الغيبة وغرور المرء بنفسه
كنت فيما مضى من أيام الشباب ورعا تقيا، طاهر النفس نقيا، أصوم النهار وأقوم الليل، وأقضي زمني في التسبيح بحمد الواحد القهار، وإني لأجلس ليلة إلى والدي والكتاب الكريم بين يدي، وقد أخذ النوم بمعاقد أجفان من كانوا بقربنا، وإذا بي أشعر بالعجب قد داخلني لقيامي ونوم من حولي، فقلت لأبي: أليس في هؤلاء رجل رشيد يحيي الليل بالركوع والسجود؟! هل أصابتهم غشاوة، أم خدعتهم تلك الحياة حتى فضلوا النوم والهجوع على القيام والصلاة؟!
فنظر إلي والدي نظرة الحكيم، وأجابني إجابة الخبير العليم: يا حبذا لو كنت مثلهم ونمت نومهم؛ فإن الله يحب منك القعود عن عبادته، ويبغض فيك القيام لتأكل لحم عبيده. واعلم يا ولدي أن الصلف والإعجاب والغرور أدوات الدمار، وأن عجبك بنفسك يؤدي بك إلى استصغار شأن غيرك، ولو أنك ترى شخصك كما يراك الواحد القدير لرأيته أقل من ذرة، وأدنأ من تمرة.
نحن أقرب إليه من حبل الوريد
قمت يوما في المسجد الأقصى بدمشق أعظ الناس في حلقة رجال مزدحمين ملتحمين، وإذا هم حاضرو الأجسام، منصرفو الأذهان والأحلام؛ فعلمت أنهم لم يتركوا بعد سبل الظلمة والضلالة، ولم يسلكوا طرق النور والهداية، ورأيت أن وعظي لو لقي الشعر لحلقه، أو الصخر لفلقه، وأن قلبا لم ينضجه ما قلت لنيئ، ولكن كيف تشعل النار العود الأخضر؟! وكيف يطهر الوعظ نفسا لا تطهر؟! وإني لكذلك ألوم نفسي على تعليم تلك الأنعام، وأؤنب ضميري على صرف زمني وعلمي في تفهيم صغار الأحلام إذ خطر ببالي أن أفسر قوله تعالى:
نحن أقرب إليه من حبل الوريد .
فهاج نفس ما تضمنته تلك الآية الكريمة من المعنى الجميل، والرمز الجليل، فاندفعت كالسيل الجارف أشرح للقوم قرب الله وبعده، وعطف الحبيب وصده، حتى ثملت من الطرب، وأوشك السرور أن ينال مني أكثر مما أود؛ وإذا برجل من أهل الرشاد قد فقه المبنى، ووقف على المعنى، وهو في آخر صف من صفوف الملأ؛ فقام يصيح سرورا، ويرقص فرحا وحبورا، فقلت للقوم: الحمد لله الذي جعل فيكم واحدا يعقل، وسبحانه فتح قلب البعيد، وأضاء بصيرته، وجعل على فؤاد القريب غشاوة؛ فهو لا يرى الحق مهما ظهر.
مخافة الله
رأيت وليا من أولياء الله راقدا على شاطئ البحر وهو يتضور ألما، ويشكو جراحا أصابته منذ أنشب وحش ضار فيه أظفاره فمزق أطماره، ونهش لحمه، ودق عظمه، فقلت: كيف أنت؟ فقال: أحمد الله الذي لا يحمد على مكروه سواه؛ لأنه أصابني في جسدي ولم يصبني في نفسي؛ فلست أخشى غير وقوعي في حبائل الشيطان، واندفاعي في طريق البغي والعصيان.
ملك في النعيم وتقي في الجحيم
صفحة غير معروفة