حكمة الغرب (الجزء الأول): عرض تاريخي للفلسفة الغربية في إطارها الاجتماعي والسياسي
تصانيف
بعد سقوط الأخير في عام 1529م. ولكن بقاء مور في السلطة لم يدم طويلا؛ فقد كان معارضا لطلاق الملك من كاترين من أراجون
Catherin of Aragon
واستقال من منصبه عام 1532م. وقد أثار غضب الملك عليه عندما رفض قبول دعوة لحضور تتويج آن بولين
Anne Boleyn . وعندما صدر قانون السيادة في عام 1534م وجعل من الملك رئيسا للكنيسة الجديدة، رفض مور أن يقسم اليمين، فأرسل إلى برج لندن، وحوكم في عام 1535م حيث أدين بتهمة الخيانة بسبب قوله إن البرلمان لا يملك أن يجعل من الملك رئيسا للكنيسة، وحكم عليه بالإعدام بسبب هذا الرأي. وهكذا لم يكن التسامح في الأمور السياسية سمة من سمات العصر.
كان مور كاتبا غزير الإنتاج، ولكن معظم كتاباته لا تكاد تقرأ اليوم. وترتكز شهرته كلها على عمل خيالي سياسي يشتهر باسم «اليوتوبيا»، وهو كتاب يعرض نظرية اجتماعية وسياسية تأملية، تستلهم، كما هو واضح، جمهورية أفلاطون، ويتخذ هذا العمل شكل رواية لبحار أغرقت سفينته، فعاش خمس سنوات في مجتمع الجزيرة هذا. وهو يحرص، مثل أفلاطون، على مشاعية التملك، ويقدم لذلك نفس الأسباب، فحيثما تكون هناك ملكية خاصة، لا يمكن أن يقوم احترام للصالح المشترك. وفضلا عن ذلك فإن الناس إذا امتلكوا الأشياء انقسموا على أنفسهم بقدر ما تختلف ثرواتهم. وتسلم «اليوتويبا» مقدما بحقيقة أساسية، هي أن الناس ينبغي أن يكونوا جميعا متساوين. ويترتب على ذلك أن الملكية الخاصة مفسدة، ومن ثم لا ينبغي السماح بها. وعندما يأتي إلى أهل اليوتوبيا زائر يحدثهم عن المسيحية، يكون السبب الأساسي لرضائهم عنها هو ذلك الطابع المشاعي لتعاليمها الخاصة بالملكية.
ويصف مور تنظيم هذه الدولة المثلى بتفصيل كبير. فهناك عاصمة وثلاث وخمسون مدينة أخرى ، مبنية كلها على نفس النمط، وبها مساكن متماثلة يستطيع أي واحد أن يدخل أيا منها؛ ذلك لأن عدم وجود ملكية خاصة يجعل السرقة أمرا لا معنى له . وتنتشر في الريف مزارع تدار كلها على نحو مماثل. أما عن الملبس، فإن كل شخص يلبس نفس الملابس، باستثناء تمييز مفيد، وإن كان ثانويا، بين ملابس النساء المتزوجات وغير المتزوجات، وتتسم الملايس بأنها غير ملفتة للنظر، وهي تظل دائما على ما هي عليه، أما تقلبات الموضة فلا يعرفها أحد. وتسير حياة العمل عند جميع المواطنين على نفس الوتيرة. فهم جميعا يشتغلون ست ساعات في اليوم، ويعودون في الثامنة مساء ويستيقظون مرة أخرى في الرابعة صباحا. ويركز أولئك الذين يملكون الاستعداد للمعرفة على جهودهم العقلية «ولا يقومون بأي عمل آخر.» ومن هذه الفئة تختار الهيئة الحاكمة. أما نظام الحكم فهو نوع من الديمقراطية النيابية عن طريق اقتراع غير مباشر وينتخب رئيس الدولة مدى الحياة، شريطة أن يحسن التصرف، فإن لم يفعل كان من الممكن عزله، كذلك تخضع الحياة الاجتماعية لقواعد صارمة. أما عن العلاقات مع البلاد الأجنبية، فإنها تقتصر على الحد الأدنى الأساسي. ولا وجود للحديد في الدولة الفاضلة؛ ومن ثم ينبغي استيراده. ويفرض التدريب العسكري على الرجال والنساء، وإن كانت الحرب لا تشن أبدا إلا دفاعا عن النفس، أو مساعدة الحلفاء أو أمم مضطهدة، ويتم القتال عن طريق مرتزقة كلما أمكن ذلك. ويتم إنشاء صندوق من المعادن النفيسة عن طريق التبادل التجاري من أجل دفع أجور القوات المرتزقة في زمن الحرب. أما بالنسبة إلى أهل البلاد أنفسهم فإنهم لا يحتاجون إلى المال، وحياتهم متحررة من التعصب والتقشف. غير أن ثمة قيدا واحدا بسيطا. فالملحدون، وإن كان يسمح لهم باعتناق آرائهم دون تدخل، لا يتمتعون بمركز المواطنين، ولا يمكن أن يدخلوا الحكومة، وهناك عمال يشتغلون بالسخرة في الأعمال الوضيعة، يجلبون من بين صفوف المحكوم عليهم في جرائم خطيرة، أو من الأجانب الذين هربوا لكي يتجنبوا العقاب في بلاهم ذاتها.
ولا جدال في أن الحياة في مثل هذه الدولة ذات النظام المحكم ستكون مملة إلى حد لا يطاق، وتلك في الواقع سمة تشترك فيها كافة الدول المثلى. غير أن الشيء الذي يهمنا أكثر من غيره في معالجة مور لهذا الموضوع، هو تلك النظرة التحررية الجديدة إلى مسألة التسامح الديني، ذلك لأن حركة الإصلاح الديني كانت قد هزت المجتمع المسيحي في أوروبا وزعزعت موقفه المستسلم إزاء السلطة. وقد تحدثنا من قبل عن وجود شخصيات سبقت هذه الأحداث ودعت من قبلها إلى التسامح في الأمور الدينية، وحين أدت حركة الإصلاح إلى انقسام ديني دائم في أوروبا، كان من الضروري أن تسود فكرة التسامح بمضي الوقت؛ ذلك لأن البديل الآخر، وهو الإبادة والقمع بالجملة، كان قد جرب وتبين في النهاية أنه غير مجد. غير أن الفكرة القائلة إن من الواجب احترام المعتقدات الدينية للجميع كانت في القرن السادس عشر لا تزال غريبة إلى الحد الذي يكفي لجعلها مثيرة للانتباه.
ولقد كان من نتائج حركة الإصلاح الديني أن أصبح الدين في أوروبا مرتبطا بالسياسة بصورة أوضح، وكثيرا ما كان يقوم على أساس قومي، كما هي الحال في إنجلترا. ومن الواضح أن هذا ما كان يمكن أن يحدث لو ظل هناك مذهب ديني شامل هو وحده السائد. ولقد كان هذا الطابع السياسي الجديد للولاء الديني هو الذي انتقده مفكرون مثل مور عندما امتنعوا عن تأييد حركة الإصلاح. ولقد رأينا من قبل في حالة إرازموس كيف أنهم كانوا متفقين في الأساس على ضرورة إيجاد نوع من الإصلاح، غير أنهم كانوا ينتقدون العنف والنزاع الحاد الذي اقترن بظهور عقيدة منفصلة كل الانفصال. ولا جدال في أنهم كانوا في ذلك على حق تماما. ولقد ظهر الطابع القومي للانقسام الديني في إنجلترا بوضوح تام؛ إذ كانت الكنيسة التي أقيمت حديثا تصلح تماما لكي تكون جزءا من الإطار السياسي للجهاز الحكومي، وفي الوقت ذاته لم يكن الانفصال في بعض جوانبه بنفس العنف الذي كان عليه في البلاد الأخرى؛ إذ كان هناك تراث قديم العهد من الاستقلال النسبي عن روما. ومنذ أيام وليام الفاتح أمر هذا الحاكم على أن يكون له صوته في تعيين أصحاب المناصب الكنسية. وما زال الاتجاه المضاد لروما في الكنيسة الجديدة باقيا في بريطانيا حتى اليوم، متمثلا في المحافظة على وراثة العرش بين البروتستانت، كما أنه ظل قائما في الولايات المتحدة حتى عام 1960م في ذلك القانون غير المكتوب الذي لم يكن يسمح لأي شخص تابع للكنيسة الكاثوليكية الرومانية بأن يكون رئيسا للجمهورية.
6
لقد رأينا أنه كان هناك، قبل أن تهب عاصفة حركة النهضة ببضعة قرون، تغير تدريجي في المناخ الثقافي هدم الآراء القديمة عن سيطرة الكنيسة. أما الأسباب التي أدت إلى هذا التغيير الثوري فهي متنوعة ومتشابكة. فعلى السطح الخارجي يبدو الأمر كما لو كان تمردا على سلطة رجال الدين في التدخل بين الله والإنسان. غير أن هذا المبدأ السليم (مبدأ عدم التدخل) ما كان ليشق طريقه وحده لو لم تكن الكنيسة ذاتها قد لفتت أنظار الناس، بمفاسدها، إلى التباين الشديد بين ما تعظهم به ومسلكها الفعلي، ففي كثير من الأحيان كان رجال الكنيسة يملكون أراضي واسعة. وما كان هذا ليعد في ذاته أمرا مذموما لو لم يكن من الصعب التوفيق بين تعاليم المسيح وبين السلوك الدنيوي لكهنته. أما عن مسائل المعتقدات الدينية فإن أوكام كان قد قال من قبل إن المسيحية يمكن أن تسير في طريقها بغير السيطرة الجامحة لأسقف روما. وهكذا فإن جميع عناصر الإصلاح الشامل للحياة الدينية للعالم المسيحي كانت موجودة بالفعل في إطار الكنيسة، ولم يتطور السعي إلى الإصلاح بحيث يصبح انقساما حاسما، في النهاية، إلا نتيجة لعوامل سياسية.
صفحة غير معروفة