كان منزلا أرضيا عاديا كأغلب المنازل السودانية، مجموعة من الغرف المبنية بالطوب الأحمر، تتناثر على طول جدران المنزل، وحمام خارجي وحوش كبير في المنتصف.
كنا خمسة أشخاص، أنا و«عمار» و«محمود» طالب العلوم السياسية، وشاب آخر لا أعرفه، وبيننا شيخ كبير في السن، عرفت فيما بعد أنه أحد أعضاء حزب شهير من أحزاب المعارضة، اعتقلوه من أحد ميادين الخرطوم في مظاهرة أخرى، يبدو أنه أصيب فيها؛ فقد كان الدم الجاف يغطي نصف جلبابه العلوي، لكن هذا لم يمنعهم من ضربه بالخراطيش في رأسه وظهره بعنف، وهم يشتمونه بأشنع الألفاظ.
كان الجلادون يرتدون طواقي قطنية تغطي وجوههم ما عدا فتحة للعينين والفم، فلم نستطيع أن نميز منهم أحدا، أوقفونا في الحوش الخارجي، وطلبوا منا أن نقف ووجوهنا قبالة الحائط، وراحوا يضربوننا في ظهورنا بشكل عشوائي بما يتوفر في أيديهم من خراطيش وسيطان، وبعض العيدان الخشبية، مع سيل من الشتائم العنصرية والمهينة.
كانوا يضربوننا في غل.
يضربوننا في كراهية.
يضربوننا في حقد.
وبطرف عيني كنت أرى «عمار» يقف قبالة الحائط صامتا، وقد أغمض عينيه وهو يزم شفتيه في قوة، برغم كل هذا الضرب لم ينطق بحرف، برغم أننا كلنا كنا نصرخ ونتلوى، وقد أثار موقفه هذا حفيظة الجلادين فراحوا يخصونه بالضرب، ويتكالبون عليه دوننا، حتى إن بعضهم كان يشعر بالتعب فيتوقف قليلا، فيواصل الجلاد الآخر المهمة عنه.
أطلق الشيخ أنينا خافتا، ثم تهاوى على الأرض وفقد الوعي، فحملوه كالخراف وألقوه في جانب الحوش، ثم عادوا لضربنا.
بعد عشر دقائق - مرت كأنها دهور - توقف الضرب فجأة، وسمعت صوتا جهوريا خلفي: «ديل مالهم يا عسكري؟»
قال العسكري في احترام واضح من نبرة صوته: «قبضناهم في مظاهرات اليوم سعادتك، الداخلية موصية عليهم، كانوا راصدين تحركاتهم من فترة.»
صفحة غير معروفة