حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
المرتكز على هيوم؛ فقد كان التعليم بالنسبة إلى سقراط علاجا للنفس بمعنى أوسع لهذه الكلمة، فهو عملية تؤدي إلى المعرفة، ومن ثم إلى الخير، وهكذا يمكن النظر إلى الجهل على أنه شيء يعترض طريق الحرية، أو الطريقة الحرة في الحياة، التي تكتسب بالمعرفة والاستبصار، وفي فلسفة هيجل نجد رأيا مماثلا توصف فيه الحرية بأنها فهم الإنسان لمسار الضرورة. وتعالج محاورة «مينون» مشكلة أخرى، ربما كانت أهم، وإن كانت قد عولجت في محاورة أوطيفرون بصورة أطرف، تلك هي مشكلة التعريف المنطقية، فالسؤال الذي يطرح في أوطيفرون هو السؤال عن ماهية المقدس، وتعرض المحاورة أوطيفرون وهو يحاول تقديم تعريف له، وليس من المهم أن جميع جهوده تخفق في النهاية؛ إذ إن سقراط يكشف له خلال المناقشة ما يلزم من أجل وضع تعريف، وبذلك يوضح الطابع المنطقي الشكلي لما يسمى بالتعريف عن طريق الجنس والفصل.
4
هذه الطريقة في معالجة مسائل المنطق تبدو في نظر القارئ الحديث شاذة إلى حد ما؛ ذلك لأن المرء قد اعتاد اليوم كتب المنطق المدرسية الجافة، على طريقة أرسطو. أما كتابة محاورات فلسفية، وهي الكتابة التي اخترعها أفلاطون، فإنها، بعد أن قلدها الكثيرون، أصبحت اليوم شيئا عتيقا لا يأخذ به أحد، وربما كان هذا شيئا مؤسفا؛ إذ لا يمكن القول إن أسلوب الكتابة الفلسفية في أيامنا يبلغ المستوى المطلوب، فالمحاورة تفرض على المؤلف قدرا من التنظيم الأدبي يفوق ما يفرضه أي شكل آخر للكتابة. وفي هذه الناحية لا نجد لمحاورات الأفلاطونية الأولى نظيرا؛ فهذه المحاورات قد كتبت بعد وقت قصير من موت سقراط، في وقت لم تكن فيه أفكار أفلاطون ذاته قد تبلورت بعد، على حين أن قدراته بوصفه فنانا دراميا كانت في الذروة، ونتيجة ذلك أن هذه المحاورات تقرأ بوصفها أدبا بطريقة أيسر من المحاورات المتأخرة، أما مضمونها الفلسفي فقيمته أقل.
في كثير من المحاورات المبكرة تصادف أشخاصا يرتكبون خطأ أوليا شائعا حين يطلب إليهم تقديم تعريف للفظ ما، فيقدمون بدلا من ذلك أمثلة له. فلا فائدة من الإجابة التي قدمها أوطيفرون عندما طلب إليه أن يذكر ما هو المقدس،
5
فقال إنه إدانة من يهاجم العقيدة؛ ذلك لأن هذا ليس تعريفا على الإطلاق، بل إن كل ما تقوله العبارة هو أن إدانة مهاجم العقيدة عمل فيه قداسة، وقد تكون هناك أعمال أخرى مثله. أما ما هي القداسة ذاتها، فإن هذه العبارة لم تزدنا بها معرفة على الإطلاق، وما أشبه ذلك بشخص يسأل ما هو الفيلسوف، فيرد بأن سقراط فيلسوف، ويكتسب الموقف طابعا هزليا طريفا حين نتذكر المناسبة التي دار فيها الحوار؛ ففي طريق سقراط إلى المحكمة كيما يعرف طبيعة التهمة الموجهة إليه، يقابل أوطيفرون الذي يذهب بدوره من أجل مسألة قانونية إذ كان يوجه إلى أبيه تهمة قتل عبد مات بسبب الإهمال، وكان أوطيفرون يسلك وفقا للطقوس الحقيقية للمجتمع وممارساته الدينية، وقد أبدى في كلامه نفس الثقة الجوفاء واليقين الساذج الذي يبديه كل من يوافق، باسم الفضيلة، موافقة عمياء، على العادات الشكلية لمجتمعه.
ومن هنا فإن سقراط يثني عليه بسخرة بوصفه خبيرا ويتظاهر بأنه يلتمس النصح الأخلاقي لدى أوطيفرون الذي لا بد أن يكون حجة في هذه المسائل.
فإذا تركنا المسألة الأخلاقية جانبا بصفة مؤقتة، وجدنا أن سقراط ينجح في إيضاح ما هو مطلوب منطقيا. فنحن نريد «صورة» المقدس، أعني تعبيرا عما يجعل الأشياء المقدسة على ما هي عليه. ونستطيع الآن باستخدام لغة أقرب إلى المألوف أن نعبر عن المسألة على أساس الشروط الضرورية والكافية. فالحيوان لا يكون إنسانا إلا إذا كان عاقلا، هذا إذا جاز لنا أن نستثني الأطفال الرضع، الذين يبدءون حياتهم بالزحف على أيديهم وأرجلهم كسائر الحيوانات ذوات الأربع، ونستطيع أن نعبر عن ذلك من خلال شكل توجد فيه دائرتان متقاطعتان، فالإنسان وهو اللفظ المطلوب تعريفه هو الجزء المشترك بين الدائرتين، اللتين تشملان على التوالي ما هو عاقل وما هو حيوان، والطريقة التي نصل بها إلى مثل هذا التعريف هي أن نأخذ أحد اللفظين، وهو في هذه الحالة الحيوان، ونحدده باللفظ الثاني، وهو العاقل. فالأول يسمى بالجنس، والثاني يسمى بالفصل، أي ما ينفرد به (أو ينفصل به) نوع الإنسان من بين سائر أنواع الحيوان، ونستطيع أن نقول إن الإنسان حيوان له فصل،
6
هو كونه عاقلا، هذا على الأقل ما تقول به كتب المنطق المدرسية، ولكننا لو تأملنا حولنا لوجدنا أنفسنا نتساءل إن كان هذا التعريف، الذي هو صحيح شكليا يعبر عن الحقيقة، أم أنه في جوهره خطأ ارتكب بحسن نية.
صفحة غير معروفة