حكم النبي محمد للفيلسوف تولستوي
من كان محمد؟
من مقدمة المؤلف الهندي
الأحاديث النبوية
خطاب الإمام محمد عبده لتولستوي
رثاء أحمد شوقي لتولستوي
رأي تولستوي في الحجاب والزواج وما بينهما
النبي محمد
أقوال الكتاب في الإسلام والمسلمين
حكم النبي محمد للفيلسوف تولستوي
من كان محمد؟
من مقدمة المؤلف الهندي
الأحاديث النبوية
خطاب الإمام محمد عبده لتولستوي
رثاء أحمد شوقي لتولستوي
رأي تولستوي في الحجاب والزواج وما بينهما
النبي محمد
أقوال الكتاب في الإسلام والمسلمين
حكم النبي محمد
حكم النبي محمد
تأليف
ليو تولستوي
ترجمة
سليم قبعين
كلمة لمعرب الكتاب
بقلم سليم قبعين
الرجل العظيم يحترم الرجل العظيم، والنفوس الفياضة تصبو إلى نظرائها.
عرف قراء اللغة العربية ما اتصف به الفيلسوف الكونت لاون تولستوي من الجرأة ودفاعه عن الحق الصراح دون أن يخشى لومة لائم أو نقمة ناقم، حتى كان يخاطب قيصر روسيا ورجال حكومته مبينا لهم حالة الرعية والبلاد وما تحتاجه من الإصلاحات التي غفلوا عنها، والواقف على نظامات روسيا وأحكامها المطلقة لا يسعه إلا أن يعجب بتلك الشجاعة الأدبية الكامنة في جوانح الفيلسوف وعدم رهبته تلك السلطة المطلقة.
رأى الفيلسوف تحامل جمعيات المبشرين في قازان من أعمال روسيا على الدين الإسلامي، ونسبتها إلى صاحب الشريعة الإسلامية أمورا تنافي الحقيقة تصور للروسيين تلك الديانة وأعمال صاحب تلك الشريعة بصورة غير صورتها الحقيقية؛ فهزته الغيرة على الحق إلى وضع رسالة صغيرة اختار فيها عدة أحاديث من أحاديث النبي محمد - عليه الصلاة والسلام - ذكرها بعد مقدمة جليلة الشأن واضحة البرهان؛ وقال: هذه تعاليم صاحب الشريعة الإسلامية؛ وهي عبارة عن حكم عالية، ومواعظ سامية؛ تقود الإنسان إلى سواء السبيل، ولا تقل في شيء عن تعاليم الديانة المسيحية، ووعد بأنه سيضع كتابا كبيرا يبحث فيه أبحاثا إضافية بعنوان «محمد».
ولما اطلعت على هذه الرسالة راقني ما جاء فيها من الحقائق الباهرة والمقاصد الشريفة؛ فدفعتني الغيرة على الحق لنقلها إلى اللغة العربية، وقد عانيت المشاق في رد الأحاديث إلى أصولها العربية التي وردت فيها، وإني أرجو أن تصادف خدمتي هذه القبول الحسن عند عامة المسلمين، وهذا ما أتوخاه في هذه الهدية التي أزفها للشرقيين عموما، وذاك حسبي وكفى.
حكم النبي محمد للفيلسوف تولستوي
عرب عبد الله السهروردي في الهند كتاب أحاديث النبي محمد واتخذ لكتابه عنوانا الآية القرآنية الآتية:
يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون .
والأحاديث المذكورة في هذه الرسالة اختارها من كتاب عبد الله السهروردي الفيلسوف تولستوي، وقال: إنها لا تخالف في شيء تعاليم الديانات الأخرى التي ترشد إلى الحق، وتأمر بالمعروف، وتنهى عن المنكر.
من كان محمد؟
قال الفيلسوف تولستوي تحت هذا العنوان ما هو بالحرف الواحد:
إن محمدا هو مؤسس ورسول الديانة الإسلامية التي يدين بها في جميع جهات الكرة الأرضية مائتا مليون نفس.
ولد النبي محمد في بلاد العرب سنة 570 بعد ميلاد المسيح من أبوين فقيرين، وكان في حداثته راعيا، ومال منذ صباه إلى الانفراد في البراري والأمكنة الخالية؛ حيث كان يتأمل بالله وخدمته أن العرب المعاصرين له عبدوا أربابا كثيرة، وبالغوا في التقرب إليها واسترضائها، فأقاموا لها أنواع التعبد، وقدموا لها الضحايا المختلفة؛ ومنها الضحايا البشرية، ومع تقدم محمد في السن كان اعتقاده يزداد بفساد تلك الأرباب، وأن ديانة قومه ديانة كاذبة، وأن هناك إلها واحدا حقيقيا لجميع الشعوب.
وقد ازداد هذا الاعتقاد في نفس محمد حتى قام في نفسه أن يدعو أمته ومواطنيه إلى الاعتقاد باعتقاده الراسخ في فؤاده، وقد دفعه عامل داخلي إلى أن الله اصطفاه لإرشاد أمته، وعهد إليه هدم ديانتهم الكاذبة، وإنارة أبصارهم بنور الحق؛ فأخذ من ذلك العهد ينادي باسم الواحد الأحد بحسب ما أوحي إليه ومقتضى اعتقاده الراسخ.
وخلاصة هذه الديانة التي نادى بها محمد هي: أن الله واحد لا إله إلا هو؛ ولذلك لا يجوز عبادة أرباب كثيرة، وأن الله رحيم عادل، وأن مصير الإنسان النهائي متوقف على الإنسان نفسه، فإذا سار حسب شريعة الله، وأتم أوامره، واجتنب نواهيه؛ فإنه في الحياة الأخرى يؤجر أجرا حسنا، وإذا خالف شريعة الله، وسار على هواه؛ فإنه يعاقب في الحياة الأخرى عقابا شديدا، وأن كل شيء في هذه الدنيا فان زائل، ولا يبقى إلا الله ذو الجلال، وأنه بدون الإيمان بالله وإتمام وصاياه لا يمكن أن تكون حياة حقيقية، وأن الله - تعالى - يأمر الناس بمحبته ومحبة بعضهم، ومحبة الله تكون في الصلاة، ومحبة القريب تقوم في مشاركته في السراء والضراء ومساعدته والصفح عن زلاته، وأن الذين يؤمنون بالله واليوم الآخر يقتضي عليهم أن يبذلوا وسعهم لإبعاد كل ما من شأنه إثارة الشهوات النفسانية، والابتعاد أيضا عن الملذات الأرضية، وأنه يتحتم عليهم أن لا يخدموا الجسد ويعبدوه؛ بل يجب عليهم أن يخدموا الروح، وأن يزهدوا في الطعام والشراب، وأنه محرم عليهم استعمال الأشربة الروحية المهيجة، ومحتم عليهم العمل والجد وما شابه ذلك.
ومحمد لم يقل عن نفسه: إنه نبي الله الوحيد، بل اعتقد أيضا بنبوة موسى والمسيح، وقال إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم، بل يجب عليهم أن يتمموا وصايا أنبيائهم.
وفي سني دعوة محمد الأولى احتمل كثيرا من اضطهاد أصحاب الديانة القديمة شأن كل نبي قبله نادى أمته إلى الحق، ولكن هذه الاضطهادات لم تثن عزمه بل ثابر على دعوة أمته.
وقد امتاز المؤمنون كثيرا عن العرب بتواضعهم، وزهدهم في الدنيا، وحب العمل، والقناعة، وبذلوا جهدهم لمساعدة إخوانهم في الإيمان لدى حلول المصائب بهم.
ولم يمض على جماعة المؤمنين زمن طويل حتى أصبح الناس المحيطون بهم يحترمونهم احتراما عظيما، ويعظمون قدرهم، وغدا عدد المؤمنين يتزايد يوما فيوما.
غير أن أصحاب الغيرة من أنصار النبي كانوا ينظرون إلى الوثنيين المحيطين بهم وفسادهم بعين الغضب والاستياء؛ فدفعتهم غيرتهم على الحق إلى التشدد في الدعوة إلى دين الإسلام والاعتراف بوحدانية الله، ومع أن هؤلاء الأنصار لم يبيحوا سفك الدماء للحصول على الأموال أو غيرها من متاع الدنيا من جانب؛ فإنهم من الجانب الآخر لم يبيحوا التهاون أو التخاذل أمام أولئك الذين أصروا على البقاء في الضلال.
وإذا كان انتشار الإسلام بصورة كبيرة على يد هؤلاء لم يرق بعضا من البوذيين والمسيحيين فإن ذلك لا ينفي حقيقة أن المسلمين اشتهروا في صدر الإسلام بالزهد في الديانة الباطلة، وطهارة السيرة، والاستقامة، والنزاهة، حتى أدهشوا المحيطين بهم بما هم عليه من كرم الأخلاق، ولين العريكة، والوداعة، ومن فضائل الدين الإسلامي أنه أوصى خيرا بالمسيحيين واليهود؛ لا سيما قسوس الأوليين؛ فقد أمر بحسن معاملتهم ومؤازرتهم حتى أباح هذا الدين لأتباعه التزوج من المسيحيات واليهوديات، مع الترخيص لهم بالبقاء على دينهم، ولا يخفى على أصحاب البصائر النيرة ما في هذا من التساهل العظيم، ومما لا ريب فيه أن النبي محمدا من عظام المصلحين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة، ويكفيه فخرا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق، وجعلها تجنح للسكينة والسلام، وتفضل عيشة الزهد، ومنعها عن سفك الدماء، وتقديم الضحايا البشرية، وفتح لها طريق الرقي والمدنية؛ وهو عمل عظيم لا يقوم به إلا شخص أوتي قوة، ورجل مثل هذا جدير بالاحترام والإكرام.
من مقدمة المؤلف الهندي
بقلم عبد الله السهروردي
إنا لله وإنا إليه راجعون، إننا جميعنا أبناء الله، وحياتنا تنحصر في التقرب إليه تعالى، إن شرارة الإيمان مختفية في قلب كل إنسان.
إن ديننا القويم يقدم رجاء الخلاص لجميع أتباعه والذين يدخلونه، إن النفس التي تكرم القدير العظيم؛ تلك النفس التي تسعى إلى معرفة الحق، وتسير في طريق الصلاح، ستحظى بالحياة الأبدية، والغبطة الدائمة.
الأحاديث النبوية
هذه الأحاديث اختارها الفيلسوف تولستوي من كتاب عبد الله السهروردي وعربها من الإنكليزية إلى الروسية كما أشرنا إليها سابقا ودعاها «حكم النبي» وفي الأصل الروسي أحاديث غير هذه لم نقف عليها في كتب الأحاديث، ويظهر أنها من حكم الأولياء أو العرب التي ينسبها الإفرنج في كتبهم إلى النبي. ***
اللهم ارزقني حبك، وحب من ينفعني حبه عندك.
قل الحق وإن كان مرا.
انصر أخاك ظالما أو مظلوما، فقال رجل: يا رسول الله، أنصره مظلوما؛ فكيف أنصره ظالما؟ فقال: تمنعه من الظلم؛ فذلك نصرك إياه.
من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة مثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا، ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة، ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة.
اللهم أحيني مسكينا، وتوفني مسكينا، واحشرني في زمرة المساكين.
لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
حفت الجنة بالمكاره، والنار بالشهوات.
الحلال بين، والحرام بين.
ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء.
سأل رجل النبي
صلى الله عليه وسلم
أي الإسلام خير؟ قال: أن تطعم الطعام، وتقرأ السلام على من عرفت ومن لم تعرف.
لا تميتوا قلوبكم بكثرة الطعام والشراب.
كنت كنزا مخفيا؛ فأردت أن أعرف؛ فخلقت الخلق؛ فعرفوني.
أفضل الصدقة إصلاح ذات البين، وحفظ اللسان.
أيما امرأة استعطرت، ثم خرجت؛ فمرت بقوم ليجدوا ريحها؛ فهي زانية، وكل عين زانية.
الجليس الصالح خير من الوحدة، والوحدة خير من جليس السوء، وإملاء الخير خير من السكوت، والسكوت خير من إملاء الشر.
زنى العين النظر، وزنى النفس المنطق، والنفس تتمنى وتشتهي.
من كظم غيظا وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله قلبه أمنا وإيمانا.
القبر أول منزلة من منازل الآخرة.
أفضل الجهاد من جاهد نفسه في ذات الله عز وجل.
إن الرجل إذا دخل في صلاته أقبل الله عليه بوجهه.
إن الله تعالى يحب أن يرى عبده ساعيا في طلب الحلال.
من يصبر على الرزية يعوضه الله.
آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر، وإمام جائر، ومجتهد جاهل.
إنما النساء شقائق الرجال.
آفة العلم النسيان، وإضاعته أن تحدث به غير أهله.
الدنيا متاع، وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة.
الكذب مجانب للإيمان.
اعقلها وتوكل.
لا عبادة كالتفكر.
حبك للشيء يعمي ويصم.
لا يكمل إيمان المرء حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه.
أفضل كلمة قالها شاعر كلمة لبيد: ألا كل شيء ما خلا الله باطل.
ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام والصلاة والصدق؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال: إصلاح ذات البين.
إن أول خلق خلقه الله - عز وجل - العقل، فقال له: أقبل؛ فأقبل، ثم قال له: أدبر؛ فأدبر، فقال: وعزتي وجلالي ما خلقت خلقا هو أحب إلي منك؛ بك آخذ، وبك أعطي، وبك أثيب، وبك أعاقب.
ليس الشديد بالصرعة؛ إنما الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب.
ارض بما قسمه الله لك تكن أغنى الناس.
إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال فلينظر إلى من هو أسفل منه.
دخل عمر على رسول الله وهو على حصير قد أثر في جنبه؛ فقال: يا نبي الله، لو اتخذت فراشا. فقال: ما لي وللدنيا، ما مثلي ومثل الدنيا إلا كراكب سار في يوم صائف فاستظل تحت شجرة ساعة من النهار ثم راح وتركها.
خصلتان من كانتا فيه كتبه الله شاكرا صابرا: من نظر في دينه إلى من هو فوقه فاقتدى به، ومن نظر في دنياه إلى من هو دونه فحمد الله على ما فضله الله عليه.
جاء رجل إلى النبي
صلى الله عليه وسلم
فقال: إني أحبك. قال: انظر ما تقول. فقال: إني والله لأحبك. ثلاث مرات، قال: إن كنت صادقا فاعد محفافا للفقر أسرع إلى من يحبني من السيل إلى منتهاه.
ليردك عن الناس ما تعلم من نفسك.
امش ميلا عد مريضا، وامش ميلين أصلح بين اثنين، وأمط الأذى عن الطريق؛ فإنه لك صدقة.
اتق الله، ولا تحقرن من المعروف شيئا؛ ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي، وأن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط، إياك وإسبال الإزار؛ فإن إسبال الإزار من المخيلة، ولا يحبها الله، وإن امرؤ شتمك وعيرك بأمر هو فيك فلا تعيره بأمر هو فيه ودعه يكن وباله عليه وأجره لك، ولا تسبن أحدا.
قدم على النبي
صلى الله عليه وسلم
بسبي فإذا امرأة من السبي تحلب ثديها تسقي؛ إذ وجدت صبيا في السبي أخذته فألصقته ببطنها وأرضعته، فقال النبي: أترون هذه طارحة ولدها في النار؟ قلنا: لا، وهي تقدر على أن لا تطرحه. فقال: الله أرحم بعباده من هذه بولدها.
من ظلم أجيرا أجره أحبط الله عمله وحرم عليه ريح الجنة.
دعاء النبي
يا حي يا قيوم، لا إله إلا أنت، برحمتك أستغيث، اغفر لي ذنوبي وأصلح لي شأني وفرج لي همي برحمتك.
اغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب العظيمة إلا الرب العظيم، احرسني بعينك التي لا تنام، واكنفني بركنك الذي لا يرام، وارحمني بقدرتك علي؛ فلا أهلك وأنت رجائي، فكم من نعمة أنعمت بها علي قل لك عندها شكري، وكم من بلية ابتليتني بها قل لك عندها صبري، يا ذا المعروف الذي لا ينقضي أبدا، ويا ذا النعماء التي لا تحصى عددا، نجني مما أنا فيه، وأعني على ما أنا عليه مما قد نزل بي بجاه وجهك الكريم.
قال النبي وحوله جماعة من أتباعه: «تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئا، ولا تسرقوا، ولا تزنوا، ولا تقتلوا أولادكم، ولا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم، ولا تعصوني في معروف، فمن وفى منكم فأجره على الله.»
سيأتي زمان لا يبقى من الإسلام إلا اسمه، ولا من الدين إلا رسمه، تنزع الرحمة من قلوبهم، وتقل مكاسب الحلال، ويكثر الحرام.
عفوا تعف نساؤكم.
علم لا ينفع ككنز لا ينفق منه.
ليس من أخلاق المؤمن التملق ولا الحسد إلا في طلب العلم.
زين الله السماء بثلاث: الشمس، والقمر، والكواكب، وزين الأرض بثلاث: العلماء، والمطر، وسلطان عادل.
العلم إمام، والعمل تابعه، يلهمه السعداء، ويحرمه الأشقياء.
العالم إذا خرج من الدنيا كالمصباح يخرج من بيت مظلم.
وواضع العلم عند غير أهله كمقلد الخنازير الجوهر واللؤلؤ والذهب.
يقول الله عز وجل يوم القيامة: يا ابن آدم، مرضت فلم تعدني. قال: يا رب، كيف أعودك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أن عبدي فلانا مرض فلم تعده، أما إنك لو عدته لوجدتني عنده، يا ابن آدم، استطعمتك فلم تطعمني. قال: يا رب، كيف أطعمك وأنت رب العالمين؟ قال: أما علمت أنه استطعمك عبدي فلان فلم تطعمه، أما علمت أنك لو أطعمته لوجدت ذلك عندي، يا ابن آدم، استسقيتك فلم تسقني. قال: يا رب، وكيف أسقيك وأنت رب العالمين؟ قال: استسقاك عبدي فلان فلم تسقه، أما علمت لو سقيته لوجدت ذلك عندي.
اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لأخراك كأنك تموت غدا.
من كذب فجر، ومن فجر كفر، ومن كفر دخل النار.
خطاب الإمام محمد عبده لتولستوي
وكتب الإمام المرحوم الأستاذ العلامة الشيخ محمد عبده إلى الفيلسوف تولستوي واضع هذا الكتاب الخطاب الآتي؛ فآثرت إثباته؛ لجزيل فائدته، وهو بالحرف الواحد:
أيها الحكيم الجليل موسيو تولستوي:
لم نحظ بمعرفة شخصك، ولكننا لم نحرم التعارف مع روحك، سطع علينا نور من أفكارك، وأشرقت في آفاقنا شموس من آرائك، ألفت بين نفوس العقلاء ونفسك، هداك الله إلى معرفة سر الفطرة التي فطر الناس عليها، ووقفك على الغاية التي هدى البشر إليها، فأدركت أن الإنسان جاء إلى هذا الوجود لينبت بالعلم، ويثمر بالعمل، ولأن تكون ثمرته تعبا ترتاح به نفسك، وسعيا يبقى به ويربي جسمه، وشعرت بالشقاء الذي نزل بالناس لما انحرفوا عن سنة الفطرة، وبما استعملوا قواهم التي لم يمنحوها إلا ليسعدوا بها فيما كدر راحتهم، وزعزع طمأنينتهم.
ونظرت نظرة في الدين مزقت حجب التقاليد، ووصلت بها إلى حقيقة التوحيد، ورفعت صوتك تدعو الناس إلى ما هداك الله إليه، وتقدمت أمامهم بالعمل؛ لتحمل نفوسهم عليه، فكما كنت بقولك هاديا للعقول، كنت بعملك حاثا للعزائم والهمم، وكما كانت آراؤك ضياء يهتدي بها الضالون؛ كان مثالك في العمل إماما يقتدي به المسترشدون، وكما كان وجودك توبيخا من الله للأغنياء، كان مدادا من عنايته للضعفاء الفقراء، وإن أرفع مجد بلغته، وأكبر جزاء نلته على متاعبك في النصح والإرشاد، هو هذا الذي سماه الغافلون بالحرمان والإبعاد، فليس ما حصل لك من رؤساء الدين سوى اعتراف منهم أعلنوه للناس أنك لست من القوم الضالين، فاحمد الله على أن فارقوك في أقوالهم كما كنت فارقتهم في عقائدهم وأعمالهم.
هذا؛ وإن نفوسنا لشيقة إلى ما يتجدد من آثار قلمك فيما تستقبل من أيام عمرك، وإنا نسأل الله أن يمد في حياتك، ويحفظ عليك قواك، ويفتح أبواب القلوب لفهم قولك، ويسوق النفوس إلى التأسي بك في عملك، والسلام.
رثاء أحمد شوقي لتولستوي
ولما انتقل الفيلسوف تولستوي من دار الفناء إلى دار البقاء وقع نبأ وفاته وقعا مؤلما في الغرب والشرق، ورثاه الفلاسفة والشعراء، ومن ذلك ما قاله شاعر وادي النيل صاحب السعادة أحمد بك شوقي حيث قال: (طولستوي) تجري آية العلم دمعها
عليك ويبكي بائس وفقير
وشعب ضعيف الركن زال نصيره
وما كل يوم للضعيف نصير
ويندب فلاحون أنت منارهم
وأنت سراج غيبوة منير
يعانون في الأكواخ ظلما وظلمة
ولا يملكون البث وهو يسير
تطوف كعيسى بالحنان وبالرضى
عليهم وتغشى دورهم وتزور
ويأسى عليك الدين إذ لك لبه
وللخادميه الناقمين فشور
أيكفر بالإنجيل من تلك كتبه
أناجيل منها منذر وبشير
ويبكيك ألف فوق (ليلى) ندامة
غداة مشى (بالعامري) سرير
تناول ناعيك البلاد كأنه
يراع له في راحتيك سرير
وقيل تولى (الشيخ) في الأرض هائما
وقيل (بدير) الراهبات أسير
وقيل قضى لم يغن عنه طبيبه
وللطب من بطش القضاء عذير
إذا أنت جاورت (المعري) في الثرى
وجاور (رضوى) في التراب (ثبير)
وأقبل جمع الخالدين عليكما
وغالى بمقدار النظير نظير
جماجم تحت الأرض عطرها شذى
جناهن مسك فوقها وعبير
بهن يباهي بطن (حواء) واحتوى
عليهن بطن الأرض وهو فخور
فقل يا حكيم الدهر حدث عن البلى
فأنت عليهم بالأمور خبير
أحطت من الموتى قديما وحادثا
بما لم يحصل منكر ونكير
طوانا الذي يطوي السموات في غد
وينشر بعد الطي وهو قدير
تقادم عهدانا على الموت واستوى
طويل زمان في البلى وقصير
كأن لم تضق بالأمس عني كنيسة
ولم يؤوني دير هناك طهور
أرى راحة بين الجنادل والحصى
وكل فراش قد أراح وثير
نظرنا بنور الصوت كل حقيقة
وكنا كلانا في الحياة ضرير
إليك اعترافي لا لقس وكاهن
ونجواي بعد الله وهو غفور
فزهدك لم ينكره في الأرض عارف
ولا متعال في السماء كبير
بيان يشم الوحي من نفحاته
وعلم كعلم الأنبياء غزير
سلكت سبيل المترفين ولذ لي
بنون ومال والحياة غرور
أداة شتائي الدفء في ظل شاهق
وعدة صيفي جنة وغدير
ومتعت بالدنيا ثمانين حجة
ونضر أيامي غنى وحبور
وذكر كضوء الشمس في كل بلدة
ولاحظ مثل الشمس حين تسير
فما راعني إلا عذارى أجرنني
ورب ضعيف تحتمي فيجير
أردت جوار الله والعمر منقض
وجاورته في العمر وهو نضير
صبا ونعيم بين أهل وموطن
ولذات دنيا كل ذاك نذور
بهن وما يدرين ما الذنب خشية
ومن عجب تخشى الخطيئة حور
أوأنس في داج من الليل موحش
ولله أنس في القلوب ونور
وأشبه طهر في النساء بمريم
فتاة على نهج المسيح تسير
تسائلني هل غير الناس ما بهم
وهل حدثت غير الأمور أمور
وهل آثر الإحسان والرفق عالم
دواعي الأذى والشر فيه كثير
وهل سلكوا سبل المحبة بينهم
كما يتصافى أسرة وعشير
وهل آن من أهل الكتاب تسامح
خليق بآداب الكتاب جدير
وهل عالج الأحياء بؤسا وشقوة
وقل فساد بينهم وشرور
قم انظر وأنت المالئ الأرض حكمة
أأجدى نظيم أم أفاد نثير
أناس كما تدري ودنيا بحالها
ودهر رخي تارة وعسير
وأحوال خلق غابر متجدد
تشابه فيها أول وأخير
تمر تباعا في الحياة كأنها
ملاعب لا ترخى لهن ستور
وحرص على الدنيا وميل مع الهوى
وغش وإفك في الحياة وزور
وقام مقام الفرد في كل أمة
على الحكم جم يستبد غفير
وحور قول الناس مولى وعبده
إلى قولهم مستأجر وأجير
وأضحى نفوذ المال لا أمر في الورى
ولا نهي إلا ما يرى ويشير
تساس حكومات به وممالك
ويذعن إقبال له وصدور
وعصر بنوه في السلاح وحرصه
على السلم يجري ذكرها ويدير
ومن عجب في ظلها وهو وارف
يصادف شعبا آمنا فيغير
ويأخذ من قوت الفقير وكسبه
ويؤوي جيوشا كالحصى ويمير
ولما استقل البر والبحر مذهبا
تعلق أسباب السماء يطير
وقال حضرة الشاعر المشهور حافظ بك إبراهيم يرثي الفيلسوف أيضا:
رثاك أمير الشعر في الشرق وانبرى
لمدحك من كتاب مصر كبير
ولست أبالي حين أرثيك بعده
إذا قيل عني قد رثاه صغير
فقد كنت عونا للضعيف وإنني
ضعيف وما لي في الحياة نصير
ولست أبالي حين أبكيك للورى
حوتك جنان أو حواك سعير
فإني أحب النابغين لعلمهم
وأعشق روض الفكر وهو نضير
دعوت إلى عيسى فضجت كنائس
وهز لها عرش وماد سرير
وقال أناس إنه قول ملحد
وقال أناس إنه لبشير
ولولا حطام رد عنك كيادهم
لضقت به ذرعا وساء مصير
ولكن حماك العلم والرأي والحجى
ومال إذا جد النزال وفير
إذا زرت رهن المحبسين
1
بحفرة
بها الزهد ثاو والذكاء مثير
وأبصرت أنس الزهد في وحشة الليل
وشاهدت وجه الشيخ وهو منير
وأيقنت أن الدين لله وحده
وأن قبور الزاهدين قصور
فقف ثم سلم واحتشم إن شيخنا
مهيب على رغم الفناء وقور
وسائله عما غاب عنك فإنه
عليم بأسرار الحياة بصير
يخبرك الأعمى وإن كنت مبصرا
بما لم تخبر أحرف وسطور
كأني بسمع الغيب أسمع كلما
يجيب به أستاذنا ويحير
يناديك أهلا بالذي عاش عيشنا
ومات ولم يدرج إليه غرور
قضيت حياة ملؤها البر والتقى
فأنت بأجر المتقين جدير
وسموك فيهم فيلسوفا وأمسكوا
وما أنت إلا محسن ومجير
وما أنت إلا زاهد صاح صيحة
يرن صداها ساعة ويطير
سلوت عن الدنيا ولكنهم صبوا
إليها بما تعطيهم وتمير
حياة الورى حرب وأنت تريدها
سلاما وأسباب الكفاح كثير
أبت سنة العمران إلا تناحرا
وكدحا ولو أن البقاء يسير
تحاول رفع الشر والشر واقع
وتطلب محض الخير وهو عسير
ولولا امتزاج الشر بالخير لم يقم
دليل على أن الإله قدير
ولم يبعث الله النبيين للهدى
ولم يتطلع للسرير أمير
ولم يعشق العلياء حر ولم يسد
كريم ولم يرج الثراء فقير
ولو كان فينا الخير محضا لما دعا
إلى الله داع إن تبلج نور
ولا قيل هذا فيلسوف موفق
ولا قيل هذا عالم وخبير
فكم في طريق الشر خير ونعمة
وكم في طريق الطيبات شرور
ألم تر أني قمت قبلك داعيا
إلى الزهد لا يأوي إلي ظهير
أطاعوا أبيكير وسقراط قبله
وخولفت فيما أرتئي وأشير
ومت وما ماتت مطامع طامع
عليها ولا ألقى القياد ضمير
إذا هدمت للظلم دور تشيدت
له فوق أكتاف الكواكب دور
أفاض كلاما في النصيحة جاهدا
ومات كلانا والقلوب صخور
فكم قيل عن كهف المساكين باطل
وكم قيل عن شيخ المعرة زور
وما صد عن فعل الأذى قول مرسل
ولا راع مفتون الحياة نذير
هوامش
رأي تولستوي في الحجاب والزواج وما بينهما
قال الفيلسوف في الطلاق والحجاب: إن السبب في مسألة الطلاق التي تشغل الآن الرأي العام في أوروبا هو التمدن الذي لم يقتبس الإنسان منه سوى الحمق والخلاعة، هذا هو السبب الحقيقي في ازدياد الطلاق نموا كل يوم، فلا يمضي على زواج امرأة برجل ردح من الزمن حتى تقول له: حاذر أن أتركك وأمضي إلى حال سبيلي، سرى ذلك من الربوع العالية في المدن إلى أكواخ الفلاحين، فالفلاحة لأقل شيء تقول لزوجها: خذ قمصانك وسراويلك؛ لأني تاركة لك، وذاهبة مع حبيبي يوسف الذي يفوقك حسنا وبهاء.
هذا لأن المرأة خلعت ثياب الحشمة واحترام الزوج، وخرجت من دائرة الخضوع له، تلك الواجبات التي ينبغي أن تبقى عليها حتى انقضاء الأجل.
على الرجل أن يكد ويشتغل، وما على المرأة إلا أن تقيم في البيت؛ لأنها زوجة، أو بعبارة أخرى إناء لطيف سريع الانثلام والانكسار.
على الرجل أن يراقب سلوك امرأته ولا يطلق لها العنان؛ بل يحجبها في البيت، والبيت دائرة حرية واسعة للمرأة، ثم ختم هذه السطور بمثل روسي؛ وها هو:
لا تركن إلى الفرس في الغيط، واركن للمرأة في البيت.
وقال عن الحب والزواج: إن دوام الحب بين الزوجين من رابع المستحيلات، إنه قد يكون حب؛ ولكن إلى وقت قصير جدا، ثم لا يدوم إلا في الروايات فقط، وأما بين الناس فعديم الاستقرار في قلبين معا، وكل رجل - متزوجا كان أو غير متزوج - إذا اجتازت به غادة فتانة فأكثر ما يكون منه أن يوجه إليها التفاتة، وقد يبذل بعضهم كل مرتخص وغال بعد ذلك في سبيل الوصول إليها، والمرأة من هذا القبيل كالرجل؛ فإنها تجتهد للاتصال بأكثر من واحد دائما، وما دام يمكنها هذا الاتصال فهي نائلة أربها لا محالة.
إذا قلنا: إنه يمكن للمرأة أن تحب زوجها طول الحياة فما مثلنا في ذلك إلا مثل من يوقد شمعة وهو يعتقد أنها تدوم مضيئة طوال الدهر.
إن الزواج أصبح في عصرنا هذا بيننا محض خداع، ولكنه لا يزال يوجد عند أولئك الذين يرون فيه سرا من أسرار الدين؛ كالمسلمين، والصينيين، والهنود، أما نحن فلا نرى فيه غير تلك المقارنة الحيوانية.
الزوجان يخدعان الناس بأنهما يعيشان معا في ارتباط عائلي حقيقي بالزواج، يظهر كذلك أمرهما في الخارج لكل من رآهما، وأنهما سيبقيان في تمام الوفاق ما دامت الحياة، والحقيقة أنهما يعيشان على قاعدة تعدد الزوجات، ولكن من الجانبين وبهذا التكافؤ قد يتفقان زمنا، وعلى الأكثر إن كليهما في الشهر الثاني يهدد صاحبه بالطلاق، وقبلما يتمكنان من وسائله، وعن ذلك تصدر الأفكار الخبيثة الجهنمية التي ينجم عنها إطلاق الرصاص انتحارا أو قتلا أو دس السم وما أشبه.
وقال في الفساد المنتشر بين الناس: وتفسد أخلاق الشاب في المدرسة؛ لأن جميع رفاقه فسدة الأخلاق يصحبونه معهم إلى أندية الرجس فيفقد طهارته وعفته من حيث لا يدري، إن في فعله هذا ما يخالف الآداب والفضيلة، تفسد أخلاق الشاب من أول نشأته؛ لأنه لا يسمع من مرشديه أن الفسوق محرم، بل بالعكس يسمع أن صحة الجسم تستلزم بعض الشيء، وجميع المحيطين به يقولون: إن الوقوع شيء طبيعي قانوني مفيد للصحة، وفاكهة الشباب الحلوة، لهذا كله لا يدرك الشاب أنه سائر في طريق الضلال، بل يقطع الطريق الطبيعية التي يسير فيها كل صحبه وأفراد الوسط الذي يعيش فيه، فيبدأ بالفحشاء كما يبتدئ بشرب المسكر والتدخين.
وأنا أعرف أمهات كثيرات يعتنين بأمر أولادهن في هذا الطريق؛ رعاية لصحتهم، بقي على الشاب أمر واحد يخشى عاقبته من ارتكاب الموبقات، وهو العدوى من المرض المشهور، غير أن الحكومة التي تهتم بصحة رعاياها لم تدع مجالا للخوف؛ فإنها بهمة فائقة تعتني اعتناء تاما بالمواخر، والأطباء كهنة أصنام العلم، يراقبون المومسات لقاء أجور يتقاضونها، وهم من جهة أخرى يفتون للشباب بضرورة الاجتماع ولو مرة في الشهر؛ مراعاة لقانون الصحة.
فهم على ذلك يرتبون سير الفحش ترتيبا مدققا ويضبطون دوائره ضبطا «محكما».
ليت الحكومة التي تهتم اهتماما عظيما بإزالة الزهري معالجة تستعمل جزءا من مائة من ذلك الاهتمام من إزالة المومسات؛ فيصبح إذ ذاك في خبر كان.
وقال في حفلات الرقص الساهرة: يجري بيننا وتحت نظرنا من الأمور السافلة ما لا طاقة لذي ناموس وشرف على احتماله، يزورنا رجل لا نجهل من سيرته شيئا؛ فنستقبله أحسن استقبال، وعندما يدخل قاعة الضيوف يجالس أختي أو ابنتي أو قرينتي؛ حيث يتركني وشأني، أو أتركه وشأنه، وربما أعرف من سلوكه وتصرفاته ما أعرف، فكان يلزم - والحالة هذه - أن أتقدم إليه عند قدومه، وأتنحى به جانبا، وأقول له هامسا: إني يا صاح أعرف أحوالك، وأين تصرف لياليك، ومع من، فليس لك عندنا مكان؛ لأن فتياتنا طاهرات.
كذا كان ينبغي أن يفعل كل واحد منا، ولكنا نجري على العكس مما تقدم، فإذا اجتمعنا مع هذا الرجل في ليلة راقصة؛ كان له أن يرقص مع أختي أو ابنتي؛ ويعانقها ويخاصرها، نراه بأعيننا، ونشاهد حركاتهما معا؛ غدوا أو رواحا، وميلا واهتزازا، ولا تشمئز منه نفوسنا؛ بل نتساءل إذا كان حرا لنسعى في تزويجه بإحدى بناتنا، ولو كان أثر المرض باديا عليه.
ثم قال عن الأزياء، وحالة الطبقة العالية من نساء أوروبا: إننا لو أمعنا النظر في معيشة نساء الطبقات العليا كما هي من قلة الحياء والخلاعة لا نجد ثم فرقا بين البيت الذي يضمهن، ونادي مومسات مختلط.
ولكن الناس لا يوافقونني على كلامي هذا، فأنا إذا أقيم لهم برهانا حسيا:
هم يقولون إن نساء هيئتنا الاجتماعية يعشن بحالة تخالف معيشة المومسات، وأنا أخالفهم في ذلك وأقول: إذا كانت النساء تختلف في حالة المعيشة الداخلية، فمن الحقائق المقررة أن ما يكون خارجا منهن أثر المعيشة في الداخل، وهذه يلزم أن تخالف معيشة المومسات من كل وجه، ولكن أنا لا أرى فرقا كبيرا بين معيشة الفريقين في الخارج، قابلوا أيها الناس بين المومسات وبين نساء الطبقة العليا تجدوهن متفقات في الهيئات والأزياء والروائح العطرية وإعراء السواعد والمناكب والصدور، ووضع الوسادة خلف الظهر أينما جلسن وأينما ركبن، وفي اقتناء أنفس الجواهر والحجارة الكريمة اللماعة، وفي المراقص والغناء.
وكما أن المومسات يستعملن كل الوسائط الفعالة لغواية الشبان وجذبهم واستمالة النفوس حتى يصبو لهن كل راء، كذلك نساء الطبقات العالية يفعلن في وسطهن.
النبي محمد
جاء في إحدى المجلات الروسية
1
تحت هذا العنوان ما يأتي بالحرف الواحد:
في شبه جزيرة العرب المجاورة لفلسطين؛ حيث كان الناس يدينون بالديانتين المسيحية واليهودية - ظهرت ديانة عظيمة أساسها الاعتراف بوحدة الله، وهذه الديانة تعرف بالمحمدية، أو كما يسميها أتباعها: الإسلام، وقد انتشرت هذه الديانة انتشارا سريعا بين قبائل متعددة، وأمم كثيرة؛ حتى بلغ عدد منتحليها في هذا العصر نحو مائتي مليون نفس.
مضى على ظهور الديانة الإسلامية 1330 عاما، أو بعد ظهور الديانة المسيحية بنحو 600 سنة، ومؤسس هذا الدين هو العربي محمد.
كان العرب - أقرباء اليهود باللغة والجنس - قبل ظهور الرسول وثنيين يعبدون آلهة متعددة، وأرواحا صالحة وشريرة، وكانت تقسم إلى قسمين: عائلية، ووطنية؛ فكان كثير من العائلات تصنع لها صنما خاصا تعبده، وكان في كل قبيلة صنم عام تسجد له برمتها، ولكن العرب عموما كانوا يعتقدون بوجود إله يعتبرونه أبا لهذه الأرباب ويسمونه «الله العلي العظيم».
وكانت اعتقادات العرب الدينية مملوءة بالخرافات، وديانتهم مبنية على القسوة والانتقام والتعادي.
ولقد انقسمت بلاد العرب إلى ثلاث مقاطعات؛ وهي: اليمن ذات التربة الخصبة؛ ويعمل أهلها بالزراعة وتربية المواشي، ثم نجد؛ ويسكنها قوم رحل يتوفرون على تربية الماشية والغزو والنهب، ثم الحجاز؛ أهلها أرباب تجارة مع مصر وسوريا والجهات الأخرى، وعاصمة هذه الجهة مكة؛ وهي المدينة المقدسة عند جميع القبائل العربية، ولكل قبيلة فيها أصنام خاصة بها، وفيها الكعبة ؛ المعبد العظيم الذي يحفظ فيه الحجر الأسود الذي تقول تقاليد العرب بشأنه: إن الله سبحانه وتعالى أنزله على إبراهيم جد العرب؛ لأنهم يعتقدون أنهم من نسل إسماعيل ابن هاجر.
وكان العرب يزورون مكة في كل عام، وحتى يأمنوا على نفوسهم من القتل والسلب في خلال هذه الزيارة عينوا أربعة أشهر في العام، حرموا في أثنائها سفك الدماء، والغزو، والسرقة.
ولما وحد النبي محمد قبائل العرب وأنار أفكارهم وأبصارهم بمعرفة الإله الواحد هذب أخلاقهم، ولين طباعهم وقلوبهم، وأصلح عاداتهم البربرية الهمجية، وجعلهم أمة مستعدة للرقي والتقدم.
كان العرب قبل ظهور النبي محمد يقدمون لآلهتهم الذبائح البشرية من أسرى الحرب ومن أولادهم؛ فيئدون بناتهم، ويقتلون عدوهم، وعلى الجملة؛ فقد كانت أخلاقهم مبنية على القساوة، والانتقام، وسفك الدماء، وقد قضى النبي محمد على ذلك جميعه، ونادى بعبادة الخالق - سبحانه وتعالى - وساوى جميع العرب أمام الله، وحرم الانتقام، ومنع سفك الدماء، وهذه الأعمال العظيمة التي قام بها محمد تدل على أنه من المصلحين العظام، وعلى أن في نفسه قوة فوق قوة البشر.
ولد النبي محمد عام 571 من أبوين فقيرين، وقد توفي والده قبل ولادته بشهرين، وتوفيت والدته في العام السادس من عمره؛ فكفله أولا جده، ثم عمه الذي كان يصحبه معه في سفراته التجارية.
وكان النبي محمد في حداثته يخدم أعمامه؛ فيرعى ماشيتهم، ويقود جمالهم.
ولما بلغ العام العشرين دخل في خدمة قريبته الأرملة خديجة من ذوات الثروة الواسعة بصفة وكيل لها، وبعد مرور سنة قضاها في خدمتها تزوجها؛ مع أنها كانت أكبر منه بعشرين عاما، وقيل: بخمسة عشر.
كان محمد ذا فكر نير وبصيرة وقادة، واشتهر بدماثة الأخلاق، ولين العريكة والتواضع، وحسن المعاملة للناس، واشتهر بميله للأبحاث الدينية؛ حتى إنه كان يناقش اليهود والنصارى، ومن هذه المناقشات عرف أشياء عن موسى والمسيح، وعرف بعض الشيء من تعاليم التوراة والإنجيل، وعرف أنه يوجد إله عظيم لم تصنعه الأيدي البشرية.
2
مضت على محمد أربعون سنة قضاها بسلام وطمأنينة، وكان جميع أقاربه يحبونه محبة شديدة، وأهل مدينته يحترمونه احتراما عظيما؛ لما هو عليه من المبادئ القويمة، والأخلاق الكريمة، وشرف النفس والنزاهة، وكانت ثروة زوجته تكفيه مؤونة الكدح للمعاش؛ فعاش رخاء وهناء، ولكن من جهة أخرى كانت في نفسه عواطف دينية قوية تدفعه إلى القيام بعمل عظيم؛ ألا وهو إخراج أمته ومواطنيه من دياجير الجهل وظلمات الخرافات الدينية.
وصل الاعتقاد الديني بمحمد إلى الاعتراف بأن موسى وعيسى من أنبياء الله، ولكنه لم ترقه بعض عقائد الديانتين: المسيحية، واليهودية.
ولطالما انقطع محمد في حداثته إلى الجبال المجاورة لمكة؛ حيث يقيم شهرا متعبدا، وكان شعوره الديني يزداد عاما فعاما، أيقن في النهاية أن أرباب أمته لا شعور لها ولا قوة، وأن الإله الحقيقي واحد؛ وهو الله منشئ الكائنات ومدبرها بقوته غير المحدودة؛ ففي سنة من سنوات اعتزاله، تواترت عليه ذات يوم الأفكار الدينية، وبعد ذلك اضطربت لها نفسه اضطرابا شديدا، فدخل مغارة، ونام فيها، وفي خلال نومه رأى رؤيا، دعاه في خلالها هاتف ليكون نبيا يدعو أمته لمعرفة الإله الواحد، ولما استيقظ من نومه عاد إلى منزله مضطربا، وبعد عدة أسابيع رأى رؤيا أخرى دعاه فيها صوت ذلك الهاتف ليكون نبيا لأمته، فعزم بعد هذه الرؤيا بدون تردد على دعوة أمته إلى معرفة الحق، وصمم العزم على تطهير البلاد من الأصنام.
ومن أراد أن يحكم على الدين الإسلامي ومبادئه وروح تعاليمه؛ فليطالع الآيات الآتية التي اقتطفناها من القرآن؛ وهي:
إن الذين آمنوا والذين هادوا والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحا فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
3
كل من عليها فان * ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام .
4
لا يكلف الله نفسا إلا وسعها لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت .
5
إنما الصدقات للفقراء والمساكين والعاملين عليها والمؤلفة قلوبهم وفي الرقاب والغارمين وفي سبيل الله وابن السبيل فريضة من الله والله عليم حكيم .
6
ليسوا سواء من أهل الكتاب أمة قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون * يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين * وما يفعلوا من خير فلن يكفروه والله عليم بالمتقين .
7
فإن تولوا فقل حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم .
8
لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدتا فسبحان الله رب العرش عما يصفون .
9
كما أرسلنا فيكم رسولا منكم يتلو عليكم آياتنا ويزكيكم ويعلمكم الكتاب والحكمة ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون .
10
قل أغير الله أتخذ وليا فاطر السماوات والأرض وهو يطعم ولا يطعم قل إني أمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين .
11
يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافا مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون .
12
لتجدن أشد الناس عداوة للذين آمنوا اليهود والذين أشركوا ولتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون * وإذا سمعوا ما أنزل إلى الرسول ترى أعينهم تفيض من الدمع مما عرفوا من الحق يقولون ربنا آمنا فاكتبنا مع الشاهدين .
13
ولا تجعل يدك مغلولة إلى عنقك ولا تبسطها كل البسط فتقعد ملوما محسورا .
14
وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل ولا تبذر تبذيرا * إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا .
15
الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويقطعون ما أمر الله به أن يوصل ويفسدون في الأرض أولئك هم الخاسرون .
16
إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ومن يكفر بآيات الله فإن الله سريع الحساب * فإن حاجوك فقل أسلمت وجهي لله ومن اتبعن وقل للذين أوتوا الكتاب والأميين أأسلمتم فإن أسلموا فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما عليك البلاغ والله بصير بالعباد .
17
يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساء واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا .
18
إنما الحياة الدنيا لعب ولهو وإن تؤمنوا وتتقوا يؤتكم أجوركم ولا يسألكم أموالكم .
19
قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا وما أنزل إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسى وعيسى وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون .
20
كان الناس أمة واحدة فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغيا بينهم فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم .
21
الذين ينفقون أموالهم بالليل والنهار سرا وعلانية فلهم أجرهم عند ربهم ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون .
22
الله نور السماوات والأرض مثل نوره كمشكاة فيها مصباح المصباح في زجاجة الزجاجة كأنها كوكب دري يوقد من شجرة مباركة زيتونة لا شرقية ولا غربية يكاد زيتها يضيء ولو لم تمسسه نار نور على نور يهدي الله لنوره من يشاء ويضرب الله الأمثال للناس والله بكل شيء عليم .
23
قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فروجهم ذلك أزكى لهم إن الله خبير بما يصنعون * وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها وليضربن بخمرهن على جيوبهن ولا يبدين زينتهن إلا لبعولتهن أو آبائهن أو آباء بعولتهن أو أبنائهن أو أبناء بعولتهن أو إخوانهن أو بني إخوانهن أو بني أخواتهن أو نسائهن أو ما ملكت أيمانهن أو التابعين غير أولي الإربة من الرجال أو الطفل الذين لم يظهروا على عورات النساء ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن وتوبوا إلى الله جميعا أيه المؤمنون لعلكم تفلحون .
24
يا أيها الذين آمنوا قوا أنفسكم وأهليكم نارا وقودها الناس والحجارة عليها ملائكة غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون .
25
يسألونك ماذا ينفقون قل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم .
26
ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون * وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين * أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون .
27
وقد صدقت عائلة النبي محمد برسالته، وكذلك علي وزيد، وانضم إليه أبو بكر الذي غدا من أكبر أنصاره، وأكد أكثر مؤرخي العرب أن أبا بكر أول من أسلم من الرجال، وأن خديجة أول من أسلمت من النساء.
وقد أراد النبي محمد في بدء رسالته أن يسير على عادات قبيلته فدعا كبار عشيرته، وأعلنهم برسالته، فلما سمعوا منه مقالته استكبروا منه ذلك، وأخذ الغضب منهم مأخذا عظيما؛ لأنهم انتظروا أن يسمعوا منه كلاما عن تجارة أو غزوة، وقال له أبو لهب أحد أعمامه بلهجة الغضب: ألهذا دعوتنا؟! فاختنق واصمت، ثم تفرقوا صاخبين هازئين.
ثم أخذ النبي محمد يجاهر برسالته؛ فعاب دين قبيلته، وسفه أحلامها، وسب آلهتها، فأساء بذلك إلى أشراف القبيلة، ورأوا في رسالته خطرا على البلاد وأهلها، ولكن لم يجسر أحد منهم أن يقاومه؛ خيفة من وقوع النزاع والشقاق، وفي سني رسالته الأولى لم يصدق بنبوته إلا 43 شخصا؛ أكثرهم من الفقراء والعبيد الذين سامهم مواليهم صنوف الاضطهاد والهوان، فأخذ إذ ذاك أبو بكر أعظم أنصار النبي محمد يفتدي أولئك العبيد بأمواله، واشترى مرارا بماله المعذبين لإنقاذهم من الآلام.
وفي خلال ذلك طلب القريشيون من أبي طالب عم النبي محمد؛ لكي يرجع ابن أخيه عن كلامه وحاله؛ فنصح له أبو طالب، ولكن النبي أجاب بقوله: «لو أعطوني الشمس بيميني، والقمر بشمالي؛ لكي أترك هذا الأمر قبل أن ينصره الله أو أهلك أنا في سبيله؛ فلن أتركه.» ولما قال هذا أراد الخروج فمسك به أبو طالب، وقال له: جاهر بأمر رسالتك وعلم ما تريد، فلست بمسلمك لهم يا ابن أخي، ولن أتركك أبدا.
وفي عام 617 توفيت خديجة، وبعد وفاتها بعدة أسابيع توفي أبو طالب أيضا، وبذلك انقطعت علاقات النبي محمد القبلية مع مكة؛ فغادرها إلى المدينة، ولم يمض على إقامته فيها زمن طويل حتى آمن برسالته كثيرون؛ ألفوا جماعة أطلق عليها جماعة المؤمنين، اشتهروا بالتقوى والصلاح، وحسب تعاليم الإسلام كانوا جميعهم متساوين في كل شيء، ولم يكن بينهم أثر للسيادة والانقسام إلى طبقات متفاوتة في الحسب والنسب كما كان الحال عليه عند القبائل العربية، وقد ضربت السكينة بين جماعة المؤمنين أطنابها، ورفعت المساواة قبابها، فتناسوا ما كان بينهم من الحزازات والضغائن، وأصبحوا يعيشون كنفس واحدة، وكان الواجب يقضي عليهم أن يدافعوا عن بعضهم بعضا، ويردوا هجمات غير المؤمنين.
وقد جرت عدة وقائع حربية بين أنصار النبي وأهالي مكة، انتهت بانتصار الأنصار الذين دخلوا مكة ظافرين، وقد طاف النبي وهو على ناقته حول الكعبة سبع مرات، ومس الحجر المقدس بعصاه، ثم أمر بتحطيم جميع الأصنام التي كانت منصوبة حول الكعبة، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله - عز وجل - ثم أمر المكيين أن يحطموا الأصنام الموجودة في منازلهم، وقد لبى الجميع هذا النداء؛ لوثوقهم بضعف آلهتهم، وأنها لا قوة لها.
وفي آخر رحلة رحلها النبي إلى مكة جمع حولها الحجاج، وذكرهم بجميع وصايا الإسلام، ونصح لهم بأن يعيشوا مع بعضهم عيشة سلام وأمان، وأن يكونوا إخوانا، وأن يتناسوا الأحقاد القديمة، ويكفوا عن سفك الدماء والأخذ بالثأر، وأوصاهم خيرا بزوجاتهم وعبيدهم، وفي الختام قال: إنني قد قمت بما عهد إلي.
وبعد عدة شهور مضت على مغادرته مكة انتقل من دار الفناء إلى دار البقاء، وكانت وفاته في اليوم الثامن من شهر يونيه سنة 638 في العام الثالث والستين من سني حياته، وقبل وفاته أعتق جميع عبيده.
إن محمدا نبي الإسلام الذي يدين به الآن أكثر من مائتي مليون نفس قد قام بعمل عظيم جدا؛ فإنه هدى الوثنيين الذين قضوا حياتهم بالحروب الأهلية وسفك الدماء وتقديم الضحايا البشرية، إلى معرفة الإله الواحد، وأنار أبصارهم بنور الإيمان، وأعلن أن جميع الناس متساوون أمام الله - سبحانه وتعالى - والحق الذي لا مراء فيه أن النبي محمدا قام بعمل عظيم، وانقلاب كبير في العالم، ومن أراد أن يتحقق ما هو عليه الدين الإسلامي عليه أن يطالع القرآن الكريم بإمعان، وإذ ذاك يصدر حكما مبنيا على الحقائق الباهرة التي يتضمنها، وقد جاءت فيه آيات كريمة تدل على روح الدين الإسلامي السامية؛ فمنها الآية الكريمة القائلة:
واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخوانا وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون .
هوامش
أقوال الكتاب في الإسلام والمسلمين
في روسيا جمعيات عديدة دينية أنشئت لتبشير الأمم الإسلامية بالدين المسيحي؛ مثل قبائل الكيرجيز، والتتر، والشركس، وغيرها، ويبلغ عدد المسلمين في روسيا وأوروبا نحو ستة عشر مليونا ونصف، هذا عدا مسلمي القوقاس وأواسط آسيا الخاضعين للحكومة الروسية، وحسب آخر إحصاء عام أجري في روسيا عام 1907 بلغ عدد المسلمين 106 في الألف من مجموع السكان، وإذا راجعنا تاريخ المسلمين في روسيا نجد أنه مرت عليهم أزمان قاسوا فيها صنوف الاضطهاد الديني، وأرغموا مرارا على ترك دينهم، واضطر منهم ألوف أن يتنصروا بالاسم، ونقلوا أسماءهم من سجلات المسلمين إلى سجلات المسيحيين، ولكنهم تنصروا اسما وهم لا يعرفون شيئا من الديانة المسيحية سوى تسميتهم بحنا وبطرس ومرقص ومتى، وفي الوقت نفسه لبثوا محافظين على عقائد الدين الإسلامي والأخلاق الإسلامية، ولبثت نساؤهم محافظة على الحجاب، وأذكر أنه منذ ثماني سنوات تمكن بعض نوابغ المسلمين الروسيين وأعيانهم من استصدار أمر قيصري بإعطاء الحرية للمسلمين المتنصرين اسما أن يرتدوا للدين الإسلامي؛ فارتد منهم في أيام قليلة نحو أربعين ألفا ونيف، وكانت أيام الارتداد هذه أيام أعياد واحتفالات شائقة بين المسلمين؛ أقاموا فيها الزينات والولائم، ونحروا فيها الجزر، وأكثروا من الصدقات على الفقراء والمحتاجين، وأقاموا الصلاة في جميع مساجد روسيا.
وأهم مسألة يشتغل فيها النواب المسلمون في مجلس الدوما هي توسيع الحرية للمسلمين، وتخويلهم حق الدفاع عن دينهم كلاما وكتابة، والرد على جماعة المبشرين الذين يصدرون في كل عام مئات من الكتب، ويكتبون في مجلاتهم وجرائدهم المطاعن على الدين الإسلامي، وكان المسلمون من قبل لا يصح لهم أن يردوا على تلك المطاعن أو يدحضوها بالبراهين الساطعة والأدلة الدامغة؛ بل كانوا مرغمين على سماع تلك المطاعن وهم صامتون، وقد أحرجت صدورهم وتغلغل الحقد في قلوبهم، ولكن بعد الجهد والعناء استطاع النواب المسلمون في مجلس الدوما بمساعدة بعض النواب المسيحيين المنصفين الذين طهرت قلوبهم من أدران التعصب الذميم وأشربت أفئدتهم بحب الإنصاف ونشر أولوية المساواة، من استصدار قرار من المجلس المذكور صادق عليه جلالة القيصر نقولا الثاني؛ يتضمن الأمور الآتية:
أولا:
منح المسلمين حق الدفاع عن دينهم، والرد على أقوال المبشرين وغيرهم من الذين يطعنون على الدين الإسلامي.
ثانيا:
منحهم الحق في إصدار جرائد ومجلات باللغة العربية، وكانوا من قبل لا يستطيعون إصدار جريدة أو مجلة إلا باللغتين: الروسية، والتترية.
ثالثا:
منحهم الحق في إنشاء مدارس وكتاتيب بجوار المساجد تعلم العلوم باللغتين: التركية، والعربية؛ وكانوا من قبل مجبورين على تدريس اللغة الروسية في مدارسهم.
رابعا:
تخويلهم الحق في تعيين الأئمة ورجال الدين من أشخاص يعرفون اللغتين: التترية، والعربية؛ وكانت الحكومة من قبل لا تسمح بتعيين المسلمين في الوظائف الدينية إلا إذا كانوا يجيدون اللغة الروسية، وأمثال هؤلاء قليلون بين رجال الدين المسلمين؛ ولذلك كانت الحكومة تعين رجالا جهلاء في الدين، وتهمل المستحقين؛ لعدم معرفتهم اللغة الروسية.
خامسا:
تخويلهم حق إدارة مدارسهم الدينية وأوقافها، وكانت - من قبل - هذه المدارس تديرها وزارة المعارف الروسية.
سادسا:
منع المسلمين من الاتجار ببيع المشروبات الروحية.
سابعا:
منع المسلمات من إنشاء مواخير للفساد وإدارتها.
ثامنا:
إعطاء المسلمين الحرية في قفل مخازنهم ومحلات متاجرهم يوم الجمعة، وعدم إرغامهم على قفلها يوم الأحد.
تاسعا:
تعيين أئمة من الجيش للقيام بخدمة الجنود المسلمين الدينية.
عاشرا:
تقديم مأكولات للجنود المسلمين ليس فيها طعام محرم في الدين الإسلامي.
حادي عشر:
منح المسلمين الحرية في إنشاء الجمعيات الخيرية، والنوادي الأدبية العلمية؛ لتعمل على ترقية المسلمين ماديا وأدبيا.
وبعد صدور الأمر القيصري بالتصديق على هذا القرار انشرحت صدور المسلمين في روسيا، وتنسموا رائحة الحرية التي ساعدتهم على السير في طريق الرقي الأدبي؛ فأنشأوا الجرائد العديدة بلغتهم العربية؛ فأصبح عندهم نحو مائتي جريدة ومجلة: سياسية، وأدبية، وتاريخية، ودينية، بعد أن كانت جرائدهم قليلة العدد جدا، وألغى كثيرون القسم الروسي من جرائدهم، وأنشأوا أيضا كثيرا من الجمعيات الخيرية والأدبية والمدارس العديدة، وأصبحوا يرفلون في رياض الحرية.
على أن كثيرين من كتابهم الفضلاء ما زالوا يشكون من جمود المسلمين في روسيا، وتمسكهم بعقائد وتقاليد قديمة، وأنه يلزمهم وقت طويل لمجاراة الأمم الغربية في مضمار الحياة، وإقبالهم على تعلم العلوم العالية، وكثيرون من أولئك الكتاب الأفاضل أخذوا يؤلفون الكتب، ويكتبون المقالات في الجرائد والمجلات؛ يحثون بها أبناء دينهم على طرح نير الجمود والاستكانة، ويرشدونهم إلى طريق الرقي، وبوجه الإجمال فإن مسلمي روسيا نهضوا في هذه الأيام نهضة شريفة تبشر بحسن الاستقبال وخير المآل، إن لبثوا سائرين على محور الهمة والنشاط حقق الله آمالهم.
على أن الحكومة الروسية من قديم الزمان كانت - وما زالت ولن تزال - عاملة على معاملة المسلمين في بلادها بالحسنى، ومنحتهم كثيرا من الحقوق لم تمنحها لغيرهم من الأمم المستظلة بالراية الروسية، ولا عجب في ذلك؛ فإن المسلمين في روسيا أظهروا في حوادث كثيرة على أنهم من أشد الناس إخلاصا لحكومتهم، وطالما دافعوا عنها بنفوسهم وأموالهم، واشتهرت الجنود الإسلامية في الجيش الروسي بالبسالة والإقدام والدفاع عن حقوق الوطن، وقد عرف فيهم ذلك قياصرة روسيا فاختاروا حرسهم الخاص منهم، ومنحوهم حقوقا عديدة.
والحكومة الروسية من قديم الزمان تحافظ على شعور المسلمين الديني، وتعاملهم في الحقوق المدنية بحسب الشريعة الإسلامية، وقد نشرت في العدد 3605 من جريدة المؤيد الصادرة يوم الاثنين الموافق 10 مارس سنة 1902 مقالة تحت عنوان «الشريعة الإسلامية في المحاكم الروسية» وجدت إظهارا للحقيقة أن أنشرها هنا، وهي معربة عن جريدة نوفويه فريميا أشهر الجرائد الروسية، ولسان حال وزارة الخارجية الروسية، وها هي بنصها وفصها:
لا توجد مقاطعة في أنحاء المعمورة تقضى فيها حقوق أهاليها بشأن الإرث حسب نصوص شريعة الديانة المتدين بها أهل تلك المقاطعة الخاضعون لمملكة متدينة بدين يخالف دينهم، ففي الجزائر والهند تستعمل محاكمها الشريعة الإسلامية في قضايا الوطنيين الأصليين فقط، وأما في سائر أنحاء فرنسا وإنجلترا فإن المسلمين يرثون حسب نظام قانون نابليون، والقوانين المدنية للبلاد التي يقيمون بها، غير أن روسيا شذت عن هذه الطريقة ففيها وحدها يرث المسلمون حسب نصوص الشريعة الإسلامية، وقضاة محاكمها مأمورون بالسير على تلك الشريعة المرعية في محاكمنا من عهد بعيد، ومصرحة في البند 1338 وما بعده من بنود المجلد العاشر من القانون المدني، ومشروحة شرحا واضحا لا يدع أثرا للريب في النفوس.
ومع ذلك فإني أقول: لقد حان لحكومتنا أن توجه التفاتها إلى الصعوبات التي تنجم عن استعمال تلك الشريعة التي لا يبررها بند القانون القائل باستعمالها بالنظر لعدم مطابقتها للعقل.
ولقد ظهر من آخر إحصاء أن نسبة عدد المسلمين 11 في المائة من جميع الأهالي الروس،
1
منهم ثلاثة في المائة من مسلمي أوروبا بروسية، والباقون في أملاك روسيا في آسيا، ثم إنه في بعض ولايات روسيا يكثر عدد المسلمين حتى إنه يبلغ عدد نصف الأهالي؛ كولاية أوفا، وفي بعضها يقل عددهم.
ففي قضايا ميراث ومخاصمات المسلمين تسير المحاكم الروسية حسب نصوص الشريعة المحمدية، وذلك مما يدعونا إلى إنعام النظر في هذا الأمر.
إن المسلمين القاطنين في روسيا وأوروبا يخضعون دينا لرئيسين روحيين عظيمين: أحدهما يقيم في ولاية القرم، والثاني في ولاية أورنبرج، وأما مسلمو القفقاس فينقسمون إلى قسمين: سنية، وشيعية؛ يقيم رئيساهما في مدينة تفليس عاصمة تلك البلاد، ورؤساء الدين هؤلاء يقضون في مصالح المسلمين؛ من زواجهم، وأحكام دينهم، وإرثهم، وإنما في قضايا الإرث يكونون كوسطاء للتراضي والصلح بين الورثة، وإذا لم يستطيعوا ذلك فالورثة يترافعون أمام المحاكم الروسية التي تحكم لهم حسب نصوص الشريعة الإسلامية كما قدمنا، وإذا أجلنا الطرف في هذا النظام المطابق لنصوص المجلد العاشر بخصوص إرث المسلمين فلا يبقى في نفوسنا ريب أن هؤلاء يترافعون في مسائلهم الدينية لدى أئمتهم الذين يؤلفون محكمة لا يقبل حكمها النقض والإبرام، وأما في القضايا العامة - وعلى الأخص قضايا الإرث - فإنهم يترافعون أمام المحاكم الروسية التي تقضي لهم أيضا حسب نصوص شريعتهم المرعية الإجراء، والموضوعة بين بنود قوانيننا الخاصة بالمسلمين، وعليها ذيول شتى بخصوص إرث المسلمات لأزواجهن، وهنا نورد نص الفقرة الأخيرة من قانوننا الذي يصرح بذلك في قوله: «في قضايا إرث المسلمين وكذلك في جميع قضاياهم العامة ينبغي على القضاة الروس أن يسيروا طبقا لنصوص الشريعة الإسلامية، ولا أدري لماذا تفضل حكومتنا المسلمين على اليهود من رعاياها مع أن تلمودهم يتضمن شرائع مختلفة ونواميس متعددة لجميع ظروف وأحوال اليهود المدنية والدينية، وإذا فرضنا بأن ذلك التفضيل ناجم عن حصول المسلمين عندنا على حقوق وامتيازات أكثر من اليهود، وأن شرائع التلمود غير وافية أو تامة كالشريعة المحمدية؛ فإنه كان يمكننا الوقوف عند هذا الحد في الكلام، ونرضى بسير الأحكام التي ذكرناها على محورها ومجراها، غير أن محاكمنا لحد الآن لم تتمكن من السير على قاعدة معلومة محدودة؛ لكي تقوم بما عهد إليها من الواجب الملقى على عاتقها؛ ذلك لأن قوانين الشريعة الإسلامية غير مرتبة الوضع، ومن جهة أخرى فإنه لا توجد في بنود نظاماتنا صراحة ترشد القضاة إلى طريقة معلومة ليسيروا بموجبها، وتلك النظامات الإسلامية المعروفة بالشريعة تؤلف مجموعة أجوبة مختلفة لأسئلة متعددة بخصوص الحقوق والأحكام، قد وضعها ألوف من المتشرعين المسلمين، وكلهم من رجال الدين الذين وضعوها باللغة العربية طبقا لأحكام القرآن ونصوصه، وقد اجتمع من هذه القواعد والأجوبة منذ ظهور الإسلام حتى يومنا هذا عدد لا يحصيه حاسب، وقد اجتهد علماء العرب في جمع شتات قواعد تلك الشرائع في مجموعات خاصة؛ بقصد نشرها، وتسهيل وجودها، والرجوع إليها عند مسيس الحاجة، وترجم أكثر هذه الكتب إلى اللغتين: الفرنسية، والإنكليزية؛ وإنما لم يترجم منها إلى اللغة الروسية سوى الكتب الآتية:
أولا:
مجموعة عقائد الشيعيين وشرائعهم ترجمة الأستاذ ميرزا قاسم بك في عامي 1862 و1863.
ثانيا:
كتاب شريعة السنيين ترجمة غورديكوني عام 1893 تحت اسم الهداية.
ثالثا:
نظام إرث المسلمين ترجمة العالم موخين عام 1898. وهذه الكتب الثلاثة نافعة جدا لدرس الشريعة الإسلامية.
ثم إنه كما أشرنا آنفا بأن بنود المجلد العاشر من النظام المدني الروسي لا تصرح للمحاكم الروسية صراحة تامة بالاستناد على نظام إسلامي معروف أو مترجم للغة الروسية؛ ولذلك كان القضاة في أكثر القضايا يقعون في أشد الارتباك، ولا يجدون لهم مخرجا من تلك الحالة الحرجة سوى الكتابة إلى أئمة المسلمين يسألونهم حل مشكل تلك القضية فيجاوبونهم عليها بذكر فقرة الشريعة الموافقة لحل تلك القضية حلا صحيحا عادلا حتى يبنوا حكمهم عليها، ولكن شوهد كثيرا بأن تلك الفقرات المرسلة من رجال مختلفين لحل قضية واحدة تناقض الواحدة الأخرى، وعدا ذلك فإن نظام الإرث واسع جدا، وهو أعقد فصول الشريعة، ولذا جعل علما مستقلا لا يدركه إلا بعض أئمة المسلمين الذين يسمون القسام، والقضاة الروسيون يصعب عليهم درس هذا العلم الواسع، أو درس الشريعة الإسلامية؛ لجهلهم اللغة العربية الموضوعة بها.
ثم إنه لا يتسنى لإحدى المحاكم أن تصدر حكما بإرث ولم يرضخ له المترافعون الورثة ورفعوه إلى محكمة أعلى، فربما نقضت هذه المحكمة بعض الحكم الابتدائي؛ استنادا على فتاوى أئمة المسلمين الموجودين بالقرب منها، وبذلك تخالف الحكم الأول الذي أصدرته المحكمة الابتدائية؛ طبقا لفتاوى أئمة المسلمين الذين أفتوا لها بتلك الفتوى، وكانت فتواهم مخالفة لفتوى الآخرين، وكثيرا ما تصل تلك القضايا إلى مجلس الشيوخ الذي لا يجد أيضا إلى حلها سبيلا سوى الاستناد على فتاوى الأئمة، وبالاختصار؛ فإن قضايا إرث المسلمين وغيرها تسبب لمحاكمنا ارتباكا عظيما هي في غنى عنه، وينجم أكثره من عدم معرفة قضاتنا الشريعة الإسلامية، وأنى لهم ذلك؟!
ثم استطرد الكاتب كلامه فقال: ولقد طالعت مقالة في مجلة وزارة الأديان بهذا الشأن ذيلها كاتبها بعدة آراء، إذا سارت عليها حكومتنا تخلصت من تلك الحالة الحرجة، ولإتمام الفائدة أذكر تلك الآراء:
أولا:
ينبغي أن يضاف إلى نموذج مدارس القضاة الحقوقية درس الشريعة الإسلامية حسب الطريقتين: السنية، والشيعية؛ وعلم الإرث.
ثانيا:
ينبغي على وزارة الأديان أن تنتخب عدة علماء أفاضل لهم معرفة تامة وخبرة زائدة بالشريعة الإسلامية، وتعهد إليهم ترجمة تلك الشريعة إلى اللغة الروسية؛ ليسير بموجبها القضاة.
ثالثا:
ينبغي أن تضاف إلى بنود النظام المدني بنود جديدة يبين فيها كيفية استعمال الشريعة الإسلامية، والطريقة التي ينبغي على القضاة أن يسيروا عليها في تطبيق فتاوى الأئمة على نصوص الشريعة ، وإيجاد الفقرات الموافقة من الشريعة للفصل في منازعات المتخاصمين بكيفية عادلة غير مجحفة بحقوق أحد.
رابعا:
ينبغي على محاكمنا أن تسير أيضا على نظام محاكم تركستان الأهلية.
خامسا:
ينبغي على حكومتنا أن تنتخب من المسلمين أئمة ذوي أهلية وكفاءة تعينهم معاونين للقضاة الروس في حل مسائل الإرث والحكم في بعض القضايا، وتسن لهم نظاما يسيرون عليه، وترتب لهم رواتب شهرية.
ثم ختم الكاتب مقالته بقوله: ولنا وطيد الأمل بأن حكومتنا تعير التفاتها إلى هذه المسألة الخطيرة التي لا يحسن السكوت عليها.
وفعلا لبت الحكومة الروسية نداء هذا الكاتب الحر المعتدل، ونداء غيره من الكتاب الروسيين المنصفين، وعهدت إلى لجنة من الكتاب المسلمين الروس والمستشرقين تعريب الشريعة الإسلامية؛ ليسير بموجب نصوصها القضاة الروسيون في القضايا الخاصة بالمسلمين.
ومما يحسن نشره ويطيب ذكره أن للمسلمين الروسيين عناية خاصة لا توجد لدى غيرهم؛ وهي حفظ القرآن الكريم؛ لا سيما تحفيظه للفتيات، وإتماما للفائدة أنشر مقالة بهذا الصدد، كنت نشرتها في العدد 3725 من جريدة المؤيد الغراء الصادرة في 15 أغسطس سنة 1902 عربتها عن جريدة ترجمان الروسية الإسلامية؛ وها هي:
جرى في التاسع من شهر يوليو الماضي امتحان مدرسة البنات التي تحت إدارة حضرة الفاضلة بمبة خانم بولاتوقوف، وقد حضر الامتحان ما ينيف عن مائة سيدة من والدات الطالبات وقريباتهن، فكان عدد المنتهيات اللواتي نلن الشهادة الابتدائية باللغة العربية والروسية والدين والحساب وغير ذلك من العلوم عشر فتيات، وقد أجادت تلميذات المدرسة الأجوبة، وشنفن أسماع الحاضرات بتلاوة بعض سور القرآن الشريف.
وفي الحادي عشر من الشهر المذكور جرى في مسجد المدينة امتحان إحدى طالبات هذه المدرسة البالغة من العمر تسع سنوات في حفظ القرآن واستظهاره أمام جمهور غفير من الوجهاء والأعيان، وقد فازت تلك الفتاة في الامتحان فوزا مبينا وتلت القرآن جميعه في ساعات متوالية، فلقبت بالحافظة، وحسب العادة الجارية عندهم ألبسها الإمام عمامة خضراء صغيرة، وعلى إثر الامتحان أولم والد الفتاة السيد حسن النحاس وليمة فاخرة لجميع الحاضرين.
ثم قالت الجريدة عن حفظ القرآن ما مؤداه : إن استظهار القرآن وحفظه عادة قديمة عند المسلمين، ولا تخلو الآن عندنا مدينة أو قرية من حافظين وحافظات للقرآن الكريم، وهذه العادة كانت لها أهمية عظمى في صدر الإسلام؛ لحفظ القرآن سالما من التغيير والتحريف؛ لعدم انتشار المطابع في ذلك الوقت، ونسخه الخطية كانت قليلة جدا، ولذا كان يحفظه الحافظون جيلا عن جيل، فلما شاعت المطابع طبع منه ملايين النسخ.
ومن ذلك أيضا أن حضرة الفاضلة السيدة صفية عليه خانم عقيلة سليم أفندي جانتورين تحصلت من وزارة المعارف على رخصة لإنشاء مكتب، وبعد أن فازت بضالتها المنشودة شادت من جيبها الخاص دارا فسيحة للمدرسة؛ لتعليم الأولاد فيها اللغتين: العربية، والروسية، وصناعة الأحذية والحدادة، وقد استحقت هذه الفاضلة الشكر.
وقد أخذت بعد ذلك النهضة بين مسلمي روسيا تسير سيرا مطردا، وظهر بينهم من نوابغ الكتاب والمؤلفين الذين تلقوا العلوم في مدارس روسيا وأوروبا العالية، وأخذوا قسطا وافرا من مدنية الغرب؛ مثل: صدر الدين أفندي مقصودوف أحد النواب المسلمين في مجلس الدوما، الذي خطب من عهد قريب خطبة في مجلس الدوما كان لها دوي هائل في جميع أنحاء روسيا، أنحى فيها باللائمة على بعض الموظفين الروسيين الذين يضطهدون في بعض الجهات المسلمين ويصادرون مدارسهم، ولكني لدى إمعان النظر في خطبته ألفيته يبالغ في سرد الحوادث، وكأني به كان يبلغ تلك المبالغة؛ ليجعل لخطبته تأثيرا في النفوس، ويحرك الحكومة على الاقتصاص من الموظفين الذين يخالفون القوانين ويعتدون على الرعية بدون حق، والذي أعلمه بنفسي وسمعته من أفواه الكثيرين من كبار مسلمي روسيا وسراة القوم أن المسلمين في روسيا يرفلون بحلل الصفاء، ويرتعون في رياض الهناء.
ومن نوابغ الكتاب المسلمين في روسيا الكاتب الشهير أحمد بك أجايف المقيم الآن في الآستانة العلية يحرر بجرائدها، وقد رأيت لحضرته في بعض مؤلفاته مقدمة دافع بها عن الدين الإسلامي، وذكر الأسباب التي حملت الأوروبيين على الطعن على ذلك الدين؛ لسبب جهلهم معتقداته، وقد رأيت أن أنقلها عنه بالحرف الواحد:
قال الكاتب يذكر الترهات والاختلاقات التي كان ينسبها الأوربيون للدين الإسلامي كما يأتي: إن سواد الأوروبيين الأعظم الذي يسلم بداهة بالأمور دون بحث بأسبابها ونتائجها؛ وذلك بالنظر لاستيلاء العقائد الفاسدة على عقولهم، ورسوخها في أذهانهم؛ سواء كان في أوروبا أو روسيا فإنهم يعتقدون اعتقادا متينا بأن الذنب على الإسلام في جميع ما يجري في البلاد الإسلامية، ولولا وجوده لكانت الحال هناك على غير ما هي عليه الآن، المعتقدون بهذا الاعتقاد يرون أن المسلمين ما داموا مسلمين لا يستطيعون الإقبال على المدنية الأدبية العمومية، ثم إنهم - أي الغربيين - يزعمون أن الشر جميعه متمثل في الإسلام، ويتصورون أن أعظم وسيلة تنقذهم منه هي ملاشاة نفس الدين ومحقه من وجه الأرض، وهذه الأفكار رسخت في العقول منذ أجيال عديدة سالفة من جراء الخصام والشقاق والنزاع العنيف بين الغرب والشرق؛ وذلك في خلال قرون مديدة بسبب اختلاف الإسلام والمسيحية، الأمر الذي يظهر الرجل الساذج الذي لم يعتد التبصر والتفكر والتروي بأن هاتين الديانتين على طرفي نقيض في الجواهر والمعتقدات، ولا يمكن التوفيق بينهما، وأخيرا فإن هذا الاعتقاد ساد مدة طويلة بين أهل الغرب، يدلنا على ذلك دلالة واضحة الآداب البزنطية واللاطينية المضادة للإسلام، ومن أراد زيادة إيضاح فعليه أن يقف على مؤلفات ومخلفات العصور الوسطى، لا سيما الفترة التي حدثت فيها الحروب الصليبية.
والإنسان يتأثر تأثيرا شديدا تهتز له أعصابه لدى مطالعته تلك الترهات والمثالب والمطاعن التي كان يتناشدها مغنو وشعراء الرومان الساذجون، وينادي بها النساك ورجال الدين في المعابد والمجتمعات العامة والبراري؛ يصفون فيها شخص وتعليم سائق الجمال الذي أطلقوا عليه اسم «النبي العربي الكاذب»،
2
ومن الأمور المضحكة المبكية نظر أهل الأجيال الوسطى إلى الإسلام، واعتقادهم به، فكان الشعب يصدق بداهة كل افتراء على الإسلام وأتباعه، وقد بالغوا في استنباط المفتريات والسفاسف لدرجة لا يجوز تصديقها؛ لما فيها من الغرابة المنكرة، وقد أدى بهم الجهل إلى تصوير محمد بهيئة الشيطان ذي قرنين، وأطلقوا عليه (ضد المسيح) الراسخ في أذهان القوم بأنه يفسد الناس ويخرجهم عن دينهم، ولذلك لا بد أن يزج في سعير النار؛ حيث لا يقر له فيها قرار، ثم إن تيورين الكاذب المفتري ألف رواية وصور فيها محمدا بهيئة الصنم ماهوم الذي كانوا يعبدونه في قادس ولم يجسر كارلوس الأعظم على تحطيمه وتكسيره؛ خوفا من الأبالسة المختفية في جوفه.
ومما مر يتضح للقارئ أن العقول النيرة كانت منغمسة بمثل هذه الاعتقادات الفاسدة والمفتريات الباطلة البعيدة عن الحقيقة بعد السماء عن الماء، وقد أجمعوا عليها كلهم حتى إنه لو قام بينهم في مثل ذلك الوقت رجل كشف الله له عن نور الحقيقة وجاهر بها؛ لكنت ترى الناس يصبون عليه صواعق سخطهم ونقمتهم؛ فقد كادوا يحرقون دانتي في النار؛ لأنه عد محمدا في (روايته الإلهية) بين الرجال العقلاء المصلحين ذوي المدارك السامية، فاضطر لكي ينجو من سخط الشعب الذي تهدده بالقتل أن يضعه في عداد الرجال الأشرار الذين عاثوا في البلاد فسادا، وبثوا بذور الشقاق والنفاق والخصام بين معاصريهم؛ مثل «فراد التشينو» و«برتران بورن» وغيرهما اللذين هم في عرف الشعب من سكان جهنم، ثم إن المصور الإيطالي الشهير أركانيوس وضع عدة رسوم للأشخاص الذين يحتقرون جميع الديانات على الإطلاق واتخذوها لمجرد الهزء والسخرية، فصورهم واقفين في جهنم ولهيب النار يكتنفهم من جميع الجهات؛ وفي مقدمتهم محمد، وأفيردوئيس (الوليد بن رشد)، والمسيح الدجال أو ضد المسيح.
وبوجه الإجمال فإن الأجيال الوسطى - كما قال أرنست رنان - قد اشتهر أهلها بالحدة وعدم التروي، ولم يكن عندهم درجة متوسطة لأمر من الأمور، فكان محمد في عرفهم خداعا ماكرا متخذا مهنة سرقة الجمال، وقالوا عنه بأنه كاردينال سعى للحصول على وظيفة البابوية فلم يفز بها؛ فوضع ديانة جديدة؛ لكي ينتقم من زملائه الكرادلة، وما ضارع ذلك من الأوصاف المجردة عن الإنصاف ولا تنطبق على العقل السليم،
3
تمر الأجيال، وتنقضي السنون؛ ولا تزال سفاسف الناس وترهاتهم وأفكارهم السخيفة الواهية تضغط على العقول النيرة كما كانت في العصور المظلمة، إن بيبلياندر وهوتينبجر وماراجي وغيرهم أخذوا يدرسون القرآن درسا مدققا على قصد تقويض أركانه، وأما ليبنتس وشكسبير فإنهما تكلما كثيرا عن نبي المسلمين بقصد إضحاك الجمهور وتسليتهم، وأما فولتير فإنه التمس الغفران من البابا بواسطة تقديمه له رسالة الطعن المشهورة التي عنوانها «محمد»، وقد نسب بها إلى النبي محمد أمورا منكرة لم تخطر بباله، ومنافية على خط مستقيم لروح تعليمه ومبادئه.
ثم إن الجيل التاسع عشر المسمى بحق جيل العلم والانتقاد الصحيح لم يخل من مثل هذه المختلقات والمفاسد التي جاهر بها بعض قادة الأفكار وأصحاب العقول الممتازة؛ فقد وضع العالم الإنكليزي الشهير كارلوس فورستير عام 1829 مجلدين ضخمين وقعا موقع الاستحسان والاحترام في نفوس رجال الدين؛ لأنه برهن فيهما بالأدلة الكثيرة على أن محمدا هو قرن الكبش الصغير الوارد ذكره في الإصحاح الثامن من نبوة دانيال، وأن قرن الكبش الكبير هو البابا،
4
ولكن النصف الثاني من الجيل التاسع عشر الذي أشرقت فيه أشعة العلم، وأماطت النقاب عن الشرق وتاريخه وحياته؛ وذلك أنه عندما ازدادت المواصلات بين الشرق والغرب بواسطة انتشار السكك الحديدية، وازداد توافد الغربيين إلى الشرق؛ حيث دفعتهم المصالح التجارية والصناعية إلى الضرب في طول البلاد وعرضها؛ فقاد العلم وحب الاستقرار علماءهم وأصحاب الأفكار الفياضة منهم إلى درس أخلاق وعادات أهل الشرق المتدينين بغير دينهم، ودرس أحوال البلاد في نفس البلاد، ولم يقفوا عند هذا الحد بل تجاوزوه إلى مطابقة الحاضر بالغابر مطابقة مبنية على العلم والتحقيق والكتابات الماضية، وأبدوا في خلال ملاحظاتهم على الأدوار العديدة التي تقلبت فيها الأديان منذ ظهورها وما تحملته من الانقلاب والتغيير، ولم يميلوا في عملهم هذا ودرسهم مع الأهواء؛ بل دونوا الحقيقة مجردة عن كل غرض فاسد، وميل منحرف، وهذا يناقض حالة العلماء في الأجيال الماضية، الذين غشى التعصب الديني أبصارهم، وأسدل حجابا كثيفا على أفكارهم؛ فأعماهم عن المجاهرة بالحقيقة، وقادهم إلى الابتعاد عن جادة الحق والإنصاف، وقد تبعهم في ذلك سواد الناس الأعظم الذين لزعمهم بأنهم حاملو الحق فإنهم لا يستطيعون احتمال معتقدات غيرهم من الناس، والوقوف حيالهم موقف السكينة والرضى، بل يسفهونها، ويذهبون في انتقادها كل مذهب.
أما في أيامنا الحاضرة التي أصبحت فيها الأديان مادة للمباحث العقلية فقط؛ لأنها فقدت مادة التعلق بها؛ ذلك التعلق الديني الشديد، ولا يهتم بها الناس الآن إلا لأنها من مظاهرات نفس الإنسان، ولم يعد الناس يتحاورون بشأنها، ولا يوجه كل صاحب دين إلى الأديان الأخرى أنواع السباب والمطاعن والتهكم، وأصبح عمل المستشرق الذي يهتم بأمور الأديان والوقوف على تاريخ الشرق يخرج من تحت ذراعه؛ كتحليل الكيماوي الذي يخرج من معمله، وتراه - أي المستشرق - يهتم بجميع العوارض والمظاهر اهتماما واحدا دون أن يفضل أمرا منها على الآخر، وإنما ينشرح صدره وتطيب نفسه لدى اطلاعه ووقوفه على مبتكرات فكر الإنسان في كل آن وزمان، وإظهار قواه الفياضة، ولذلك فلا عجب إذا شاهدنا في هذا العصر الانقلاب العظيم الشأن الذي أحدثه درس أحوال الشرق؛ فإنه غير نظر العلماء السابق بشأن الأديان المختلفة وشؤون الشرق على العموم؛ لا سيما بشأن النبي محمد وتعاليمه، فأصبح محمد في عرفهم ونظرهم ليس صورة للصنم ماهوم، ولا هو ضد المسيح المقيد في جهنم، ولا قرن الكبش الصغير الوارد ذكره في نبوة دانيال؛ بل هو ذلك المصلح العظيم الذي هز العالم بتعاليمه ومبادئه وأفكاره السامية، وأنه وضع أساس تعليمه؛ ليس لأنه كان كاردينالا ولم يفز بوظيفة البابوية؛ بل لأن فؤاده كان يلتهب غيرة على الحق الذي شوهت وجهه الشكوك أو الاختلافات التي دخلت عليه، ذلك الحق الذي نادى به في العالم ذلك «النبي العظيم» قبل ظهوره بستة قرون، ولم يدرك جوهره تلاميذه النشيطون الغيورون، بل ذهبوا في تأويله كل مذهب عندما علموا الناس به؛ لا سيما في البلاد العربية، وقد ورد في القرآن آيات كثيرة تدل على ذلك بأجلى بيان، وتأملوا فقط ذلك الشكران الجميل الذي جاهر به نبي المسلمين بشأن الصابئين الذين ظنوا لأول وهلة أنه ينادي بتعليم المسيح.
ثم إن آيات القرآن النازلة بشأن آلام عيسى وولادته، وذكر مريم والدة روح الله، فإنك ترى التأثر ظاهرا من كل كلمة منها، مقرونا بذلك بمزيد التعظيم والاحترام، وفوق هذا وذاك فإن المسلمين يعظمون مريم أكثر من بعض الطوائف النصرانية؛ فهي في عرف المسلمين عذراء طاهرة صالحة قد اصطفاها وشرفها رب العالمين، والنبي يظهر لها احتراما دينيا يفوق الوصف؛ حتى إنه عندما أراد أن يمتدح ابنته فاطمة قال: «فاطمة سيدة نساء أهل الجنة إلا مريم بنت عمران.» ثم إن النبي أدرك تعليم عيسى كما هو، وجاءت الديانة المحمدية مطابقة لها، ونفت جميع المعتقدات الباطلة التي دخلت عليها وشوهت جوهرها، وورد في أمكنة كثيرة من القرآن ما مؤداه: وإني جئت لإثبات تعليم عيسى الحقيقي.
5
قال المستشرق الإنجليزي الشهير ماكس موللر: سوف يعلم المسيحيون بدهش عظيم أن محمدا أحد معضدي يسوع، وأن الديانة المحمدية ما هي إلا شيعة من شيع الديانة النصرانية، وإذ ذاك يندهش المسلمون والمسيحيون معا بسبب ما جاء في تاريخهما من الخصام والشقاق والعداء بسبب الدين،
6
وقد وافق كثير من علماء أوروربا المستشرقين على رأي هذا العالم، وعضدهم في ذلك أيضا كثير من الروسيين العقلاء ذوي الأفكار السامية؛ مثل: فلاديمير سولوفييف، وبيترون.
والعالمة المشهورة مدام ليبيديف التي تقيم معظم السنة في القاهرة، ويعرفها كثيرون من أفاضل ونبلاء وعلماء المصريين، فإنها وضعت عدة كتب بلغات مختلفة؛ دافعت بها عن الدين الإسلامي دفاعا شديدا، وأظهرت فضله، ولحضرتها مؤلفات كثيرة بشأن المرأة حرية بالمطالعة والاعتبار.
ولكن مع الأسف نقول: إن سواد الناس الأعظم لم يزل على غيه تائها في فيافي الضلال، ولا يجنح إلى الحقيقة الثابتة التي أيدها علماؤه وقادة الأفكار منهم، بل ما زال رازحا تحت نير اعتقادات وخرافات القرون الوسطى بشأن محمد وتعليمه، ناسيا ضعف الأمم الإسلامية في عصرنا الحاضر، وانحطاطهم السياسي والأدبي، والاختلاف العام فيما بينهم إلى الإسلام، وجاهلا بأن كل إنسان في هذه الحياة لا يستطيع أن يلعب على الدوام دور النجاح والتقدم، وأن الديانة ما هي إلا شيء مستقل مجرد عن كل قوة لا تستطيع تحسين حالة الحياة، ثم إنه وأخيرا لا بد من حصول الشقاق المتبادل الدائم بين المتدينين بالديانات المختلفة، ولو كان ذلك بطريقة غير محسوسة ، لكنه دائم الحركة المشتركة بين المتحالفين في المعتقدات، وكل ديانة كما لا يخفى تكون في أول ظهورها محركا قويا تدب روح الحركة في قلوب الذين يتبعونها؛ وذلك على قدر ما يكون لها من الثأثير الروحي والمادي في نفوسهم، ولكنها - أي الديانة - تتقلب مع مرور الزمان في أدوار مختلفة بحسب حالة تابعيها من العلو والانحطاط؛ فتعتز وتعلو بعلو شأنهم، وتنحط بانحطاطهم، ويدخل عليها في الحالة الأخيرة الفساد، وتشوه الاختلافات التي تدخل عليها وجه حقيقتها، وتزعزع أساس جوهرها، وهذا هو السبب الوحيد والبرهان الفرد على ظهور البدع والشيع المتعددة في هيكل الديانة الواحدة، وكذلك دخول الفساد على تعاليمها وتفاسيرها، ولو قابلنا حالة الديانة المسيحية بحالتها في القرون الوسطى، وفي أيام الإصلاح، وأيامنا الحاضرة؛ لظهرت لنا بأجلى بيان تلك الأدوار المختلفة التي كابدتها، وما دخل عليها من التغيير والفساد والتفاسير المتناقضة المتباينة؛ مع أنها ديانة مبنية على أساس متين واضح، ومثل ذلك جرى للديانة الإسلامية؛ بقطع النظر عما دخل عليها من البدع والتفاسير التي لا تطابق حقيقة جوهرها، وليست منها في شيء.
هوامش
صفحة غير معروفة