حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
وقد أتاح له هذا الميراث أن يلتحق بالتعليم الجامعي، فدرس أولا في جوتنجن عام 1809م، حيث اطلع على فلسفة كانت للمرة الأولى، ثم انتقل إلى برلين عام 1811م، حيث تركزت دراساته على العلم أساسا، وقد حضر بعضا من دروس فشته، ولكنه كان يزدري فلسفته، وقد أتم دراسته عام 1813م، عندما نشبت حرب التحرير،
13
ولكن هذه الأحداث لم تثر فيه أية حماسة دائمة، وخلال الأعوام التالية تعرف على جوته في فيمار، حيث بدأ دراساته في التصوف الهندي، وفي عام 1819م بدأ يحاضر في جامعة برلين.
وكان على اقتناع تام بعبقريته الشخصية، ورأى أنه ليس من الأمانة أن يخفي هذه الحقيقة عن بقية البشر، الذين ربما لا يكونون قد عرفوا بها بعد. ولهذا السبب حدد لمحاضراته موعدا هو نفس الساعة التي يحاضر فيها هيجل، وحين لم يجد استجابة من الهيجليين، قرر التوقف عن إلقاء المحاضرات والإقامة في فرانكفورت حيث ظل بالفعل طوال الجزء المتبقي من حياته.
لقد كان شوبنهور، من حيث هو إنسان، مغرورا، يتملكه الشعور بالمرارة والإحباط، وكان تواقا إلى الشهرة، ولكن هذه الشهرة لم تواته إلا في نهاية حياته.
كان شوبنهور قد توصل إلى آرائه الفلسفية في سن مبكرة. فقد ظهر كتابه الرئيسي «العالم إرادة وتمثلا» في عام 1818م، عندما كان في سن الثلاثين بالضبط، وقد لقي الكتاب في البداية تجاهلا تاما، وفي هذا الكتاب قدم شكلا معدلا لنظرية كانت، احتفظ فيه عن عمد بالشيء في ذاته، ولكن شوبنهور، على خلاف كانت، كان يرى أن الشيء في ذاته هو الإرادة، وهكذا ينظر إلى عالم التجربة، كما فعل كانت، على أنه يتألف من ظواهر بالمعنى الكانتي، غير أن ما يسبب هذه الظواهر ليس مجموعة من الأشياء في ذاتها، غير القابلة للمعرفة، وإنما هو الإرادة التي هي شيء في ذاته. وهذا موقف يقترب كثيرا من الرأي الكانتي التقليدي: فقد رأينا أن «كانت» كان ينظر إلى الإرادة على أنها تقع في جانب الأشياء في ذاتها. فإذا مارست إرادتي، كان ما يناظرها في عالم التجربة حركة جسمي. ولنلاحظ، في هذا الصدد، أن كانت هنا لم ينجح بالفعل في تجاوز مذهب المناسبة
Occasionalism ؛ إذ لا يمكن، كما رأينا من قبل، أن تكون هناك علاقة سببية بين الأشياء في ذاتها والظواهر.
وعلى أية حال فإن شويبهور ينظر إلى الجسم على أنه مظهر تكمن حقيقته في الإرادة، وكما هي الحال عند كانت، فإن عالم الأشياء في ذاتها يتجاوز المكان والزمان والمقولات. فالإرادة، من حيث هي شيء في ذاته، لا تخضع بدورها لهذه الأمور، ومن ثم فهي لا زمانية، لا مكانية، مما يعني وحدانيتها، فبقدر ما أكون حقيقيا، أعني بقدر ما يتعلق الأمر بإرادتي، لا أكون متميزا أو منفصلا، بل إن التميز والانفصال إنما هو خداع ينتمي إلى عالم الظواهر. فإرادتي، على عكس ذلك هي الإرادة الواحدة الشاملة.
ولقد نظر شوبنهور إلى هذه الإرادة على أنها في أساسها شريرة، ومسئولة عن العذاب الذي يرتبط حتما بالحياة. وفضلا عن ذلك فإن المعرفة ليست كما هي عند هيجل، منبعا للحرية، وإنما هي مصدر للعذاب. وهكذا فبدلا من تلك النزعة التفاؤلية التي تتسم بها المذاهب العقلانية. سادت لدى شوبنهور نظرة تشاؤمية لا مكان فيها للسعادة، أما الجنس فكان بدوره عملية شريرة، لأن كل ما يفعله التناسل هو أنه يقدم ضحايا جددا للألم والعذاب. ولقد ارتبط هذا الرأي بكراهية شوبنهور للمرأة، إذ كان يعتقد أن المرأة تؤدي في هذا الصدد دورا أكثر تعمدا من دور الرجل.
والواقع أنه لا يوجد سبب منطقي يجعل نظرية المعرفة الكانتية ترتبط على هذا النحو بنظرة تشاؤمية إلى العالم. وكل ما في الأمر أن شوبنهور نفسه لم يكن، بحكم مزاجه، قادرا على أن يكون سعيدا، ومن ثم فقد أعلن أن السعادة شيء يستحيل تحقيقه. وقرب نهاية حياته القاتمة، بدأ العالم يعترف بمؤلفاته، وأصبحت أحواله المالية أفضل إلى حد ما، مما أدى به إلى التحول فجأة نحو المزيد من المرح، على الرغم من نظريته. ومع ذلك فليس من الصواب بالمثل أن نصف الموقف العقلاني المفرط في ثقته بخيرية هذا العالم، بأنه هو الموقف الصحيح. ففي الوقت الذي لم يكن فيه مفكر مثل اسبينوزا على استعداد، من الوجهة النظرية على الأقل، لرؤية الشر.
صفحة غير معروفة