حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
ولنلاحظ أنه لا يكفي، من أجل التصدي لانتقاد بارمنيدس، زيادة أنواع المواد التي نعدها أساسية، وإنما ينبغي بالإضافة إلى ذلك أن يكون هناك شيء يجعل المواد الأساسية تمتزج على أنحاء شتى.
وهذا ما يحققه المبدآن الفعالان اللذان قال بهما أنبادقليس، وهما المحبة والنزاع؛ فالوظيفة الوحيدة لهذين المبدأين هي الجمع والتفريق، على الرغم من أنه اضطر إلى أن يتحدث عنهما كما لو كانا بدورهما ماديين؛ لأن فكرة الفاعلية بطريق غير مادي لم تكن قد ظهرت بعد؛ ولذا قال إن هذين المبدأين ماديان أو جوهريان، وأضافهما إلى العناصر الأربعة الأخرى ليكون المجموع ستة. وهكذا فعندما تتفرق العناصر الأربعة، يحتل «النزاع» الفراغ القائم بينها، على حين أنها حين تتحد تربط بينها المحبة برباط وثيق، ونود في هذا الصدد أن نشير إلى أن هناك بعض المبررات للرأي القائل إن المبدأ الفعال ينبغي أن يكون ماديا؛ ذلك لأن العلم الحديث وإن كان قد طور الفكرة القديمة وهذبها، ما زال يرى أن المبدأ الفعال يجب أن يكون له مصدر مادي في مكان ما، حتى لو كان هذا المكان مغايرا لذلك الذي يمارس فيه فاعليته.
ولقد رأينا من قبل أن أناكسيمنيس قد نظر إلى الهواء على أنه مادي ، وإن لم نكن نعرف الأسباب التي بنى عليها رأيه هذا، أما أنبادقليس فإنه يقف على أرضية مختلفة؛ لأنه اكتشف الحقيقة القائلة إن الهواء مادة، وقد توصل إلى ذلك عن طريق إجراء تجارب على الساعات المائية؛ ولذا كان مما يلفت النظر أنه في الوقت الذي استخدم فيه السابقون له كلمة «الهواء
Air » نراه هو يسمي هذه المادة «أثير
Aether » والكلمتان معا يونانيتان، وقد اكتسبت الكلمة الثانية مكانة علمية جديدة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، عندما اقتضت النظرية الكهربية المغنطيسية وسيطا ما لنقل الموجات.
على أن أنبادقليس برغم استحداثه لهذه التجديدات، قد احتفظ بجانب لا يستهان به من النظرية الإيلية، وهكذا نظر إلى المواد الأساسية على أنها أزلية لا متغيرة، ولا تقبل في ذاتها مزيدا من التفسير. وما زالت هذه الفكرة الأخيرة بدورها تشكل مبدأ هاما في التفسير العلمي، وإن يكن ذلك مبدأ لا يصرح به في أحيان كثيرة.
فلتتأمل مثلا مألوفا: إن المرء لو فسر الظواهر الكيميائية على أساس الذرات، لكان من الواجب أن تظل هذه الذرات ذاتها بلا تفسير. أما إذا أراد تفسيرها، فلا بد أن ينظر إليها على أنها تتألف من جزئيات أصغر لا تفسر بدورها.
وهكذا فإن ما يوجد موجود، كما كان الأمر من قبل، ولا يمكن أن ينشأ شيء عما لا يوجد، أو يتحول شيء موجود إلى شيء غير موجود، وهذا كله ينتمي إلى المادية الإيلية بوضوح وصراحة. على أننا نود أن نشير هنا إلى مسألة عامة لم تتمكن فيها تلك الصيغة المعدلة التي وضعها أنبادقليس للمذهب المادي من أن تتخلص من النقد الذي وجهه بارمنيدس؛ تلك المسألة هي أن مجرد الاعتراف بالتغير يحتم على المرء الاعتراف بوجود الفراغ بدوره؛ ذلك لأن إمكان التغير معناه أن من الممكن بنفس القدر أن تتناقص كمية المادة في أي مكان معين إلى أن لا يتبقى منها شيء. ومن هنا فإن زيادة عدد العناصر لا يكفي وحده. وهكذا فإن لبارمنيدس كل الحق في إنكار إمكان التغير ما دام قد أنكر إمكان وجود مكان خال. ولا يمكن القول إن أنبادقليس يساعدنا في التغلب على هذه الصعوبة، وسوف نرى فيما بعد كيف حل أنصار مذهب الذرة هذه المشكلة.
لقد عرف أنبادقليس أن الضوء يستغرق وقتا في الانتقال، وأن ضوء القمر غير مباشر، وإن لم يكن في وسعنا أن نحدد المصدر الذي استقى منه هذه المعلومات. وكان مذهبه في الكون مبنيا على سلسلة من الدورات يبدأ بها مسار العالم، بحيث يكون «النزاع» في الخارج والمحبة في الداخل، وتكون العناصر الأربعة متماسكة. وبعد ذلك يعمل «النزاع» على طرد المحبة حتى تتفرق العناصر المتعددة تفرقا تاما، وتصبح المحبة خارج العالم، وبعد ذلك يحدث العكس حتى نصل مرة أخرى إلى نقطة البدء. وترتبط نظرية الحياة عنده بهذه الدورة؛ ففي المرحلة الأخيرة للدورة، عندما تتغلغل المحبة في الكون الكروي، تتكون أجزاء الحيوانات المختلفة متفرقة، وبعد ذلك حين يعود النزاع مرة أخرى إلى الخارج، تحدث تجمعات عشوائية خاضعة لمبدأ بقاء الأصلح، وحين يبدأ النزاع في الدخول مرة أخرى، تحدث عملية تمايز. ويمثل عالمنا مرحلة متقدمة من هذه العملية، يحكمها بدورها مبدأ تطوري هو مبدأ بقاء الأصلح.
وأخيرا ينبغي أن ننوه باهتمام أنبادقليس بالطب وعلم وظائف الأعضاء؛ فقد أخذ عن الطبيب ألكمايون الكروتوني
صفحة غير معروفة