ولكنه بعد مرور سنوات على حياته تلك المرة أراد أن يتوب فلم يفلح؛ لأن الناس في قريته لم يصدقوا توبته، والحكومة لم تكن لتأبه لها، بل كان رجالها يلاحقونه من قرية إلى أخرى حتى انقطع رزقه، وكاد يجوع في حين لا أمل له بالخلاص من عيشه على تلك الصورة.
ولهذا هاجر سمعان، أما كيفية حصوله على المال الذي لزمه للنفقات فأمر لا يحتاج إلى إيضاح؛ لأن من اعتاد شيئا وأراد الرجوع عنه فلم يستطع لا بد أن يعود إليه. فاللص إذا تاب ثم احتاج إلى مال يعود لصا. وهكذا سمعان، رأى أن الضرورة تدعوه للهجرة إلى أميركا هربا مما هو فيه من سوء الحال والضغط الشديد عليه من الحكومة، وبالرغم من افتكاره بالتوبة عاد مضطرا إلى طرق الحرام ليقضي لبانته.
وجاء سمعان إلى أميركا، وكان قد درس حياة السوري فيها من بعض السوريين الذين صادفهم في مرسيليا، وعلى الباخرة من الذين كانوا سابقا في أميركا، ثم هاجروا إليها ثانية، فعرف منهم أن مثله لا يستطيع أن يأتي بحركة إلا إذا كان يقبل أن يعيش أجيرا يرضى بالكفاف من العيش؛ ولهذا قبل أن يضع رجله على اليابسة صمم النية على أن يقوم بمشروع كبير يجمع فيه المال الكثير من أبناء بلاده المنتشرين في طول أميركا وعرضها.
ولم يلبث سمعان بضعة أيام في نيويورك حتى استدل على بعض عناوين لأناس يعرفهم في الداخلية، فقصدهم ونزل عليهم، وكان على غير ما يأملون أن يروه مثال العفة واللطف والمسكنة.
والصيت إذا تحرك يسبق الريح، وقد تحرك صيت سمعان بأنه قدم إلى أميركا؛ ليكفر عن خطاياه التي ارتكبها في سوريا، وأنه تاب إليه تعالى، وقد نذر ما بقي من حياته في خدمته؛ ولهذا جاء ليجمع من أهل بلاده نذورا لكنيسة وطنية تبنى في قريته.
سمعان الشقي قادم إلى أميركا ليجمع نذورا! ولماذا لا؟ فما على المشكك إلا أن يجتمع به خمس دقائق فيرى أنه بالحقيقة تغير من شيطان جهنمي إلى ملاك أرضي؛ رجل مسكين يبدأ تناول الطعام برسم الصليب وينهي الأكل بالصلاة، ويجلس في قوم لا يتكلم إلا إذا سئل؛ لا يتدخل في خصوصيات الناس، ولا يقول إلا الشيء المرضي للجميع؛ يكثر من ذكر آيات الله وطاعته في كل حال من الأحوال؛ وإذا ذكر أمامه أحد الناس تضرع إلى الله تعالى بتوفيقه؛ وإذا نفحه أحدهم نذرا يغدق عليه الأدعية الحارة؛ إلى ما هنالك من هذا السلوك الذي كان أدعى إلى دهشة العارفين إياه أو السامعين به من أن يروا كوكب الصبح آتيا بمركبة نارية بجانب المسيح.
ولهذا سمي في ديار الهجرة «سمعان النادر»؛ لأنه نذر نفسه لله تعالى، وتاب عن ضلاله مؤمنا بالآخرة، وعلى هذا الاسم طارت شهرة الرجل فطفق يجول في أميركا من بلد إلى بلد آخر ومن ولاية إلى أخرى، يختلط بالناس مظهرا لهم كل مسكنة، داعيا إياهم إلى تكريس قليل من المال في خدمة الله لقاء تكريسه كل حياته من أجله تعالى.
وكان أن صيته وصل إلى البلاد، وهناك انتشر بين جميع السكان أن سمعان قد نذر حياته لخدمة الرب، وفي البداءة صعب عليهم التصديق، إلا أن الأخبار الواردة متتابعة من كل جهة كانت تؤيد الخبر، حتى أمن عليه الجميع وصدقوه، فصار اسم سمعان عندهم يعني التوبة والندامة، بدلا من الرذائل بكل فروعها.
أما سمعان فثابر على عمله مثابرة شجعه عليها إقبال الناس على مشروعه وتألبهم على مساعدته، حتى إنهم في بعض الأماكن أنشئوا من أجله لجنات للأخذ بناصره، وعينوا من قبلهم وفودا يدورون معه من منزل إلى آخر ليجمع ما تجود به أيادي المحسنين، فكان الناس يغدقون عليه الأموال بعضها للنذر وبعضها تعطى إليه بصفة شخصية لنفقاته الخاصة، فكان سمعان يضع الكل في جيب واحد، قائلا للدافعين إنه لم يأت أميركا ليجمع لنفسه بل لله؛ ولهذا يخلط الكل معا ليذهب إلى صندوق الله.
وكان يجمع بقوة تأثيره على عقول الناس الذين عرفوه لصا وقاطع طريق، ثم رأوه تقيا وناذرا حياته لله، أما الغرباء الذين عرفوا عنه شيئا، فكان أكثرهم يكثر عليه السؤالات، وبعضهم يسأله عن ورقة الإذن من مطران أو خوري أو جمعية، فلم يكن يحير جوابا على ذلك، ولكنه كان يستعين بالذين حوله، وهؤلاء يقصون على الناس تاريخه المجيد وكيف انقلب من شيطان إلى ملاك ومن ذئب إلى حمل، وهذا كان كافيا شر السؤالات، ومغنيا عن ألف إذن أو ورقة أو نيابة.
صفحة غير معروفة