[مقدمة المؤلف]
وبه نستعين، الحمد لله رب العالمين، هادي من اهتدى من المهتدين، وولي رشد من رشد من الراشدين، هو الله الذي دل على وحدانيته وربوبيته، بما أراهم من شواهد آياته في أرضه وسماواته، وبما أظهر لهم في أنفسهم من آثار قدرته بتقديره وتدبيره إياهم، وحكمته في تأليف خلق أعضائهم وأبدانهم، باطنها وظاهرها، وما في ذلك وفي حواسهم الخمس، من أبصارهم التي بها يبصرون، وشوامهم التي بها يميزون بين الأرياح الطيبة، والمشمومات المنتنة، وحاسة الذوق من اللسان والفم، التي بها يميزون ويفهمون مذاق كل ما له طعم، وحاسة السمع التي يدركون بها كل مسموع من الأصوات، ويفهمون ما فيه من ضر ونفع، (والحاسة) الخامسة التي في جميع البدن، وهي حاسة اللمس اللامسة، التي بها يوجد كل حر وبرد، ويابس ورطب، وخشن ولين، مع ما لا يحصى ولا يؤتى عليه بعدد.
صفحة ١٨
ومن آثار حكمته وتدبيره في جميع كل ما صنع ودبر من الإنسان وغير الإنسان، وجميع ما في الأرض، برها وبحرها، من الدواب، والطير، والحيوان المختلفة في صورها، وهيئاتها وتركيبها، وأغذيتها، وأصواتها، وظلها، وكل ما في السماوات والأرض من الملائكة والجن والإنس وجميع الحيوان، والشمس، والقمر، والنجوم، وما يحدث الله بجريها وطلوعها وأفولها من تغير الزمان، وما تدرك به الليالي والأيام، من العدد والحساب، وإحاطة الفلك بذلك كله، ودوره على أعلاه وأسفله، دائما لا يفتر طرفة عين، عند فكر من فكر ونظر، ولا في غفلة الغافلين، وما في الحيوان في البر والبحر، من الإنسان، وغير الإنسان من عجيب صنعته، أزواج الإناث والذكران، وتصريف نسولهم في الأرحام، وما يكون منها يبيض في العش والأكنان، واختلاف أحوالها في الصور والهيئات والاعتدال والألوان، التي إنما تحيط العقول والفكر إذا اجتهدت وتفرغت لإجالة التفهم والنظر بقليل من كثير، وصغير من كبير ما يحيط به صانعها، الذي صنع كل عجيب حكمة، فابتدع، فلا بد أن يفهم كل ناظر نظر ومفكر عاقل فكر أن لما ذكرنا من المبتدعات مبتدع، إذ لا بد لكل موضوع مصنوع محدث من واضع، كما لا بد باضطرار لكل مدبر من مدبر، وكما لا بد لكل مرفوع وإن لم نر من رفعه من رافع، وكذلك كل مصور أو مبني وإن لم نر من صوره وبناه، فلا بد له من مصور بان، وكذلك فلا بد للإنسان وغير الإنسان من الحيوان من خالق خلقهم، ومصور صورهم، وتولى صنعهم وتدبيرهم، وابتداعهم، وتصويرهم، وذلك فهو الله، الواحد الحكيم، الأول قبل كل أول، والقديم الجواد الذي كل من فضل جوده، الرؤوف الرحيم الذي هو أرحم وأرأف بجميع ما خلق من الوالد الرحيم بولده، بل رحمة الآباء والأمهات من فضل رحمته، ولا بد لكل مدبر محكم مصرف من مدبر حكيم مصرف، وبلا شك فلا بد لكل ما وجد مبتدعا محدثا مصورا مصنوعا مؤلفا، من مبتدع صانع محدث مؤلف مصور بل قد شهدت فطر العقول عند كمال فطرتها قبل جولانها بالنظر وغوص الفكر أنه رب كل الأشياء مما في الأرض وفي السماء، وولي صنعتها، وتلك في جميع الناس وكل البشر سودانهم وحمرانهم من كل الأجناس معرفة طباع وفطرة، إذ لا يحتاج معها إلى نظر وفكرة، وهو الله الذي لا تشبهه جميع الأشياء، ولا تشبهه في شيء من صفاتها، لأنه لو أشبه شيئا من أجزائها أو كلها، للحق به ما يلحق بها من صفاتها وأسمائها، حتى يكون بكثير مما وصفت به موصوفا إذ كان كل شبيه لما يشبهه مثيلا، ولحاله أو ببعضها معروفا، والله تبارك وتعالى الواحد الحق في الواحدانية، الأول الذي لا مثل له في القدم والسبق والأولية، البعيد من شبه ما براء وفطر وصنع من البرية، بل هو الله الذي ليس كمثله شيء كما قال سبحانه: {وهو السميع البصير}[الشورى:11]، وهو الله ذو القوة التي لا تبلغها قوة، والقدرة العالية فوق قدرة كل قدير، كل من خلق سبحانه من خليقته فهم مفطورون على معرفته بأبين معرفة، أنه ليس له نظير ولا صفة، كما يعرف الأطفال بإلهام الله إياها، بغير فهم ولا فكرة، بل بما ركب فيهم من غريزية الطباع والفطرة.
وكذلك يقال فيما قد اتفقت به الأخبار، وجاء في كثير من الآثار: (إن الملائكة والجن والإنس والبهائم كلها والأطفال، مفطورون على معرفة الصانع الإله البارئ ذي الجلال والإكرام) فللملائكة في المعرفة به وبجلاله وعظمته، أفضل مما للجن والإنس، والبهائم في معرفتها بربوبيته خلاف معرفة ذوي العقول المكلفين، وهي معرفة طباع وولوه غريزية، لا كمعرفة ذوي العقول الناطقين، وكل بني آدم من أهل الإيمان والمشركين، فيثبتون الله صانعهم وصانع كل جميع ما يرون، لا يشكون في ذلك جحودا لصانعهم ولا يمترون، وإن ضلوا بعبادة الأوثان، وقد ذكر الله ذلك عن مشركي أهل الجاهلية في آي من القرآن إذ يقول سبحانه:{ ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن الله}[ لقمان: 25]وقال: {وإذا مسكم الضر في البحر ضل من تدعون إلا إياه فلما نجاكم إلى البر أعرضتم وكان الإنسان كفورا}[الإسراء: 67]، فهو الله الأول قبل كل أول، وهو الله الآخر الباقي بعد كل ما خلق وجعل، وهو الله المعروف الظاهر في فطرة العقول بأيقن الإيقان، وهو الله الباطن الخفي عن درك العيون، كما قال سبحانه: {هو الأول والآخر والظاهر والباطن وهو بكل شيء عليم} [الحديد: 3].
صفحة ٢١
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الحي القيوم ذي العظمة والجلال، الذي لم يزل ولا شيء غيره ولا يزال، كان قبل كل خلق وزمان، ولا يزال إلى غير غاية ولا ميقات أوان، لا يتبدل ولا يتغير، ولا يلم به عرض من الأعراض فيتحول، جل عن ذلك وتقدس من ليس له نظير ولا مثيل، فاطر كل موجود، وليس محيط به شيء من الأشياء، جل وعلا عن صفة المحدود، ذو البقاء والثبات والدوام، لا تجري عليه ولا تناله ساعات الليالي والأيام.
وكيف يجري عليه أو يحيط به، من ليس بينه وبينه مشابهة ولا صلة، وما هو سبحانه خلقه وصنعه، ولم يزل متقدما قبله، وإذ الليالي والأيام وما مضى وبقي من الزمان، عدد حركات الفلك ودور الشمس والقمر والنهار علامته ظهور الشمس، وجريها في السماء فوق الأرض، ووجودها. والليل فعلامته تغيب الشمس تحت الأرض وفقدها، والشهر فهو قطع القمر للفلك ونزوله في جميع بروجه، فإذا أتى على بروجه كلها بسيره وجريه ودوره فذلك شهر.
والسنة:هي نزول الشمس ودورها على جميع منازلها من الفلك، فإذا نزلت في جميع منازل البروج وقطعت الفلك فذلك سنة، وبدور هذه النجوم وبالسنة والشهر والليلة واليوم، يدبر الله سبحانه ما خلق.
صفحة ٢٢
والزمان: فهو عدد حركات جري الشمس والقمر والفلك، وهذا العدد وقته حساب القمر الذي وقته الله للإنسان وغير الإنسان، قال الله سبحانه: {وما يعمر من معمر ولا ينقص من عمره إلا في كتاب إن ذلك على الله يسير} [فاطر: 11].
والكتاب هاهنا فهو: العلم من الله بما يعطي خلقه ويهب لهم من الأعمار، فيكون معلوما عنده علما لا يتغير.
فشبهه الكتاب يثبت ثبات ما لا زيادة فيه ولا نقصان، كثبات ما رقم بالخط من الحساب، تمثيلا من الله سبحانه لبيان علمه بما كتب، فهو في اللسان العربي لا يحتمل غلطا ولا زيادة ولا نقصانا بعد تصحيحه ورقمه، ولا يتوهم من يعقل أن الكتاب هاهنا خط من الخطوط، بل هو الأمر الثابت في علم الله وحكمته، وقال تعالى: {الشمس والقمر بحسبان} [الرحمن:5]يريد بالحسبان: الحساب، فليس شيء مما خلق الله تبارك وتعالى في الأرض ولا في السماء إلا وهو يجري عليه الزمان من الإنسان وغير الإنسان، غير أن السماوات من المخلوقات هي أبعد في الضعف والبلاء والآفات، لأن السماء أكرم بنية من الأرض، وهكذا فضل الله بعض الخلق على بعض.
صفحة ٢٣
وكذلك ما في الأرض أوهى(يابني): وأضعف مما في السماء السفلاء، وما في السماء من نجومها وملائكتها أقوى وأبقى بتبقية الله مما في الأرض السفلاء من الإنسان وغير الإنسان، قال الله تبارك وتعالى وهو يصف ضعف الإنسان وبدء خلقه، ثم قوته في أوسط عمره، ورجوعه إلى الضعف والبلاء في آخر مدته وأيامه {الله الذي خلقكم من ضعف ثم جعل من بعد ضعف قوة ثم جعل من بعد قوة ضعفا وشيبة يخلق ما يشاء} [الروم: 54] فسبحان خالق الأرض والسماء، الذي ليس لغيره دوام ولا بقاء، كل ما سواه فإلى زوال وفناء، هو معمر المعمرين، ومفني من مات وهلك من الميتين، لا تجري عليه سبحانه مدد الأزمنة والدهور، وهو مدبر الخلق والأمور، وإليه المنقلب والمعاد والمصير.
صفحة ٢٤
وبعد يابني وولدي: فهذه وصيتي لكم واختياري، حين كبرت سني وجربت الأمور وأدبر عمري، وأشرفت على الرجوع إلى صانعي وإلهي وخالقي، وخفت أن يحول الموت الذي لا بد منه لكل مخلوق بيني وبينكم، فتبقوا أغمارا جهلاء بما فيه رشدكم، وألا تجدوا بعدي من يفهمكم ما فيه صلاحكم، في أموركم ومعايشكم، لما سترون من اختلاف أخبار الناس عليكم في الأديان، ومصالح المعاش والآداب، وأخبار البلدان، واختلاف الناس في هذا كله قليله وكثيره إنما هو باتباع أهوائهم، واختلاف عقولهم وآرائهم، وما قبلوا من غي أو رشاد أو خطأ، والخطأ الغالب عليهم من آبائهم، إذ حقت الفرقة لكم بالوفاة، وأن تبقوا بعدي بين قرابة وعامة أكثرهم جفاة، وكنتم أحداث الأسنان، لم تخبروا حوادث الدهر والزمان، ولم تفهموا أمور الناس واختلافهم في الأديان، ولا كيف التأني في المعائش ومصالح الإنسان، وما يحسن من الأمور والأخلاق، ومواضع البلغ والإرفاق.
فرأيت يابني إن أضع لكم إن أبقاكم الله ما تحتاجون أعظم الحاجة في أصول الدين طرفا، وأن أرسم لكم الصواب إن شاء الله تعالى، وبعون الله وهدايته، في أمر معايشكم والإختيار لكم، ولمن لعل الله أن يهبكموه من نسل بعدكم.
ومن قبل وصيتي من ولد جدكم القاسم بن إبراهيم رحمة الله عليه يزول به عنكم شكوك الحيرة، وتكفون به إن شاء الله في الإختيار والإعتبار، والإعتبار طول الأمد في التجارب والخبرة ولم أضع لكم ما وضعت من وصيتي إياكم في هذا الكتاب إلا بعد طلوعي في العمر على الستين سنة.
صفحة ٢٥
[خبرته عليه السلام بالبلدان وطبائع أهلها]
وبعد والحمد لله ما أحطت بكثير مما لا يستغنى عن خبرته من أمر الدين والدنيا، حتى أتيت فيه على أكثر ما يحتاج إليه في البحث والخبرة، وبعد أن نظرت في كثير من علم العرب، وكثير من علم العجم، وبعد أن خبرت بالمحاضرة وتخبرت بالمسألة أخبار كثير من البلدان والأمم، فمن الأمم من خبرته بالمشاهدة والمعاينة والمجاورة والمساكنة، ومنهم من تخبرت عنه من يخبره ممن يجاوره ويساكنه ممن أثق بخبره وفهمه وصدق حديثه، حتى كأني رأيتهم في بلدانهم، وكأني عاينت جميع أمورهم وشأنهم، ومن البلدان ما رأيته عيانا، وسكنته زمانا.
فأما الذين فهمت شأنهم وأديانهم وآدابهم وأخلاقهم، فالعرب من اليمن ومن نزار، الأبرار منهم والفجار، والفرس، وأهل خراسان، والسند، والروم، والسودان، فهؤلاء الأجناس والعرب منهم قد خبرتهم في بلدانهم وأوطانهم، وفهمت ما هم عليه من مذاهبهم وأخلاقهم، فأما من سميت من أجناس العجم، فقد خبرت بعضهم في بلدانهم، وفهمت كثيرا مما هم عليه في أرضهم من شأنهم.
صفحة ٢٦
فمما سكنت وخبرت وتخبرت من أرض العجم، العراق أقمت به سنين ببغداد والبصرة حينا وزمانا، ودخلت الأهواز ورأيت أهل كور كثيرة من أهل خراسان، وفهمت برؤيتهم والأخبار عنهم ما هم عليه أو أكثره في بلدانهم من الأخلاق والشأن، ودخلت بعض أرض السودان من البجة، وطرفا من مواضع الحبش.
وأما المغرب والبربر والتحرير([2]) والبحرين فإن أبي رحمه الله كان قد أقام بمواضع من أرض المغرب دهرا، وسار إلى أقصاها أشهرا.
(والشام) وغيرها من بلدان الإسلام، فقد بحثت عنها بحثا شافيا حتى كنت بالإستخبار عنها، وبالفتش والعناية وما كان لأبي عنها من الإختبار، فصرت عن معاينتها مستغنيا مكتفيا، ولو كانت الخبرة والعلم في الأمور والبلدان لا يكتفى فيها بصحيح الخبر والإستغناء في فهمها إلا بالعيان؛ لما فهم أحد ما لم يعاين، ولا كان له بغائب إيقان، ولكثرة الأمم وبلدان العرب والعجم عن أن تدرك بالعيان وتفهم، ولكن كل غائب يثبت عنه صحيح الخبر، فذلك يشفي فيه ويدرك به منه مثل ما يدرك بالمعاينة والنظر.
صفحة ٢٧
ولو لم يكن ما ذكرنا يدرك ويفهم إلا بالعيان؛ لقصر عن ذلك أطول عمر الإنسان وسأنبئكم إن شاء الله تعالى عن كثير مما صح عندي من أخبار الأمم وشأنها وأخبار كثيرة مجملة من أخبار بلدانها، إذا جاء وقت الإخبار عنه في مواضعه ([3])، فتمسكوا إن شاء الله بفهم ما أخبركم به، فإن في ذلك كفاية لكم كافية، وخبرة قد كفيتكم تحصيلها شافية، فلست آلوكم تحصيلا لصحيح الأخبار، وما لم يدرك مثله أو بعضه إلا بعد إختلاف أخبار الناس أو بعد عمر طويل وأعمار.
فتفهموا إن شاء الله ولا قوة إلا بالله ما سأبينه لكم، والتوفيق والمعونة من عند الله، تستغنوا بتحصيل ما حصلت لكم من الخبر، عن انتظار التجارب التي لا يحصل لكم منها يقين الفهم إلا بعد طول العمر.
وأنا سأضرب لكم مثلا جامعا في قبول ما كفاكم الله خبرته حتى جمعته لكم في آخر عمري معا، وذلك من المثل في وفيكم، وفيما ألقيه من محصول حقائق الأخبار في الدين والدنيا إليكم.
صفحة ٢٨
(مثل): رجل كان له ولد([4]) صغار جهال أغمار، يحتاجون إلى خبرة الأمور في الدين والدنيا كثيرة واختبارهم لذلك يسلب بينه وبينهم مسافة بعيدة مسيرتها ستون سنة، وكان أبوهم قد أخبرهم خبرها، ودخلها وعاين أكثرها فأخبرهم عنها، وهو والدهم الذي لا شك في نصحه لهم، وعطفه بالرأفة والرحمة والرقة عليهم، فرأى أن يفهمهم ما يحتاجون إلى فهمه، لما خشي أن لا يبلغوه ولا يحيطوا فيه بمثل اختباره وعلمه، فشرح خبر تلك البلاد لهم، وعلم أن ما أحاط هو به مما يحتاجون إليه ولا يستغنون عنه، لن يدركوه إلا في آخر أعمارهم التي شبهها بمسافة البلد.
والبلد فمثل الأمور التي لا يستغنون عن خبرتها ولا يستغني عنها أحد، لأني لم أفهم الأمور التي سأشرحها لكم إلا بعد طول التعمير، والمسافة إلى الإحاطة بالتجارب التي لم أدركها إلا بعد التمييز من الفهم والنظر ستين سنة أو نحوها.
فإنكم إن لم تكتفوا بما أخبرت وجربت وأردتم إختبار ذلك لأنفسكم، لم تفهموا منه بعض ما فهمت إلا بعد أن تعمروا شبيها مما عمرت عند إخلاق جدتكم إن الله عمركم وأخركم، وحينئذ لا يبقى إلا اليسير من أعماركم، فمن كان منكم عقله صحيحا، يثبت ما في الأصل فسيعلم إن شاء الله أني لم آله إلا رحمة له من الغلط نظرا ونصحا، بل لعلي أن أكون بسبقي لكم أقوى منكم فهما، وأحسن تفقدا للأمور وتفهما، والله أسأل أن يهبكم ألبابا وعقولا وعلما.
صفحة ٢٩
فخذوا يابني ما قد كفاكم الله به اختباره، واقبلوه وأقروه في العمل به من قلوبكم قراره، والله أسأل لكم العون والرشاد، والتوفيق في أمور دينكم ودنياكم للصواب والسداد، فإنه لا يجتهد لكم قريب ولا بعيد من بعدي في النصح لكم والنظر والشفقة عليكم من الغلط إجتهادي، والله أسأل لي ولكم العون بالرشد والتوفيق، ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، عليه توكلت وهو رب العرش الكريم، وصلى الله على محمد عبده ورسوله، وعلى الأبرار من ذريته وآله.
صفحة ٣٠
فأول: ما أنا قائل لكم، وشاهد به معكم وقبلكم، أن الله ربي وربكم، وخالقي وخالقكم ربنا ورب آبائنا الأولين، وأنه خالق السماوات والأرضين وما بينهما من الخلق أجمعين، الذي أحياني وأحياكم بعد أن لم نكن شيئا، وهو الذي يميتني ويميتكم سبحانه ولن يزال حيا، فأشهد وتشهدون ألا رب ولا إله غيره وأن إليه منقلبي ومنقلبكم، ومعادنا ومعاد كل مخلوق ومصيره، وأنه إلهنا الذي خلقنا وبرأنا وخلق قبلنا أمهاتنا وآبائنا، فعطفهم بالرأفة والرحمة علينا، فمن إحسانه ونعمه ونعم الآباء وإحسانهم إلينا، وأشهد وتشهدون معا، أحياء وعند الوفاة ويوم النشور أن محمدا رسول الله وخيرته ومصطفاه، وأنه قد بلغ رسالات ربه، وصدع مجتهدا صابرا مجاهدا بتبليغ ما أمر به فلم يقصر في شيء من أمر الله وطاعته ولم يزل مجتهدا مجدا في الله طول حياته، حتى صار إلى الله راضيا مرضيا، مقدسا رفيعا عند الله زكيا، صلى الله عليه وعلى آله وسلم تسليما، وزاده الله من زيادات كرماته تشريفا وتعظيما، وأشهد وتشهدون أن إلى الله المنقلب والمصير، وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور.
صفحة ٣١
[وصيته عليه السلام في توحيد الله وطاعته ]
صفحة ٣٢
فأول ما أنا موصيكم به حب الله وتقواه وطاعة خالقكم وبارئكم، الذي صنعكم وفطركم، وصوركم فأحسن صوركم ، خلقا من بعد خلق في ظلم الأرحام، كما قال الله سبحانه وتعالى وهو يخبر عن خلق الإنسان: {ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين(12)ثم جعلناه نطفة في قرار مكين(13)ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا ءاخر فتبارك الله أحسن الخالقين(14)} [المؤمنون: 1214] فهكذا كما قال تبارك وتعالى أنشأكم وقدركم، وفي هذه التارات والطبقات من التصوير نقلكم وصوركم، فهو أولى بكم من آبائكم وأمهاتكم، إذ ليس للوالدين فيكم حجة غير الحركة التي كانت بها النطفة في الرحم، ثم كان سبحانه هو الذي دبرها وصرفها وبلغها، حتى أتم من خلقه ما أراد أن يتم، رأفة ورحمة وجودا وكرما، فوهبكم لآبائكم، وابتداؤكم بخلقكم من غير حاجة منه إليكم، بل لما أراد من الإفضال والجود عليكم، ثم لم تزالوا تقلبون في نعمه وفضله، وعطاياه وكرمه، صغارا وكبارا، ليلا ونهارا، ومع كل نفس وطرفة عين، يعرفكم سبحانه في أول ما ذكرنا وآخره، أنه ربكم ومالككم، ومدبركم ورازقكم، إذ ليس من نعمة أنعمها أب وأم عليكم إلا وهي منه، لا صنع فيها لصانع ولا لوالد، غير أنه أجرى ذلك على يدي الوالدين وأوصله إليكم، والذي أوصل إليكم بالوالدين من النعم فنعمه فيما ظهر وبطن أكثر من ذلك أضعافا وأعظم، إذ هي مع كل نفس ولمحة عين وطرفة، وفي كل نوم وهدوء، وعند كل سكون وحركة ونعمة، كما قال تبارك وتعالى أكبر وأوفر وأدوم من أن تعد وتحصى، قال الله سبحانه: {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها إن الإنسان لظلوم كفار} [إبراهيم: 34]وقال: {ياأيها الإنسان ما غرك بربك الكريم الذي خلقك فسواك فعدلك في أي صورة ما شاء ركبك} [الإنفطار: 6 8 ]وقال جل وتقدس {قتل الإنسان ما أكفره(17)من أي شيء خلقه(18)من نطفة خلقه فقدره(19)ثم السبيل يسره(20)ثم أماته فأقبره(21)ثم إذا شاء أنشره(22)كلا لما يقض ما أمره(23)} [عبس: 17 23] فذكر نعمة الصنع الأولى التي ابتدأ بها الإنسان طولا منه وامتنانا، وتفضلا من خلقه له وصنعه إياه، ثم ثنى بذكر النعمة في طعامه الذي به غذاءه، ومنه مادته وبه أدامه وأبقاه، فقال تبارك وتعالى: {فلينظر الإنسان إلى طعامه(24)أنا صببنا الماء صبا(25)ثم شققنا الأرض شقا(26)فأنبتنا فيها حبا(27)وعنبا وقضبا(28)وزيتونا ونخلا(29)وحدائق غلبا(30)وفاكهة وأبا(31)متاعا لكم ولأنعامكم(32)} [عبس: 24 32] يعني سبحانه بلغة لكم في الغذاء الذي به دوامكم في هذه الدنيا وبقاؤكم، وبلغة لأنعامكم، إذ ما أنزله من السماء فصبه صبا هو الذي أنبت به ما ذكر أنه شق الأرض عنه شقا من الحب والعنب.
صفحة ٣٣
والحب: فهو الحبوب كلها، المتغذى بها من البر وغيره من الحبوب التي أنبتها للعباد وكثرها، وبثها في البلاد، فلم يجعلها للمطيعين دون العاصين، بل من بها على البشر كلهم أجمعين.
والقضب: فهو القضب المعروف الذي أنبته الله في الأرض كلها، وجعله غذاء ومتعة لدواب أهلها.
والزيتون: فهو شجر الزيت الذي به يأتدمون.
والنخل: فمنه الرطب والتمر الذي يأكلون.
وحدائق غلبا: والحدائق هي الأرضون التي تضم الأشجار كلها، التي جعل الله لبني آدم منافعها.
والغلب: من الحدائق فهي الملتفة العامرة القوية التي قد استغلبت واغلولبت، فهي غلب قد تمت والتلفت وكملت.
والأب: فهو الأصول التي جعلها الله للبهائم والمواشي نابتة عند المطر وبعده، وفي أوقات الجدب من الأشجار النابتة والأصول القوية الثابتة التي بها قوام دوابهم وبهائمهم التي خولهم الله إياها وجعلها قوام معائشهم.
فمن أولى يابني أن يشكر أبدا، ويطاع في كل ما به أمر ممن أنشأنا وأنشأكم، وخلقنا وخلقكم فصور، وعدل وركب الأبدان فسوى وقدر، وأحكم كلما خلق غاية الإحكام بحكمته في جميع ما بطن وظهر ؟.
صفحة ٣٤
فهو سبحانه أولى وأحق بنا من الآباء والأمهات؛ لأنه الصانع لنا المصور المنعم علينا بجميع النعم الظاهرات والخفيات.
فأين وإلى أين المعدل عن إعظامه وإجلاله وشكره، فياويل لمن غفل عن اتباع ما أمر، والانتهاء عما نهى، فنهانا عما لا يرضاه، وأمرنا بأداء ما يرضيه فلهى، ساهيا عما يحق ويحب من تسبيحه، وخشيته وذكره.
فعليكم يابني أبدا ما بقيتم، وما بلغته قوتكم وما استطعتم باستشعار حبه، والكلف بذكره في باطن ضمائركم، وخوفه ورهبته في علانيتكم وخفي سرائركم، وأن يكون حياؤكم منه أكثر من حيائكم من أمهاتكم وآبائكم، ومحبتكم له أعظم أضعافا لا يؤتى على عددها من محبتكم لأولادكم وأحبابكم.
فمن ذا وأين ذا الذي هو أولى بكم ومن جميع الخلق بالتقوى والطاعة، والمودة والحب من الله الإله البر الرؤوف الرب الكريم، الذي يحتمل منا مالا يحتمله أباؤنا البررة، ويحلم عنا مع وجوب عظيم حقه علينا فيما نفرط فيه من طاعته وإغفالنا ذكره، ولولا فضله وحلمه ورأفته وكرمه، لما حلم عنا ولا أخرنا طرفة عين، إذ خالفناه وعصيناه فيما عنه نهانا وبه أمرنا.
صفحة ٣٥
فابدؤا يابني بطاعته وتقواه يكف الله بطاعته وخشيته كل من
يطيعه منكم ويخشاه جميع ما يهمه منكم من أمر آخرته ودنياه، فقد رأيتم كيف كرم الله ورحمته، ولطفه وإحسانه ورأفته بجميع خلقه، مع معاصيهم وظلمهم لأنفسهم، بإغفال عظيم ما يجب عليهم من واجب حقه، لا يقطع بذلك عنهم ما يتصل بهم ليلا ونهارا من عطايا نعمه ورزقه، فاتقوا الله ربكم وبارئكم، ذا الإحسان والنعم عليكم، معطي جميع النعم دقيقها وجليلها والخيرات كلها، عباده وخلقه من أهل الأرض والسماوات، فلله سبحانه الدنيا والآخرة، ومنه تعالى النعم فمنها الظاهرة والباطنة، فاتقوا الله فالوصية لكم يابني أفضل وأجزل من كل نفيس وعظيم من العطية.
[معنى التقوى ]
فتقوى الله يابني فهي: الانتهاء عن كل ما حرم الله من جميع المعصية، وطاعته، والمصير إليها، والإيثار لها والصبر عليها، والنجاة في الدنيا والآخرة لها من كل عظيمة وبلية.
صفحة ٣٦
ألا ترون يابني كيف يقول الله سبحانه لرسوله وهو يذكر ما الرسول عليه من طاعته وحبه، فأمره أن يقول عنه تعالى لأتباعه أصحابه فيما كانوا يزعمون أنهم عليه من حب الله، فقال الله لنبيه: {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم} [آل عمران: 31] ثم أخبرهم بالذي يتبعونه عليه، وما الحب لله الذي أمرهم به، فقال: {قل أطيعوا الله والرسول}[آل عمران:32] فخبرهم تقدس ذكره أن من لم يطعه ويطع الرسول فقد كفر، وأنه لا يحب إلا المطيع له ولرسوله.
يبين ما ذكرت لكم في آخر قول الله سبحانه هاهنا فآخره موصول منه سبحانه في هذا الأمر بما قبله من القول، بين فيه أن الحب له طاعته وطاعة رسوله، ثم قال سبحانه: {فإن تولوا}[آل عمران:32] يعني سبحانه فإن أعرضتم وتوليتم عن طاعتي وطاعة رسولي التي بها أمرتم {فإن الله لا يحب الكافرين}[آل عمران:32].
فعليكم يابني: بطاعة الله وتقواه، وبغض وعداوة من عصاه، فتنجوا بإذن الله يابني بطاعة الله من كل بلاء وشر، وتظفرون بالفوز والملك الباقي الأكبر، من ثواب الله لمن أحبه الله بالطاعة، وتنجوا يابني بتقواه من عذاب النار والخلد فيها، الذي حل بأهل المعصية ومن يتهاون بأمر الله فعصاه وخالفه.
صفحة ٣٧
فحرموا على أنفسكم في أيامكم القصيرة ومدة حياتكم اليسيرة ما
حرم الله، واتقوه بالانتهاء عن معاصيه وعظائمها وكبائرها التي عظم، فإنه لم يحرم سبحانه إلا خبيثا قبيحا، كتحريمه لحم الخنزير والميتة وحرم الدم المسفوح، فأي خبيث أو ممقوت منتن غثيث، أخبث من الميتة والدم المنتن المسفوح، وكذلك ما حرم من الخنزير لنتنه وقبحه، فهو أقبح من كل مقبوح، وقد عوض بتحريم لحم الخنزير والميتة والدم، إحلال ما لا يحصى من لحوم الطير والدواب والبهائم.
[وصيته عليه السلام في ترك الزنا]
وحرم سبحانه الزنا فإن الزنا يابني عند الله من أكبر الكبائر وأعظم الفحشاء، لما في ذلك من فساد الأنساب وخراب الدنيا، والدخل في الأولاد والأرحام، وبطلان ما حكم الله به في ذلك من الأحكام، فليس في الزنا إربة في شهوة إلا وفي النكاح أفضل منها، بل في الزنا أعظم المعصية في مواقعة الفاحشة العظمى الكبيرة التي أكد الله النهي عنها، وإنما يزني الزاني بمرأة من النساء قد أحل الله بالنكاح أجمل منها جمالا، وأفضل منها حالا، وأكمل فيما يتوق إليه الرجل من المرأة كمالا.
فلولم يحرم الله الزنا في كتبه جميعا، لكان في المعقول أنه لا يجوز ولا يحسن ولا يصلح في معقول جميع البشر كلهم معا أن يأتي فاسق ظالم متعد في حرمة غيره ما يكره أنه يؤتى إليه في امرأته وحرمته.
صفحة ٣٨
كيف وقد حرم الله الزنا في جميع كتبه وأحكامه، وحرمته جميع رسله، فالحذر له الحذر فإنه من أعظم ما نهى الله عنه وزجر، والبعد منه البعد في الكبير والصغير، فإن الله وله الحمد قد عصم أباكم منه صغيرا وكبيرا، فلم يأت ولله المنة عليه في ذلك زنا قط جهرة ولا سرا.
قال الله تبارك وتعالى في الزنا وتحريمه، والنهي عنه وتعظيمه: {ولا تقربوا الزنا إنه كان فاحشة وساء سبيلا} [الإسراء:32] وقرن الزنا بالكبائر والفواحش العظام الكبار، ووعد عليه وعليها الخلود في عذاب النار، فقال في الزنا، وفيما وعد من العذاب عليه وعليها، وقرنه بالشرك وعبادة الأصنام وقتل النفس التى نهى الله عنها الحرام، وهو يصف حال من نجى من عذاب النار، من أوليائه وأهل طاعته الأبرار، وأن صفتهم وما به نجاهم الانتهاء عن هذه المعاصي العظائم الكبار، فقال: {والذين لا يدعون مع الله إلها ءاخر ولا يقتلون النفس التي حرم الله إلا بالحق ولا يزنون ومن يفعل ذلك يلق أثاما يضاعف له العذاب يوم القيامة ويخلد فيه مهانا} [الفرقان: 69] فحرم الله قتل النفس إلا بالحق، وحرم قتلها ظلما، وأحله إذا كان المقتول كافرا ظالما، ولم يحل الزنا في فقر ولا غنى، ولا أباحه قط سرا ولا علنا.
صفحة ٣٩