حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
الذي عاش في القرن الثامن عشر، طريقة بارعة لاختيار البراهين القياسية، فقد مثل النطاق الذي يمتد إليه الحد في القياس بدائرة، فأصبح من السهل إدراك ما إذا كان البرهان صحيحا أم لا.
فمن الواضح مثلا أن المثال الذي ضربناه من قبل صحيح؛ فهو قياس من الشكل الأول أطلق عليه مدرسو العصور الوسطى اسما فنيا هو «باربارا
Barbara ». وبالمثل فإن المثل الآتي قياس صحيح من الشكل الأول؛ لا حيوان ثدييا يستطيع الطيران، وكل الخنازير حيوانات ثديية، إذن لا خنزير يستطيع الطيران، وهذا الضرب يسمى «كيلارنت
Celarent »، ولنلاحظ في هذا المثل الخاص أن النتيجة صحيحة برغم أن إحدى المقدمات باطلة؛ لأن الخفافيش ثديية ومع ذلك تستطيع الطيران.
وقد ترتب على سلطة أرسطو التي سيطرت على العصور اللاحقة أن ظل القياس يعد النوع الوحيد من البرهان الذي يعترف به المناطقة قرابة ألفي عام. غير أن أرسطو ذاته كان قد تنبه إلى بعض الانتقادات التي وجهت إليه في النهاية. ففي حالة برهان مثل: كل الناس فانون، وسقراط إنسان، إذن سقراط فان، قيل إن معرفة المقدمة الأولى تعني ضمنا معرفة النتيجة، بحيث ينطوي البرهان على مصادرة على المطلوب. غير أن هذا الاعتراض مبني على سوء فهم للطريقة التي نتوصل بها إلى قضية مثل: كل أ هي ب، فليس من الضروري بل ليس من المألوف أن ننظر إلى كل أ على حدة، ونرى إن كانت ب. بل إننا على العكس نكتفي في كثير من الأحيان بتأمل مثل واحد لكي ندرك الارتباط المطلوب. ويظهر ذلك بوضوح في حالة الهندسة؛ فمجموع زوايا كل مثلث يساوي قائمتين، ولكن لا يوجد عالم هندسة جدير بهذا الاسم على استعداد لتفحص كل المثلثات حتى يرضي ضميره قبل أن يغامر بإطلاق حكم عام كهذا.
هذا باختصار، هو لب نظرية القياس، وقد عالج أرسطو أيضا أنواعا من القياس تتألف من قضايا الجهة، أي القضايا التي تشتمل على ألفاظ مثل «ربما» و«يجب» بدلا من «يكون» وسوف تبرز أهمية منطق الجهة هذا مرة أخرى في ميدان المنطق الرمزي المعاصر.
وعلى أية حال فإن نظرية القياس تبدو الآن في ضوء التطورات الأقرب عهدا أقل أهمية إلى حد ما مما كان يعتقد. وفيما يتعلق بالعلم، فإن عملية القياس تترك المقدمات دون إثبات، مما يؤدي إلى إثارة مشكلة نقطة البداية، ويرى أرسطو أن العلم ينبغي أن يبدأ بقضايا لا تحتاج إلى إثبات، يسميها «بديهيات
axioms »، وهذه القضايا لا يتعين أن تكون شائعة في التجربة، بشرط أن تكون مفهومة بوضوح بمجرد أن تفسر. وربما كان من المفيد أن نشير إلى أن هذا يتعلق بعرض هيكل للوقائع العلمية، ولا يتعلق بعملية البحث والإثبات العلمي ذاتها؛ ذلك لأن ترتيب العرض يخفي دائما ترتيب الاكتشاف؛ ففي السعي الفعلي وراء الكشف يوجد قدر كبير من الاضطراب وعدم الدقة، يتم التخلص منه بمجرد أن تحل المشكلة.
والأمر الذي يبدو أنه كان في ذهن أرسطو حين تحدث عن البديهيات، هو الهندسة التي كانت في عصره قد بدأت تتخذ شكلا منهجيا؛ فأرسطو لا تفصله إلا عقود قليلة عن إقليدس، على أنه لم يظهر في ذلك الحين أي علم آخر كان قد بلغ المرحلة التي تتيح عرضه بالطريقة التي عرضت بها الهندسة. ويلزم عن ذلك أن العلوم يمكن أن ترتب تصاعديا على نحو ما. وهنا تأتي الرياضيات أولا، ويليها الفلك؛ لأنه يحتاج إلى الاستعانة بالرياضيات من أجل تقديم أسباب للحركات التي يرصدها. وفي هذا الصدد يستبق أرسطو أعمالا لاحقة، ولا سيما تصنيف العلوم عند الفيلسوف الوضعي الفرنسي أوجست كونت
Auguste Conte .
صفحة غير معروفة