في بلاده كان أصحابه لا يعرفون القراءة والكتابة، ولم يجسر في كل حياته هناك على الانفراد ببنت من البنات، ولكنه في أميركا صار أصحابه في العمل من أجمل الشبان هنداما وأحسنهم تهذيبا، وكان محبوبا من عدد من البنات الحسناوات، اللواتي كن يتحاسدن على معاشرته.
إلا أن هذا السلوك لم يكن ليسمح لرفيق أن يتقدم في ماليته؛ لأن الأصحاب والصديقات والتنزه والتفرج وما يدعونه «سبورتنس» كان ماحقا لكل ريال يفضل من معاشه بعد نفقاته الخاصة.
وكان أبوه يكثر من الرسائل إليه، طالبا من الله أن يسعده ليسعد أهله المحتاجين، ويستقطر قلبه تحننا على عائلة أبيه الكثيرة الأفراد، ويذكره أن جارهم الذي رهن البيت عنده لقاء خمسين ليرة قيمة «الناولون» له يشد على أبيه الخناق كلما رآه، وهو يخشى أن يجبره الجار في المحاكم على تحويل البيت لاسمه إذا كان لا يدفع المبلغ مع الفائدة.
كل هذا بالأيام لم يعد بمؤثر على ضمير رفيق أي تأثير كان، فكانت أجوبته إلى أبيه مقتصرة على المواعيد إلى فرص أحسن لا بد أن تصدفه حتى عيل صبر الوالد، فاضطر إلى بيع الدار والقدوم إلى أميركا مع العائلة؛ لأنه عرف أن ابنه تأمرك ونسي أصله، وعاف أهله ولم يعد يبالي بحالة ذويه، ماتوا أو عاشوا سواء عنده.
ولما عرف رفيق عزم أبيه على القدوم مع عائلته كانت رسائله الواحدة تلو الأخرى يوقفه عن هذا الأمر، مدعيا أن أحوال أميركا ليست جيدة، وقدومه إليها يجلب لهم وله التعاسة، إلا أن الحالة التي كان يعانيها الأب لم تعد محمولة عنده؛ ولهذا بالرغم من تخويفات ابنه باع الدار، فوفى ما عليه لجاره منها وأم أميركا متكلا على الله؛ لعله يستطيع أن يعوض ما خسره بجريرة ابنه البكر رفيق المذكور.
ولما رأى رفيق عناد أبيه هلع قلبه وصار حزينا لا يطيق عزاء، كأنما انقضت عليه صاعقة غير حاسب لها حسابا، ولكنه اضطر أن يستر الحال ويصبر على بلواه، وكان لا بد أن ينقطع مدة عن عشرائه وأن يبتعد إلى أمد عن طرق معاشراته؛ ضنا ببعض المال اللازم له في أول عهد قدوم أهله لما يلزمهم من نفقات بتأسيس بيت وألبسة، إلى ما هنالك.
وغني عن الشرح أن صبر رفيق فرغ من أول أسبوع لوصول أهله؛ فقد انفجر صدره عليهم انفجارات هائلة، وأسمعهم غليظ الكلام، وشكا دهره لكونه ابنا لهم وهم بحالتهم كالفلاحين، ولم يستح أن يقول أمامهم إنه يخجل أمام الغرباء عندما يعرفون أنهم أهله.
وازداد سلوك رفيق هذا سوءا عندما أعيى بإقناع والده بأن يلبس قبة مكوية وربطة، ووالدته بلبس البرنيطة والفرو؛ فإن والده صرح له أنه جاء إلى أميركا لا ليلبس مثل الأميركان بل ليشتغل، ويعوض عن خسارته ويقوم بأود صغاره، وأمه قالت له إنها قاربت سن الشيخوخة وإن صباها قد ولى، فهي لا تريد أن تشابه السيدات بهيئتها، وعليها واجبات نحو بيتها الجديد والواجب نحو بنيها وزوجها أن تقتصد.
وكان رفيق إذا صدف أحدا من أهله في الشارع يحاول إما الرجوع بطريقه أو الانتقال إلى جانب آخر؛ لئلا يمر أحد معارفه فيعرف أنه أحد هؤلاء الناس. وكان لا يتكلم مع أحد منهم إلا تحت سقف المنزل.
أما الأب، فعرف بداخله ألا أمل بابنه رفيق؛ ولهذا شمر عن ساعد الجد فدخل ميدان العمل مجتهدا، وكذلك أمه وإخوته الصغار، فالكل كانوا يعملون؛ لكي ينهضوا من عثرتهم، لا يهمهم من شئون البلاد التي حلوا فيها إلا العمل، ولما يئس رفيق من إصلاح أهله الخارجي، وضاق ذرعه بهم ودعهم إلى إحدى مدن الداخلية.
صفحة غير معروفة