حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
وقد انتقد أنكسيمندر نظرية طاليس الكونية، فما الداعي إلى اختيار الماء؟ إن المادة الأصلية التي صنعت منها الأشياء لا يمكن أن تكون واحدة من الصور المحددة لهذه المادة؛ ومن ثم ينبغي أن تكون شيئا مختلفا عن هذه كلها، شيئا أساسيا أسبق منها؛ ذلك لأن أشكال المادة المختلفة تتنازع فيما بينها بلا انقطاع، فيتنازع الحار ضد البارد، والرطب ضد الجاف؛ فهي تتعدى دواما كل على الأخرى، أو ترتكب «ظلما» بالمعنى اليوناني الذي تدل فيه هذه الكلمة على اختلال التوازن. ولو كان أي من هذه الأشكال هو المادة الأساسية لتغلب على الأشكال الأخرى منذ وقت طويل. إن المادة الأصلية هي ما يسميه أرسطو بالعلة المادية، وقد أطلق عليها أنكسيمندر اسم «اللامحدود»، أي إنها تجمع لانهائي للمادة يمتد في كل الاتجاهات، ومن هذا الأصل ينشأ العالم، وإليه سيعود آخر الأمر.
ولقد كانت الأرض في رأي أنكسيمندر أسطوانة تطفو بلا قيود، نوجد نحن على وجه أحد طرفيها، وهو يفترض فضلا عن ذلك أن عالمنا محاط بعدد لا نهاية له من العوالم الأخرى. ولفظ «عالم» يدل هنا على ما نسميه الآن باسم «المجرة». وتتحكم في الوظيفة الداخلية لكل عالم حركة محورية تجذب الأرض نحو المركز، أما الأجرام السماوية فهي حلقات من نار يحجبها الهواء إلا في نقطة واحدة، ويمكننا تشبيهها بإطار العجلة الذي لا يظهر منه إلا الصمام. وبطبيعة الحال فمن الواجب أن نتذكر أن الهواء كان في نظر اليونانيين في ذلك الحين قادرا على حجب الأشياء وإخفائها.
أما رأي أنكسيمندر في أصل الإنسان فكان «حديثا» إلى حد بعيد؛ ذلك لأن ملاحظته أن الإنسان يحتاج في صغره إلى فترة طويلة من الرعاية والحماية جعلته يستنتج أنه لو كان الإنسان دائما على ما هو عليه الآن، لما تمكن من البقاء. وعلى ذلك فلا بد أنه كان فيما مضى مختلفا، أي لا بد أنه تطور من حيوان يستطيع أن يرعى نفسه في وقت أسرع. وهذه حجة في الإثبات يطلق عليها اسم «برهان الخلف
Reduction ad absurdum » وفيها تستدل من افتراض معين على نتيجة واضحة البطلان، وهي في هذه الحالة أن الإنسان لم يستطع البقاء، فيترتب على ذلك ضرورة رفض ذلك الافتراض. ولو كانت هذه الحجة سليمة؛ أعني لو أن الإنسان كان دائما على ما هو عليه الآن، يترتب عليه أنه ما كان يستطيع أن يستمر في البقاء - وهي نتيجة أعتقد أنها صحيحة - لأصبح في استطاعة هذه الحجة، دون أي برهان آخر، أن تثبت أن هناك بالفعل نوعا من العملية التطورية المستمرة.
غير أن أنكسيمندر لم يكتف بهذه الحجة، بل مضى إلى القول إن الإنسان يرجع أصله إلى أسماك البحر، وأيد ذلك بملاحظات عن حفريات باقية، كما أيده بملاحظة الطريقة التي تطعم بها أسماك القرش صغارها. وبناء على هذه الأسباب كان من الطبيعي أن ينصحنا أنكسيمندر بالامتناع عن أكل الأسماك. أما مسألة ما إذا كان إخوتنا في أعماق البحار يبادلوننا نفس هذه المشاعر الرقيقة، فتلك مسألة لم يقم عليها دليل!
أما ثالث المفكرين المشاهير في ملطية فهو أناكسيمنيس
Anascimenes
الذي لا نعرف شيئا محددا عن الزمن الذي عاش فيه، سوى أنه كان آخر الفلاسفة الثلاثة زمنيا. وتعد نظرياته في نواح معينة خطوة إلى الوراء بالقياس إلى أنكسيمندر، ولكن على الرغم من أن تفكيره كان أقل ميلا إلى المغامرة، فإن آراءه في مجملها كانت أقدر على الاستمرار. إنه يرى مثل أنكسيمندر أن هناك مادة أساسية، غير أن هذه في نظره مادة محددة، هي الهواء؛ فأشكال المادة المختلفة التي نراها حولنا تنشأ من الهواء عن طريق عمليتي التكاثف والتخلخل. ولما كانت هذه طريقة أخرى للتعبير عن الفكرة القائلة إن جميع الاختلافات إنما هي اختلافات في الكم أو المقدار، فلا بأس على الإطلاق عندئذ من أن نقول بمادة واحدة تكون هي الأساس. وهو يرى أن الهواء هو قوام النفس، وهو يحفظ للعالم حياته مثلما يحفظ لنا حياتنا، وهذا رأي سيقول به الفيثاغوريون فيما بعد. أما في نظريته الكونية فقد سار أناكسيمنيس في الطريق الخطأ. ومن حسن الحظ أن الفيثاغوريين قد اقتفوا أثر أنكسيمندر في هذه الناحية، ولكنهم في بقية النواحي كانوا أميل إلى التأثر بأناكسيمنيس، وهو بمعنى ما أمر له ما يبرره؛ فقد كان أناكسيمنيس آخر ممثل لهذه المدرسة، وهو الذي حمل تراثها كله.
وفضلا عن ذلك، فإن نظريته في التكاثف والتخلخل كانت هي التي ختمت بحق نظرة المدرسة الملطية إلى العالم.
لقد كان فلاسفة ملطية رجالا ذوي مزاج يختلف عن أولئك المتخصصين الذين نطلق عليهم الفلاسفة في أيامنا هذه؛ فقد كانوا منهمكين في الشئون العملية للمدينة، وكانوا قادرين على مواجهة كافة الاحتمالات. ولقد رأى البعض أن نظريات أنكسيمندر قد عرضت في ثنايا دراسة عن الجغرافيا بالمعنى الواسع، وكانت العناوين الباقية لدينا من دراسات أصبحت الآن مفقودة تعني «تفسيرات للطبيعة المادية للأشياء». وهكذا كان نطاق اهتمامهم واسعا، وإن لم تكن طريقة المعالجة على الأرجح شديدة العمق. ولا شك أن احتجاج الفيلسوف هرقليطس فيما بعد إنما كان منصبا على هذا النوع من «الإلمام من كل شيء بطرف».
صفحة غير معروفة