وكأنها قد اكتسبت قدرة على التنبؤ، وهنا أيضا قد يؤدي الإلهام بالمجال البيولوجي إلى تفضيل وجهة النظر الغائية، ولكن أرسطو على أية حال يعترف بتأثير الضرورة والغائية معا. ومن الواضح أن معرفة الطبيعة لا يمكن أن تزدهر لو سارت في هذا الطريق. غير أن علم الفيزياء بوجه خاص قد عانى من نكسة خطيرة لم تتم إزالة آثارها إلا حين حدثت على يد جاليليو عودة، في ميدان المنهج، إلى أفلاطون؛ ذلك لأن فكرة الغائية لا تجد لها عند الرياضي مكانا كذلك الذي تجده عند عالم البيولوجيا، وليس لنا أن ندهش حين نجد أفلاطون متحررا منها،
13
والخطأ الأساسي في الغائية هو أنها لاهوتية أو تشبيهية بالإنسان. فالبشر هم الذين توجد لديهم أهداف، ويسعون إلى تحقيق غايات، وعلى ذلك ففي الميدان البشري يكون للغائية معنى بالفعل، ولكن العصي والأحجار لا تستهدف غايات، ولا جدوى من محاولة الحديث عنها كما لو كانت لها غايات كهذه.
وبطبيعة الحال، فإننا نستطيع أن نستخدم مفهوم الميل أو الاتجاه
tendency
بعد اتخاذ الاحتياطات اللازمة، كما حدث في حالة مفهوم الإمكان أو الوجود بالقوة.
إن القول بأن لدى الحجر ميلا إلى السقوط يعني أنه سيسقط إذا توافرت شروط معينة، ولكن هذا لم يكن ما تصوره أرسطو.
فالغائية عنده ترتبط بالهدف، وهو يستدل على ذلك من وجود النظام الذي يدل في رأيه على وجود تدبير مقصود، ومن الواضح أن دراسة العلم الفيزيائي لا يمكن أن تزدهر في ظل مثل هذه المبادئ؛ ذلك لأننا إذا أشبعنا حب الاستطلاع لدى الباحث بتفسيرات وهمية، فعندئذ لن تظهر التفسيرات الحقيقية للظواهر الطبيعية. ولقد أساء أرسطو للعلم إساءة بالغة في ميدان الفلك بالذات؛ فقد أدت به نظرية الغائية التي كانت تنسب لكل شيء مكانه الخاص إلى التمييز بين عالم ما تحت القمر وعالم ما فوق القمر، بحيث كان يرى أن العالمين تحكمهما مبادئ مختلفة. مثل هذا التأمل المسرف في الخيال يبدو لنا جنونا محضا إذا ما قارناه بعلم الفلك المتقدم في الأكاديمية. غير أن الضرر الحقيقي قد أتى من جانب أولئك الذين لم يرضوا أن يتعاملوا مع أرسطو بطريقة نقدية، وقبلوا كل ما قال به بدلا من أن يرفضوا ما كان غير مقبول لديه، مما أدى إلى النيل من سمعته بوجه عام.
صفحة غير معروفة