راح يتمطى، وهو يلوك تلك الأشياء الغامضة التي يلوكها كل من يصحو من النوم. اليوم أول أيام الجامعة.
جامعة الخرطوم الجميلة المستحيلة، كما يسميها أبناؤها. كانت الدراسة فيها حلما بعيد المنال بالنسبة له في فترة من الفترات، والآن أضحت واقعا غير قابل للتصديق.
فمنذ أن انتقل إلى الخرطوم - منذ حوالي الشهر - وظل في هذا السكن الداخلي الخاص بالطلاب، وهو يكرس كل جهده لشيء واحد، أن يدرس بجد ويتخرج بتقدير عال حتى يستطيع بناء حياته العملية لاحقا.
كنت تعلمين بالتأكيد يا سيدتي؛ فهو لم يكن من الشخصيات التي يمكنك وصفها بالاجتماعية، وطوال فترة وجوده بالسكن لم يعقد صداقات مع أي من الشباب المقيمين معه، فقد كان شخصا صموتا منعزلا، لا يريد شيئا في الدنيا إلا أن يترك لشأنه، لكن صداقة حميمة انعقدت أواصرها بسرعة بينه وبين «إبراهيم» منذ بداية انتقاله للمكان، عندما اقترح عليه الأخير الانضمام للميز الشهري الذي يقيمونه بالسكن، وهو مبلغ زهيد نوعا ما يتشارك الشباب في دفعه؛ لشراء مستلزمات الأكل بالجملة مرة في الشهر، ثم يتقاسمون الأدوار للطبخ فيما بعد. وقد أعجب هذا الاقتراح «عمار» أيما إعجاب، خاصة وأن قدرته المالية لم تكن تسمح له برفاهية الأكل الخارجي يوميا، فلم يكن لديه أسرة في ولايته التي قدم منها ترسل له مصروفا شهريا كبقية الطلبة، لكنه يمارس بعض الأعمال الهامشية، حتى يستطيع توفير بعض المال للدراسة وإيجار السكن، وما يتبقى - وهو قليل - يذهب تكاليف المعيشة. كان يعمل في أحد دكاكين تقطيع أكياس البلاستيك في السوق الشعبي بنظام اليومية، يدر عليه مبلغا لا بأس به يغطي احتياجاته الأساسية في اليوم. أحيانا يقوم بشراء كميات كبيرة من صاحب الدكان يبيعها له بسعر الجملة، ثم يقوم هو ببيعها لأصحاب البقالات في المنطقة بالتقطيع، لم يكن يربح الكثير، لكنه يتحصل على مبلغ إضافي يضعه في مكان جانبي؛ لتغطية رسوم التسجيل للجامعة أو الامتحانات أو أي طوارئ قد تحصل له . «إبراهيم» على النقيض منه، كان شخصا اجتماعيا لدرجة بعيدة، كثير الحركة والكلام والضحك، يعرف كل شخص في السكن بالاسم والتفاصيل الدقيقة. شخص حيوي متبسط في الحديث يندر أن تراه مستقرا في مكان واحد، ودائما ما تسبقه ضحكته المجلجلة المميزة التي اشتهر بها تدوي في أرجاء المكان.
عرف فيما بعد أن «إبراهيم» سيدرس معه في نفس الدفعة، برغم أنه يسبقه بعام في الكلية، لكنه أعاد العام الأول؛ لرسوبه في نصف المواد دفعة واحدة، وكاد أن يتعرض للفصل من الجامعة، لولا تدخل رئيس رابطة الطلاب الاتحاديين بالجامعة - التي كان هو عضوا فيها - وبعض الأجاويد، وفاعلي الخير، فتم قبول إعادته للعام الدراسي فقط. «إبراهيم» ينفي الحادثة جملة وتفصيلا، ويؤكد بعد القسم المغلظ أنها مؤامرة ضده من الهيئة التدريسية بالكلية؛ فقد اقتحم مكتب أحد أعضاء الهيئة التدريسية من قبل؛ للاستفسار عن شيء ما بخصوص الامتحان، ورأى بأم عينيه الدكتور الأشيب الوقور في وضع مخل مع إحدى الطالبات الجدد، وكاد أن يملأ الدنيا صراخا ويجمع الطلاب، لولا بكاء الطالبة وتذلل الدكتور له؛ حتى لا يثير فضيحة لا داعي لها. قال له إنه سيشتري صمته بأن يضمن له النجاح في كل المقررات طيلة سنوات دراسته؛ حتى يتخرج بالتقدير الذي يشاء.
صفقة جميلة وافق عليها بسرعة، وتصافحا، ثم خرج لحال سبيله. - «ابن اليهودية خدعني وغدر بي. كان يعرف أنني سأكون شوكة في حلقه؛ لذلك جعلني أعيد العام حتى يستفرد بها، لكنني لن أصمت، وليكونن انتقامي مريعا تتناقله الأجيال، وتحكيه الجدات في خوف لأحفادهن على ضوء القمر ليلا.»
لكن لا أحد يصدق «إبراهيم»؛ فروايته التي حكاها للكل - حتى عم الطاهر صاحب البقالة العجوز في ناصية الشارع - كانت تتغير كل يوم، بل تتغير في اليوم ذاته عدة مرات. فتارة يقول إنه رآهما عاريين في المكتب، وتارة أخرى وجدهما في سيارة الدكتور الخاصة، وأحيانا تتحول الطالبة إلى والدة إحدى الطلاب، ثم إحدى المدرسات بالهيئة التدريسية، ثم فتاة ليل ترتدي ملابس عارية مثيرة، وتحمل سوطا تضربه به، بل أحيانا ينسى كل هذا، ويقول إنه ضبطه متلبسا، وهو يمارس العادة السرية ويحملق في صورة إحدى مذيعات القنوات الفضائية، ويصرخ كالنساء من أثر اللذة.
يضيف ما يشاء من البهار بما يراه مثيرا يجذب انتباه المستمع، ويحذف ما يشاء مما يراه لا يخدم قصته أو يقلل من تشويقها، ثم يعيد صياغتها وتركيبها لتغدو رواية جديدة آخر النهار. وفي كل مرة يحلف أيمانا مغلظة بالله وملائكته ورسله والشيخ البرعي أنها الحقيقة، ولا شيء سواها.
لم يكن اليوم الأول في الجامعة كما تصوره «عمار»، وقد شعر بالإحباط عندما وجد أن الجامعة كانت شبه خالية، ولم يكن فيها سوى بعض الطلبة، قال لهم أحد أصدقاء «إبراهيم»، عندما التقوه في ساحة النشاط: إنه لن تكون هناك محاضرات حتى الأسبوع القادم. هكذا جلسا في الكافتيريا وطلبا بعض السندويتشات، ثم خرجا أمام بوابة الجامعة، وجلسا في صناديق البيبسي الفارغة بجوار «ميري» التي تبيع الشاي والقهوة.
قال «إبراهيم»: «بما إنك برلوم لسه، وده أول يوم حاكون أنا دليلك في الجامعة. أنصحك تمسك في طرف قميصي، عشان ما يخدعوك السناير، ويدخلوك استراحة البنات زي ما حصل مع حسن التعبان.»
صفحة غير معروفة