ومن المضحكات أن عيسى أعيى عن إقناع شريكه أن تظل الشركة، وأن انحلالها بعد سنة يقلل الثقة بها، وأن بقاءها أربح للاثنين، وأن المأمول أن تزداد أرباحهما أضعافا في السنين القادمة؛ لأن ما مضى لا يدعى زمن تجارة وربح بل زمن تأسيس ومباشرة، وعندما قال له: إذا كان لا بد من القسمة، فهو يشتري المحل، أجابه دعيبس بقوله: مليح، أعطني ثمن حصتي!
ومن أين لعيسى ثمن حصة شريكه؟ ولكن عيسى نفسه فهم معنى القسمة التي يريدها شريكه؛ ولهذا ضحك ضحكة صفراوية ممزوجة بألم ويأس وقال له: أما أنا، فإذا بعتك حصتي فماذا تدفع لي عنها؟
فأجابه: أدفع لك بقدر ما لك في الدفتر وحبة مسك.
فقال عيسى: هذا في الشرع عدل، فإذن أعطني مالي في الدفتر كفاية تبقى حبة المسك، فهذه من فضلك وكرم سجاياك، وأنا ممتن لك من هذا السخاء، وتناول عيسى الدفتر فضرب على اسمه وأخذ قبعته، وسار نحو الباب، وقبل أن يخرج تطلع إلى وجه شريكه زاورا وقال له: خاطرك يا دعيبس؛ فقد انتهى ما بيننا الآن، وأما حبة المسك فلا حاجة لي بها، فخلها في شواربك.
في اليوم التالي كان محل د. أسمر وشركاه فاتحا بابه كالعادة، وعوضا عن مدبره وأحد أعضائه عيسى الباشق كان جالسا فتى يشتغل في الدفاتر بأجرة ثمانية ريالات في الأسبوع.
ولماذا يشرك دعيبس غيره على ربح ماله في حين أنه يستطيع أن يستأجر فتى بأجرة زهيدة يقضي محل الشريك.
أما عيسى فاتفق مع محل سوري آخر يمثله بالمساطر في الداخلية، فأظهر - بادئ ذي بدء - قوة غريبة في كسب الزبائن لمحله الجديد، حتى صارت مداخيل المحل خمسة أضعاف الماضي، ولكنه في آخر السنة عاد إلى نيويورك للحساب فرحا بنجاحه، وآملا بزيادة التقدم في السنوات الآتية؛ لأنه اعتبر تلك السنة زمنا للتأسيس، فكان يبني آماله للغد، وعندما جلس «السلزمان» مع «الباظ» للحساب رأى منه كل تساهل وغيرة، وفي الحال رصد صاحب المحل حساب عيسى بحوالي مالية قدرها ثلاثمائة ريال، مع قوله له إنه يعز عليه كثيرا أن يصرفه، ولكنه مدفوع لذلك بعامل الخوف من المستقبل؛ ولهذا يرى أن يخفض المصاريف دفعا للمحاذير.
وعبثا حاول عيسى إقناع «باظه» بأن خوفه لا محل له، وأن المستقبل يبسم لهما عن نجاح أكيد، ولما أعيى تناول برنيطته، واستلم الباب يبحث له عن عمل في محل آخر.
واتفق عيسى اتفاقات عديدة مثل اتفاقه الآنف مع بيوتات سورية عديدة، كان في نهاية كل سنة يزيد في أرباح المحل، وهو يخرج قانعا بالسلامة حتى مل العمل، ويئس من النجاح، فلاذ إلى المسكرات والقمار، وهو لا يزال يعمل يوما فيكسل شهرا إلى هذا الحين، والناس يتعجبون لحاله، ويسندون فشله إلى أمور هو بعيد عنها بعد الأرض عن السماء.
صادفته مرة في إحدى القهاوي، فملت إليه أحادثه في أمور هذه النزالة، ففتح إلي جعبة أسراره وقال: يظنني الناس غير ناجح. ولعمري، إني أسست في السنة الأولى محل د. أسمر وشركاه فأكل ثمرة أتعابي فتى استأجره دعيبس بثمانية ريالات في الأسبوع؛ إذ لم يمض عليه إلا أشهر قليلة حتى سرق المحل، وزور على صاحبه حوالات بأكثر من نصف رأس المال، فاضطر المحل إلى الإفلاس، وأما الفتى فقد صرف المال على البنات، وبعدما قضى سنتين في الحبس صادفته في الشارع، فأقر لي أنه سرق مضطرا؛ لأن المعاش لم يكن وافيا.
صفحة غير معروفة