وكلاهما بالطبع خاض رحلة عبورية ومخاطرات إلى أن تعاوده الدنيا وتزول عنه اللعنة، فيعاود استرداد ملكه وصولجانه. •••
لذا راعيت في هذه المحاولة الدراسية ما يلائم خصائصنا بالنسبة للتصنيف، من ذلك العلاقات من طبقية وقبائلية تفضي إلى الأنساق القرابية ونظم الزواج والميراث.
كما راعيت الأنيزمية الطقسية وما تقتضيه من ذهن غيبي أو جبري يفضي بدوره إلى آفات القدرية والسلفية، والاعتماد على البركة وتوابعها في مواجهة العلم.
بالإضافة إلى مراعاة شعار الانتقالات، خاصة بين أطوار العمر من ولادة وزواج وموت بما لا يغفل وضع المرأة، وكافة الاضطهادات من عبودية فئوية طائفية، وأفقية تتصل بالانقسامات النوعية، وطرق التربية، واضطهادات أطوار العمر بما يفضي في مثل مجتمعاتنا السلفية هذه إلى تقديس الشيخوخة والتبرك بالشيوخ، والتجبر في إطاعتهم، وإطاعة الوالدين بعامة.
أما الذين يقللون من أهمية ولا جدوى جمع ودراسة فابيولات وخرافات الجان والسحالي والحيات الزانية، والخصائص الصوتية لجلود القمل البري السوداني حين تشد إلى طبل النحاس، وخوارق الأطفال القدريين المحجبين منذ بطون أمهاتهم، ثم ذلك الفيض من التفنن في ذكر الطعام وأصنافه، ومشهياته وعوالم قصور ومدن ما تحت الأرض المسحورة، وتلك المجتمعات الاشتراكية الفاضلة الخيالية عن مدن دول ألغيت منها النقود ومقاولات البيع والشراء، ولكل ما يحتاجه، والنفي والطرد مصير الجشعين والخطافين.
فالذين يقللون من أهمية ولا جدوى هذه الحواديت بدعوى أنها تنتمي إلى عوالم آفلة منقضية، فيكفي انتشار الترانزستور، وإضاءة القرى وإحلال العامل البروليتاري المكوكي لكي ينقشع كل هذا ويذوى ويموت من تلقائه؛ هؤلاء واهمون لا يضعون المبضع على أصل الداء.
صحيح أن «عبد الله الطوخي» في إحدى قصصه القصيرة لاحظ اختفاء حكايات عفاريت قريتهم ونداهاتها وجنياتها، التي كانت منتشرة على طول القرية وأزقتها وسواقيها الخربة وحقولها الممتدة على مشارف المنصورة حين دخلت الكهرباء، ونفس الشيء تلمسه قصاصنا «فهمي حسين» مع دخول الكهرباء قريتهم، وتبدد فلول وخزعبلات الليل، كذلك فقد أبدى «أحمد بسام ساعي»
20
ملاحظة قيمة في حكاياته التي جمعها من اللاذقية حول علاقة هذه الحكايات بالليل والإظلام، وكيف أن كثيرا من الرواة والحكواتية كانوا يرفضون القص إلا في الليل، وكأن الليل هو مستودع الحكايات فلا تظهر إلا فيه، «وما يزال يتردد إلى اليوم المثل الشائع لدى سكان الفرات: اللي يخورف بالنهار يصير حمار».
والملفت هنا أن هذا المثل المأثوري يعرف هذا التراث بأنه تخاريف أو خرافة، لكن ما يمكن قوله: أن ذلك الإظلام المصاحب للخرافة واصل تعايشه قبل دخول الكهرباء على شكل هجرة جماعية إلى كافة معتقداتنا قبل المعرفة أصلا بالكهرباء منذ أكثر من ألف سنة.
صفحة غير معروفة