أفكاري تتطاير بعشوائية، وعقلي يهدر كجهاز بروجكتور قديم يرمي الضوء على سطح شاشة التلفزيون المظلمة أمامي، أشاهد انعكاس أفكاري على سطحها اللامع، كأنني جالس في إحدى دور السينما الريفية، فلا ينقصني إلا بعض الجمهور الذي يصرخ محتجا، ويسب والدة عامل العرض عند حذف اللقطات الإباحية.
الإطارات المحترقة، لافتات تندد بالوضع الاقتصادي وتدعو للثورة، دخان القنابل المسيلة للدموع. «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.» «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
يدوي صوت الرصاصة، فيسقط ذلك الشاب اليافع، والدماء تقطر من شعره، أحدهم يتوقف عن الجري، وينحني في لهفة ليحمله، فتصيبه رصاصة أخرى ليسقط ميتا فوق صديقه. «إنها ثورة الشواذ والعاهرات.» «عمار!» «عمار!»
هل ما زالوا يتحدثون عن الرخاء والناس جوعى؟
عن الأمن والناس في ذعر؟
وعن صلاح الأحوال والبلد خراب؟ «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.» «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
ينتشر دخان قنبلة الغاز في ضاحية بري، ومن لا مكان تظهر مدرعات الأمن فجأة أمامهم، ثم يدوي الرصاص بكثافة في اتجاههم، تتفرق الحشود في الحي المجاور، يحاول أن يركض في اتجاه ذلك المنزل، يشعر بالوهن ثم تخذله قدماه ويتهاوى على الأرض والدماء تتفجر من صدره وتغمر قميصه، ينحني أحد أصدقائه فوقه بسرعة، ويخلع قميصه، ويكومه على صدره محاولا وقف النزيف، وهو يهتف بطريقة هستيرية طالبا المساعدة، يرتعش أصبعه للحظات، وترتجف شفتاه، وهو يحاول قول شيء ما، ثم تهمد حركته بينما الدماء تسيل على الأرض في غزارة.
لا يعرفون أنه سيكون أحد أيقونات الثورة فيما بعد.
هل السماء ما تزال صافية فوق أرض السودان، أم أنهم حجبوها بالأكاذيب؟ «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.» «حرية سلام وعدالة، الثورة خيار الشعب.»
الجثة تخرج من ثلاجة المشرحة وقد غطي جسده بملاءة بيضاء ما عدا وجهه، لوهله اعتقدت أنه يشعر بالبرد، لكنه لا يستطيع أن ينطق. أريد أن أخبر الطبيب أن يتركه في الخارج قليلا. «استغفروا لأخيكم، وسلوا له التثبيت، فإنه الآن يسأل.»
صفحة غير معروفة